ترجمة: جودت جالي
بعد أن إنتحر والتر بنيامين (أو لتر بنيامين حسب اللفظ بالألمانية- المترجم) في العام 1940، وهو في الثامنة والأربعين من عمره، في قرية صغيرة بجبال البيرينيس، معتقداً أن فخ الجستابو قد إستحكم من حوله، حصل على إعتراف به متأخر ولكنه رفيع المستوى.
إن عمل هذا الفيلسوف البرليني الذي يصعب جمعه وتحريره، والمعروف بأنه عسير الفهم، يظل من وجهات نظر كثيرة حقل أنقاض، مع ذلك هو يغطي كنوزاً لا حصر لها، وقد إنتشل كتابان مهمان بعضاً من هذه الكنوز. فمن جانبٍ السيرةُ التي كرسها له (برونو تاكيلس) والمعنونة (والتر بنيامين.... حياة في النصوص)، ومن جانب آخر البحث الذي قامت به (آنتونيا بيرنباوم) والمعنون (سعادة عدالة. والتر بنيامين).
كلاهما يسمحان لنا بتناول أفضل لفكرٍ في غير زمنه بقدر ما هو عصي على النضوب، يروي، بقنوات سرية أحيانا، الجزء الأكثر حيوية من حداثتنا. لا يختزل تأثيره نفسه بحقل الفلسفة (خصوصاً من جانب دريدا)، وبالتأمل الجمالي (مقاله في “عمل الفن في فترة قابلية تكاثره التقني” يشكل مصداقاً) أو بالنظرية السياسية (مع كافكا كان المحلل الأكثر وضوحاً للأزمنة الكابوسية التي عاشها، ويبدو فكره بجلاء متنامٍ المعلن لما ننتظر). كذلك ألهم الفيلسوف الكثير من أشكال فنية مجددة_ فلنذكر آخر قرص لبيير إيف ماسي، المحير “وهو أستكشاف موسيقي لعالم والتر بنيامين_. لنثره ميزةُ جعلِ المهمة أكثر عسراً نوعاً ما. كذلك إتضح أنه أفضل رفيق للمصائب بالنسبة لكل مفكر. في دراسته السيرية الضخمة جدَّ برونو في تناول الأمور بالمعكوس: هو لا يؤول كتابات بنيامين من خلال الأحداث التي عاشها، ولكنه يعطي إنطباعاً أن هذا العمل بالذات بالنسبة الى مؤلفه هو وسيلة لمساءلة وجوده الخاص. الى درجة أن المجموع المتشظي لهذه النصوص “يجمل صورة شخصية ضخمة متصلة”. عمل- حياة يوازي ممراته الباريسية التي فتنت بنيامين، والتي تفتح أروقتُها مدخلاً الى مدينة مجهولة في قلب المدينة نفسها، عمل مصنوع من متشابهات مزيفة التشابه، ومن “مغاور عفريتية” حيث “تسود لعبة الغوامض الدائمة والدلالات المزدوجة”. إن المسعى الذي يسعاه برونو تاكيلس، في إهاب متسكعٍ بحاثةٍ فضولي، هو طريقة لإظهار إخلاصه للحقيقة المقرة الأساسية لفكر بنيامين “ إن حديثاً حياً لا يجد حقيقته إلا بعد موته”. بعيدا عن أن نخنق أنفسنا تحت الكدس الهائل الذي جمعته السيرة نشعر أن المجلد السميك ينفتح على قدر ما يمكنه ليفسح مجالا لهذه الحقيقة.
من المستحيل إختصار وجود كهذا في بضعة سطور، وجود ساكن المنفى، المحكوم عليه بالترحال لعدم قدرته على الثبات، ومن ثم، بسبب الوضع السياسي. رحل الى الشرق نحو موسكو لهوى في نفسه سياسي ونسائي معاً، والى الجنوب (الى إبزا و كابري) حيث عمل كثيرا وعب من الأفيون عباً، والى الشمال على السواحل النرويجية حيث وجد الشمس نادرة وحين تشرق فهي قاسية، ورحل خصوصاً الى الغرب لأن هواه الأكثر قوة كان يدفعه نحو باريس، وكان هوى قاتلاً.
إزاء جسامة مهمة الحديث عن بنيامين فإنه يتقدم كما كان يحب أن يعمل بنيامين، جامعا من هنا وهناك،و ملتقطاً بضعة أجزاء ربما أطلقت مقابلتها إلتئاماً غير متوقع، مولع باللعب (ولكنه يفقد في الكازينو كمال كيس نقوده المخصص للبحث)، رابطته مميزة جدا بالثيولوجيا وحكايات الأطفال. إن سيرته الذاتية مصممة كخريطة رئاسة أركان، يسرد لنا تاكيلس هذه الحياة كما يسرد قدراً، “الإنجراف البطيء نحو المحتوم” لرجل ينزل الى الجحيم، وهو يعرف، وعلى نحوٍ ما، هو الذي إختار هذا النزول.
الثورة والعدالة
ربما كان هذا الكتاب هو الذي أسبغ عليه هالة البطولة المأساوية، إذا ما قبلنا في الأقل تعريفه الخاص للمأساوي كالذي ناقشت أشكاليته آنتونيا بيرنباوم في كتاب مهم هو (سعادة عدالة. والتر بنيامين). هذه النظرية هي “شجرة شوك”، غير ملحوظة عموماً، مزروعة داخل أطروحة التأهيل التي كرسها بنيامين في (أصل الدراما الباروكية الألمانية) 1925.
تبين آنتونيا بيرنباوم أن هذا الكتاب المِنْصَبَّ على التراجيديا الإغريقية القديمة يحمل بذرة فكر الثورة والرغبة في العدالة التي، إضافة الى أنها “تؤطر” فلسفة بنيامين قياسا الى ما نعتقد أننا نعرف عنها، توفر أدوات لتعريف رهانات معارك حاضرنا السياسية.
إن عالم التراجيديا، برأي والتر بنيامين، هو العالم الذي تسود فيه قوة القدر العمياء، تنظمها آلهة قاسية، تحت شكل دورة الإنتقامات “العائلية” التي قدمت نموذجها مسرحية أسخيلوس “أورستي”. البطل فيها مدانٌ حتى قبل أن يُذنب، وذنبه حق عليه كجزء من قدره، وكفارته حياته، جريمة أن يكون قد ولد في هذه الدنيا. ولكن وجوده الذي يتمرد علىالآلهة ويؤجل الكفارة خلال مدة المسرحية، يرفض كليا أوامرها التعسفية، ثورة خرساء تحيلنا الى أستشعار فكرة عدالة يعجز عن التعبير عنها. إنها صرخة الإنسان الأخلاقية الأولى وهو لم يزل بعد في عصر طفولة البشرية، خارج كل معيار أو شرعنة واضحة، سوى أنها مأخوذة باليقين العنيد من أن تعاسة الإنسان ليست محتمة.
ولو سأل سائل ما الشكل الحديث للتراجيديا – تراجيديا مصنعة ومنتجة بنماذج متماثلة- فأن هذا الشكل هو ربما عدم ثبات أولئك الذين ليس لهم مكان يستقرون فيه و “يجدون أنفسهم داخل إثم حقيقة ظرفهم البسيطة، يعيشون تحت التهديد الدائم لمداهمة قوات حفظ النظام، ولا يملكون عونا سوى الحظ أو المصادفة للإفلات”. اليوم يتندر الناس في فرنسا بابدال المصاطب في محطات المترو بكراسٍ بلاستيكية مصممة بعناية بحيث يتعذر التمدد عليها: هنا القدر بنسخته الكارتونية المبتذلة.
يعرف بنيامين وجود البطل التراجيدي بوصفه “ العرض الفاني لجسدٍ دون كلامٍ يصبح مكاناً وموضعاً لإعلانٍ مستحيلٍ”. الأبطال في أيامنا هذه متعبون علناً. لكن مسؤولية هذا الإعلان إزاء أشكال القدر الحديثة وتعسفه (الذي نسميه الإقتصاد أو البوليس) هي المهمة التي أورثها لنا بنيامين.
*الكتاب: والتر بنيامين.... حياة في النصوص. المؤلف: برونو تاكليس.