وتفحصتها أُم رفعت…

وتفحصتها أُم رفعت…

إنعام كجه جي

حين إلتقيت، للمرة الأُولى، برفعت الجادرجي، المعماري العراقي المعروف، وبزوجته، لاحظت أنه كان يعلق على كتفه كيساً من القماش، قال إنه يحمله حيثما ذهبا لأن الزوجة تعاني من ألم في الظهر ولابد أن تسند ساقيها على دكّة خشبية مرتفعة قليلاً. ولما جلسنا في بهو “غراند أوتيل” في باريس، أخرج العتبة وانحنى ووضعها تحت قدميها. وظلت حكاية الدّكة عالقة في بالي. إن التعبير عن الحب أشكال وألوان. واستطردت في بالي، أن بلقيس شرارة، زوجته، تستحق هذا الحب وأكثر.

لم يكن مُقدراً لها أن تصبح كاتبة. لكنها، بعد الحادثة المؤلمة لغياب شقيقتها حياة شرارة، أُستاذة الأدب الروسي في جامعة بغداد، عام 1997، أمسكت القلم وكتبت مقدمة للرواية الحزينة التي كانت الراحلة قد سجلتها ونجحت في تهريبها إلى خارج العراق لتنشر بعنوان “وإذا الأيام أغسقت” وتفضح بعض المهازل التي كانت الجامعة مسرحا لها. ويبدو أن من يمسك القلم مرّة يشق عليه فراقه. وهكذا عادت بلقيس شرارة وتشاركت مع زوجها رفعة الجادرجي في تأليف “بين ظلمتين”. وهو كتاب نادر يروي، بصوتين، وقائع عشرين شهراً عاشها الزوج في السجن بتهمة ملفقة، وعاشتها الزوجة في غيابه وفي انتظار مواعيد الزيارة التي تجمعها به. إنها لا تكتفي بملاحظة انقطاع الأصدقاء، فجأة، عن زيارة بيتهم خشية الأعين الواشية، بل تتناول التفاصيل الإنسانية التي لا تلتقطها سوى عين الفنان الذكية والحساسة. كانت تتحايل لإيصال الأطعمة التي يحبها زوجها إليه في السجن، ومنها المثلجات بنكهة النعناع. أما هو فلم يكتب عن السجان بقدر ما كان مهتماً بنظافة الزنزانة وتحويل قماش البيجامات القديمة إلى مناديل للسفرة، له ولرفاقه السجناء وكأنهم يتناولون وجباتهم على مائدة فخمة. وبسبب عاداته الأنيقة، سرت في بغداد شائعة تفيد بأن طعام رفعة الجادرجي يأتيه بالطائرة من باريس إلى الزنزانة.

يسجل السياسيون، عادة، مذكرات سياسية. لكن بلقيس شرارة تنتبه لكتابة الوقائع الإجتماعية وتروي يوميات امرأة كان مقدراً لها أن تعيش في الظل لولا أنها ابنة محمد شرارة، الفتى اللبناني الذي قصد النجف، في العراق، ليدرس علوم الدين ويصبح شيخاً معمماً فإذا به يتبنى الأفكار اليسارية ويدخل بسببها السجن. وهو الذي كتب قبل ثمانين عاماً: “كان بلاء الشرق بعمائمه وقلانسه فكيف الآن وقد تحالفت الطرابيش والبرانيط معها وشكلت جوقاً موسيقياً واحداً؟”. وبالإضافة إلى شهرة والدها، فإن بلقيس شرارة هي كنّة كامل الجادرجي، النائب في البرلمان العراقي، أيام الحكم الملكي، وصاحب جريدة “صوت الأهالي” وأحد مؤسسي الحزب الوطني الديمقراطي. وقد اعتقلوا حماها عدة مرات حتى صار السجن فرداً من أفراد العائلة.

مذكراتها الصادرة، حديثاً، عن دار “المدى” بعنوان “هكذا مرت الأيام”، تمزج ما بين حياتها وبين ما مر به البلد من تحولات. إنه التاريخ الإجتماعي الذي يغيب عنا تدوينه فيمضي إلى النسيان مع أهله. وهي التفاصيل المعبرة ذاتها التي اختزنتها ذاكرة امرأة لبنانية الأصل، نجفية المولد والنشأة، بريطانية المغترب، عاشت ثمانين عاماً وكانت شاهدة على بغداد أيام توهجها ثم أيام غسقها. تكتب أن رفعة دعاها لزيارة بيتهم والتعرف على أبيه. وهي قد ترددت لأن والدها كان في السجن ولم تنته محكوميته بعد. لكن خطيبها وعدها بأن إعلان الخطبة رسمياً لن يتم قبل الإفراج عنه. وتذكر أنها لم تدخل من الباب الكبير للبيت بل من المدخل المخصص لضيوف كامل الجادرجي. وقد وجدته واقفاً قرب المدفأة، صافحها وأشار لها بالجلوس، ولم يسألها عن نفسها بل عن أحوال والدها وأوضاعه في السجن. ثم جاءت أُم رفعة وسلمت عليها وبقيت صامتة، تتأمل الفتاة التي اختارها ابنها وتتفحصها بدقة. فتاة يعود أصلها إلى بلد آخر وطائفة دينية مختلفة، كما أنها ليست ثرية ولا من الطبقة الحاكمة.

قدموا الشاي بأكواب من البورسلين المُذهب. وهناك من أضاف إليه الحليب. عادة لم تكن شائعة بين العراقيين إلا النخبة التي درست في الجامعات البريطانية أو تسافر لقضاء الصيف في أوروبا. وهي قد أمضت معهم ساعة ثم استأذنت للإنصراف واصطحبها رفعة وخرجا من بوابة الدار الرئيسة. إعتراف ضمني بقبولها فرداً في العائلة. وكان ذلك في مثل هذه الأيام من عام 1953.

عن الشرق الاوسط