في العشرينيات من القرن الماضي..وزارة المعارف والجامعة الامريكية في بيروت

في العشرينيات من القرن الماضي..وزارة المعارف والجامعة الامريكية في بيروت

د. منار عبد المجيد عبد الكريم

بذلت وزارة المعارف جهوداً مضنية من اجل تفعيل التعليم العالي في العراق، اذ اقترحت على مجلس الوزراء بتخصيص مبالغ مالية من اجل إرسال بعثات علمية للخارج. وقد وافق مجلس الوزراء بتاريخ 5 تموز 1921 على هذا الاقتراح، وفق شروط عدة،

أبرزها « اخذ سند وكفيل من كل طالب يرسل إلى الخارج على حساب الحكومة»، وان» يخدم الحكومة بحسب ما تقرره وزارة المعارف «، واذا ما خالف الطالب ذلك، يشترط عليه» أداء ما صرف عليه من قبل الحكومة». فضلاً عن، قيام وزارة المعارف بقطع « المساعدة» عن أي طالب يتهاون في تحصيله العلمي، وان يدفع الطالب «نصف» المصارف التي صرفتها الحكومة العراقية عليه. مع العلم، أن تكاليف طالب البعثة في بيروت كانت لا تزيد عن 7،5 دينار شهرياً في العام 1922 ثم أخذت تزداد سنوياً تبعاً لارتفاع مستوى المعيشة. ينبغي أن نشير هنا إلى، أن ميزانية وزارة المعارف كانت تبلغ 142,425 مائة واثنا واربعون الف دينار واربعمائة وخمسة وعشرين دينار من مجموع الميزانية العامة للدولة العراقية 4,436,065 اربعة ملايين واربعمائة وستة وثلاثين الف دينار وخمسة وستين دينار عام 1921 طبقاً للمعلومات التي وثقتها دراسة اعدت خصيصيا عن تاريخ التعليم في العراق في عهد الانتداب البريطاني.

وفي الواقع، أن الحكومة لم تقصر بتاتاً في دعم طلاب البعثات، فيكفي أن نشير إلى، أن ما صرفته الحكومة للبعثات العلمية عام 1941 قد بلغ 39,245,582 تسعة وثلاثون ألفاً ومائتان وخمسة وأربعون ديناراً وخمسمائة وأثنى وثمانون فلساً، كانت حصة الطلبة الدارسين في الجامعة الأمريكية بيروت تبلغ 11,093,496 احد عشر ألفاً وثلاثة وتسعون دينار وأربعمائة ومائة وتسعون فلساً طبقاً لما جاء في وثيقة رسمية. ويبدو، أن هذه التكاليف أخذت تشكل عبئاً ثقيلاً على ميزانية الدولة بسبب الآثــــــار السلبية التي تركتها الحرب العالمية الثانية(1939-1945) على البلدان عموماً، والعراق خصوصاً، الأمر الذي دفع وزارة المعارف الى «تقليص البعثات إلى الجامعات الأمريكية، وتوجيهها إلى الجامعات البريطانية» وذلك «لارتفاع تكاليف المعيشة في بلاد الدولار وانخفاضها في بلاد الإسترليني». فضلاً عن، «اعتدال التكاليف في بريطانيا»، و» لسمو الجو العلمي ومتانة الدراسة فيها». وكان من الأجدر، أن تقوم الحكومة العراقية بفتح جامعات أجنبية في داخل العراق أسوة بالجامعة الأمريكية في بيروت(موضوع دراستنا)، والجامعة الأمريكية في القاهرة، الأمر الذي كان يجنبها الكثير من التكاليف. فضلاً عن توفر المزيد من الوقت والجهد للطلبة. مع العلم، ان القيمين على الجامعة الأمريكية في بيروت كان لديهم رغبة أكيدة في تأسيس جامعة في ولايتي الموصل والبصرة، قبل تأسيس الدولة العراقية إلا أن السلطات العثمانية رفضت ذلك.

وقد جدد القيمون على الجامعة رغبتهم في تأسيس جامعة في العراق بعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921، إلا أن هذه الرغبة باءت بالفشل بسبب عدم تشجيع المسؤولين العراقيين بتحريض من ساطع الحصري، لأنه كان يعتقد أن تأسيس جامعة أمريكية في بغداد يعني» نشر الأساليب التربوية الأمريكية»، ومن ثم « القضاء على اللغة العربية». ولكن مع كل ذلك، ظلت رغبة تأسيس جامعة امريكية في العراق تراود اذهان المسؤولين العراقيين حتى السنوات الاخيرة من عمر النظام الملكي. لنتابع معا ماذا قال الخريج محمد فاضل الجمالي بهذا الخصوص:

«كان مشروعي المحبب هو انشاء جامعة اميريكية في العراق... وابدى نوري تأييده للفكرة. ولم يكن بأستطاعة وزارة الخارجية ان تجد الطريقة والوسائل اللازمتين لانشاء مثل هذه المؤسسة، ولم يتحقق المشروع على الاطلاق. وانا واثق بأن هذا النوع من الجامعات يمكن ان يكون جسرا بين امريكا والعراق ويخدم مصالحهما اكثر...».

وعلى الرغم من كل المواقف الرافضة، سواء كانت على الصعيد الرسمي، أو على الصعيد الاجتماعي، إلا أن الصحافة العراقية ظلت تدعو العوائل العراقية بتشجيع أبنائها للدراسة في الجامعة الأمريكية في القاهرة بدلاً عن بيروت، كون القاهرة تمثل» بيئة أسلامية»، في حين تمثل بيئة بيروت « بيئة مسيحية». فقد خصصت جريدة « العراق» مكاناً بارزاً في أحدى صفحاتها للتعريف بالجامعة الأمريكية في القاهرة بأنها « تتميز بمحيط ذي ثقافة عربية حديثة عالية».

ظلت الحكومة العراقية ترسل طلبتها الى الجامعة الامريكية في بيروت بدلا من الجامعة الامريكية في القاهرة وذلك لان بيروت «اقرب» الى العراق من القاهرة. فضلا عن، انها»ارخص» قياسا للدول الاوربية الاخرى.

وينطبق الأمر نفسه، على الطلبة الآخرين الذين أتاحت لهم الفرصة لإكمال دراستهم في الجامعة الأمريكية ببيروت أمثال نجيب خروفه وساهرة القاضي وبهيجة الكبيسي وصبيحة إبراهيم أبو داود واراكس. أما الطالبان داود سلمان وناجي مراد، فقد دونت ثانوية البصرة للبنين معلوماتها عن الأول بان ذكاءه» دون الوسط»، و»قليل الاجتهاد والتتبع»، و» لا يعتقد انه قومي النزعة». فضلاً عن، انه « راسب في السنة الماضية». في حين، وثقت أدارة دار المعلمين في البصرة عن الثاني بأنه ذكاؤه “متوسط”، وانه يتمتع بسمعة”جيدة وحسنة”، إلا أن “ نزعاته القومية لا يطمئن لها”.

كان النفوذ السياسي يلعب دورا واضحا في انتقاء المرشحين، وقد ايد الخريج زهير رايح العطية هذا الكلام، الاانه اكد على ان اغلب ابناء المسؤولين الذين ارسلوا الى الجامعة الامريكية قد اثبتوا جدارة كبيرة،فمنهم من اصبح وزيرا خلال حقبة الدراسة امثال، رشدي عبد الهادي الجلبي وجمال عمر نظمي،الامر الذي يؤكد،انهم كانوا في الاساس مؤهلين من الناحية العلمية للبعثات الدراسية.مع العلم،ان جريدة «العراق» قد اكدت على ضرورة ان تكون البعثات»مختصرة «على الطلاب الفقراء أو الذين لا تساعدهم ماليتهم على التخصص وانجاز دراساتهم في الخارج». فضلاً عن ذلك، يجب على الحكومة أن « تفتش عن الطلاب النبهاء وتساعدهم على اتمام دراستهم في الخارج.»

فضلاً عن ذلك، كانت البعثات تضم خريجين ينتمون إلى عوائل ارستقراطية أمثال محمد حديد الذي كان والده الحاج حسين حديد من المتاجرين بالسلع المحلية، ونجيب الصابونجي الذي ينتمي الى أغنى البيوتات التجارية في الموصل، إذ كان والده مصطفى من أعيان الموصل وكبار تجارها. كما كانت تضم خريجين ينتمون إلى عوائل دينية أمثال عبد الفتاح إبراهيم الذي كان والده رجل دين، ويوسف الكيلاني الذي يتصل نسبه بالشيخ عبد القادر الكيلاني. كما ضمت البعثات طلبة ينتمون الى طبقات فقيرة.

ينبغي أن نشير هنا إلى، أن البعثات إلى الجامعة الأمريكية في بيروت لم تقتصر على نفقة الحكومة فقط، بل كان هناك العديد من الطلبة قد أرسلوا على نفقتهم الخاصة، أمثال عوني الخالدي وأمين المميز وشريف يوسف وعبد العزيز مهدي وغيرهم.فضلاً عن ذلك، فقد قررت جمعية «البعثات العلمية» في جلستها المنعقدة بتاريخ 19 تموز 1929 إرسال طالب واحد على نفقتها الخاصة للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت او الجامعة الأمريكية في القاهرة. وقد دعت الجمعية الطلبة الراغبين بمراجعة معتمدها للاطلاع على شروط البعثة، وهي ان» يكون الطالب عراقياً»،و» لا يتجاوز عمره 25 سنة ولا يقل عن 15سنة»،و» يكون حسن الأخلاق»، و» متخرجاً من أحدى المدارس الثانوية او له من المعلومات ما يعادل ذلك»،و» يكون ممن لا يتمكنون مالياً من أكمال دراستهم في الخارج». ومهما يكن من امر،فأن معظم البعثات الدراسية التي ارسلت الى الجامعة الامريكية في بيروت سواء كانت على نفقة وزارة المعارف،او النفقة الخاصة،او على نفقة جهات معينة،كانت موفقة في ارسال الطلبة،اذ اثبت اغلب الطلبة المبعوثين، انهم كانوا بمستوى المسؤولية سواء عندما كانوا طلاباً، أو بعد تخرجهم. فيكفي أن نشير إلى، أن الطالب علي حيدر سليمان قد حاز على درجة الشرف في العلوم السياسية، مما جعل الجامعة أن تختاره لالقاء كلمة باسم الطلبة الخريجين عام 1930، والطالب عبد الجبار عبد الله الذي كان متفوقاً في دراسته للفيزياء في الجامعة الأمريكية مما» حدا بالجامعة المذكورة من وضع اسمه في لوحة الشرف في الجامعة»،وكامل قزانجي الذي اظهر تفوقاً علمياً في دراسته، مما الفت نظر رئيس الجامعة الذي اختاره ليكون رئيساً لوفد طلابي رسمي الى جامعات سويسرا عام 1933. فضلاً عن، ان اغلب الطلبة قد أكملوا دراساتهم العليا في جامعات عالمية، بكل جدارة واقتدار، أمثال فخري الفخري الذي أكمل دراسته العليا في جامعة برمنكهام ببريطانيا، ومحمد فاضل الجمالي ومحمد ناصر ومتي عقراوي الذين أكملوا دراستهم في جامعة كولومبيا بنيويورك في فلسفة التربية وعلم النفس، وطه باقر الحلي وفؤاد شهادة سفر اللذين حصلا على شهادة الماجستير في علم الآثار من المعهد الشرقي لجامعة شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرهم الكثير،حتى أن الصحف العراقية الصادرة يومذاك قد أشادت بجهودهم العلمية، فيكفي أن نشير إلى ثلاثة نماذج الأول، هو الخريج متي عقراوي الذي أشادت به جريدة « العراق» عندما ذكرت بأنه من الشباب الذين نالوا الدراسة العالية باسمى درجاتها، والانموذج الثاني هما الخريجان طه باقر وفؤاد سفر

أما الانموذج الثالث، فهو الخريج علي الوردي الذي حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة بدرجة شرف من جامعة تكساس وهو أول أجنبي بهذه الجامعة يحوز على هذه الشهادة، الأمر الذي دفع حاكم ولاية تكساس أن يمنحه لقب «مواطن شرف».فضلاً عن ذلك،فقد قررت لجنة من أساتذة الجامعة تدريس النظرية التي طرحها الوردي في أطروحته في علم الاجتماع والتي كانت تدور حول اجتماعية المعرفة وتدريسها في جامعات الولايات المتحدة.

وفي الواقع، لم يقتصر اهتمام الحكومة العراقية على ارسال البعثات الى الجامعة الامريكية في بيروت فحسب،بل نالت اهتمام الملك فيصل الاول شخصيا الذي زار الجامعة عام 1929، ألقى خطبة على أساتذتها وطلبتها، التي وصفتها الجامعة بـ» الخطبة النفيسة». وبمناسبة هذه الزيارة، كتب بيارد دودج رئيس الجامعة كتاباً إلى «حضرة صاحب الجلالة الملك فيصل الأول أيده الله»، أكد فيه على أن الجامعة « لا تزال تذكر بملئ الفخر زيارة جلالتكم لها»، لذا فان مكتبة الجامعة تنتظر»عطفكم عليها»،وذلك «أن تزدان رفوفها بمطبوعات حكومة جلالتكم السنية. سواء كان ذلك مما طبع قبلاً أم مما يطبع في الاتي... ليضاف إلى ما فيها من المطبوعات باللغات المختلفة التي للغة العربية مقام كبير فيها».

عن رسالة: الجامعة الامريكية في بيروت واثرها السياسي في العراق