عالم غودا

عالم غودا

محمود عواد

في جوهرها السّريّ، تتحرك السينما مثل جنينٍ شبحيٍّ في رحم العدم، وليس ثمة عدمٍ سوى الزمن الذئبيّ، الذي هو لعبٌ كرستاليٌّ بمفهوم دولوز، ففيه يستكْنه الكائن رغبته في الانوجاد داخل جسده بحذرٍ دائمٍ، وهذا النوع من الأفلام يأتي من استئكال الفكر للمخيال المنبعث من دواليب مصادرة العقل لمصادر التخييل الأولى التي هي الحواس،

ذلك لأنّ السينما هي زمن عبورٍ من الجسد إلى الحواس، وهنا يصبح دور العقل وسيطًا ناقلًا ليس إلّا،لأنّ عالمها مأخوذٌ بانتزاع المنطق من الأشياء، والذهاب بها إلى سديم الاغتراب التخييلي الذي هو الخلود، ما يمنح السينما سمة الزمن اللامتناهي، أي افتراض محاولة الدخول في الأبد المخياليّ الذي هو الزمانيّة العميقة التي يكمن مضمونها في لغز الموت والأبديّة.

انبنتْ تجربة جان لوك غودار الفكريّة للسينما على محاولة الزمن في الوقوف خارج الزمن، ملامسًا بذلك العصب الحيّ لزمنية الجسد بذهنيّة الحذف

في سياق هذه الرؤية الريكورية للزمن، نجد أنّ لا أوابد للزمن سوى العمل على تحفيز اليباب الجسديّ بالمحفز الحاسيّ، فإنّ بحثنا عن عيّنةٍ سينمائيّةٍ تتطابق وهذه الرؤيا، فمن المؤكّد أنّ الغوداريّة هي المثال الحيّ والحيويّ في آن، فقد انبنتْ تجربة جان لوك غودار الفكريّة للسينما على محاولة الزمن في الوقوف خارج الزمن، ملامسًا بذلك العصب الحيّ لزمنية الجسد بذهنيّة الحذف، لأنّ السينما هي العقل الذي شعور مباشر بالزمن بحسب فرامبتون، ما يجعل الكاميرا في صراعٍ شبحيٍّ مع الافتراض، وربّ سؤالٍ يطرح عن كيفيّة انعتاق الزمن من عالمه الإطاري، وأعني به إدراكنا للزمن من خلال ما تعنيه آلة التصوير، ولاستغوار مجاهيل هذا السؤال ينبغي أولًا التعرّف على موضع الكاميرا من مخيال المخرج، وهل جاءتْ بمهمّة الاكتشاف أم الرّصد، ففي حال جاءت مكتشفةً، فهنا يصبح عملها فكريًّا ما يجعلها معنيّةً بإنتاج المفاهيم، لتقع في الفيلموسوفيا، أي تجمع ما بين السينما والفلسفة في جغرافيّةٍ فكريّةٍ منزوعة الحدود الفاصلة.

في تبنّيه لذلك استطاع غودار من الإتيان بسينما غوداريّة المنشأ، التي من سماتها الدخول في لعبة الحذف الزمنيّ، فالحضور والغياب، كلاهما يفتش عن إيقاعه في الآخر، فلا غيابٌ ولا حضورٌ خالصين، وإنما الضباب هو البوصلة التي يتلمّس بها أحدهما اتجاه الآخر، فتغدو السينما بالنسبة له محاولةً في أن يتعرّف الزمن على لغته، فيمتدّ ليبلغ سريّة ذلك الشبح العبثيّ القاطن في اللازمن المتخيّل برغبة الشيء في الاحتفاظ بظلّه.

هذه الظليّة العالية متأتيةٌ من اعتماد غودار استراتيجيةً تجريبيّةً تتخذ من الايقاع الفوتغرافي سياسةً صوريةً لا تعبأ سوى بالاحتفاء بالمحو، فعند مشاهدة أحد أفلامه يستعير الذهن نباهة الحاسة، نتيجة ما يحدث من لعبٍ دائريٍّ ما بين الزمان والمكان معًا، فليس هناك زمانٌ ولا مكانٌ واضحي التضاريس في سينما غودار، لكونه منهومًا بمحو التخوم في ذهابه نحو أحداثٍ صادمةٍ بحدثها، لكنّه يعمد إلى معالجتها بإيقاعاتٍ باردةٍ، وكأنّه يحتفي بدمى تبحث عن محرّكها، فما يعنيه من الحدث هو أن يجعل الزمن فعّالًا، من خلال امتصاص توتّر الكاميرا للزمن الصوريّ، ورغم التقانة العالية، تشعر وكأنّك أمام عملٍ خامٍ خالٍ من المونتاجيّة التي برع غودار في تدعيم رؤاه الفليمة بها، والتي أهلته لأن ينظّر للزمن سينمائيًّا، ذلك لأنّه يعتمد المسْح الصّوريّ للحدث، مبتعدًا بذلك عن الحدث نفسه، وفي هذا السياق تأتي تجربته من سديمٍ هلوسيّ كما يصفه الناقد كلود أولييه، محاولًا بذلك ضخّ عوالم عائمةٍ داخل العالم الواحد الصانع لتلك الصورة المفكّكة زمكانيًا، وهذا الاشتباك مصدره مطاردةٌ ظليّةٌ للزمن الغوداري، وإنْ كان التكثيف من ذلك قد ساعد السينما بمجملها من “بوْلسة الزمن”، فدائمًا ثمّة إنسانٍ يتعقب موت ظلّه، فيغدو الزمن هو المجرم والضحية في آن، لكنّها بوليسيّة اللامتناهي وليست تلك الناتجة عن هموم مرضيةٍ، ذلك لأن الزّمن هو الإنسان بحسب ابن المقفع، إذًا هذا النوع من البوليسيّة هي وجودية الذات إزاء ما تواجه من جحيم، وتحدث عندما يلمس الإنسان عصب حيرة الزمن داخله. إن اشتغاله على ضرورة اجتراح سينما جديدة، جعل كبار الفلسفة والنقد يرون في تجربته ريادةً في التجريب والتغريب في آن، ويبدو من غير المعقول أن نستبعد ثأثيرات بريشت، وأنه لما يملك من مكْرٍ رؤْيويّ استطاع الالتفاف حول الإسراف التعليمي للنظريّة البريشتيّة برؤى فلسفيّةٍ تفوق تأملات العقل البريشتيّ نفسه، ما جعله يتصدر سرديات سينما مابعد الحداثة، فقد تبنّى في أفلامه نمطًا سرديًّا متحررًا ومغايرًا لما كان سائدًا آنذاك.

عالم غودار هو العالم السريّ لسينما العالم. و الحديث عنه هو استكناهٌ لتأريخٍ فيلميٍّ ممتدٌ من الموجة الفرنسيّة الجديدة، فدفاتر السينما، فالماركسيّة الجديدة

من ناحيةٍ أخرى يظهر لنا غودار ميْلًا واضحًا في محاكاة الأساطير وتخليصها من وثنيات القصّ، والتثاقف معها بما ينسجم والمأزق الإنسانيّ والإيدلوجي، كما حدث في إخراجه “الملك لير”، مؤكدًا ما ذهب إليه الناقد يان كوت في مؤلّفه “شكسبير معاصرنا”، فما طرح على الشاشة، أثبت بأنّ الغوداريّة هي معملٌ فكريٌّ مؤهلٌ لإعادة تصنيع شكسبير الماضي، إضافةً إلى استعرض الكثير من الأفكار الفلسفيّة الشائكة والمستعصية على الفهم ومدى ارتباطها وما يحدث من مشكلاتٍ سياسيّةٍ ومجازر ومشاعر كونيّة بأسلوبٍ استغواري.

موجز القول أنّ عالم غودار هو العالم السريّ لسينما العالم. وأنّ الحديث عن عالمه هو استكناهٌ لتأريخٍ فيلميٍّ ممتدٌ من الموجة الفرنسيّة الجديدة، فدفاتر السينما، فالماركسيّة الجديدة على يد صديقه الفيلسوف الآن باديو، الذي أصرّ غودار أن يحضر بشخصه في فيلم “الاشتراكية”. ويتجلى الايقاع الأسطوريّ للشعر في فيلم “بيرو المجنون”، وكذلك في فيلم الاحتقار المعدّ عن رواية الإيطالي ألبرتو مورافيا، وقد أفاد من برود السّرد في تقديم ملامح جليّةٍ عن شعريّة الملل، وتوظيفها بخبرة من يعي الأسرار الخفيّة لزمن الكاميرا.