الخصخصة في الاقتصاد الألماني

الخصخصة في الاقتصاد الألماني

إياد مهدي عباس
تشهد العلاقات الاقتصادية بين العراق وألمانيا انتعاشا كبيرا حسب وزارة التجارة الألمانية التي أكدت على تجاوز حجم التجارة بين البلدين مستوى 1,5 مليار يورو.
ولقد ازداد حجم الصادرات الألمانية الى العراق والتي تغلب عليها الآلات والسيارات والسلع الكهربائية والكيماويات والصلب بنسبة 54 بالمئة العام الماضي إلى 926 مليون يورو في حين تضاعفت تقريبا الواردات التي تكاد تقتصر على النفط لتصل إلى 160 مليون يورو.

وبمناسبة الحديث عن الاقتصاد الألماني يمكننا ان نستفيد من التجربة الألمانية ومن معالجاتها للمعوقات التي واجهتها في بداية مشوارها بعد انهيار النظام الاشتراكي في ألمانيا الشرقية قبل أكثر من عشرين عاما وطرحت حينها إلى الواجهة قضية إعادة هيكلة اقتصادها وضرورة تحويله إلى اقتصاد السوق في إطار مهمة تاريخية غير مسبوقة تطلب انجازها حلولا غير مسبوقة ومثيرة للجدل أيضا.
في خريف عام 1989 حدث ما لم يكن بالحسبان. فجأة ودون سابق إنذار انهار جدار برلين الشهير معلنا نهاية حقبة تاريخية بكاملها سادت خلالها الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي. ولم تمض سوى شهور قليلة حتى سقطت نظم كانت تبدو راسخة ومن بينها نظام جمهورية ألمانيا الديمقراطية -ألمانيا الشرقية- التي سرعان ما انضمت إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية رسميا في 3 تشرين الأول/أكتوبر 1991. غير أن الفرحة بنهاية أربعة عقود من التقسيم لم تغطِ على حالة القلق نتيجة التحديات الضخمة التي واجهت عملية توحيد شطري البلاد.
تطورات سريعة وتركة ثقيلة
سقوط جداربرلين فتح الباب على مصراعيه أمام هجرة واسعة النطاق من الشرق إلى الغرب بسبب الفارق في مستوى المعيشة. وأصبحت مناطق كثيرة في شرق البلاد تواجه نزيفا بشريا هدد بانهيار كل الهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ووضع حكومة المستشار الأسبق ومهندس الوحدة الألمانية "هيلموت كول" في موقف لا يحسد عليه. ولم يكن هناك بديل سوى اتخاذ إجراءات عاجلة تتناسب مع سرعة التطورات. وبعد إجراء أول انتخابات حرة في ألمانيا الشرقية مهدت حكومتا البلدين للوحدة السياسية عبر الاتفاق على إقامة الاتحاد النقدي والاقتصادي بينهما. ولعل أهم ما جاء في هذا الاتفاق هو اعتماد عملة ألمانيا الغربية "المارك الألماني" في الأول من تموز/يوليو 1990 كبديل للمارك الشرقي في المناطق الشرقية. هذه الخطوة التي كانت تهدف إلى طمأنة المواطنين في الجزء الشرقي وتحفيزهم على البقاء في مناطق سكناهم، كشفت وبضربة واحدة اقتصاد ألمانيا الشرقية المنغلق حتى ذلك الحين للمنافسة الخارجية بكل صورها. ووجدت المؤسسات الحكومية نفسها في ظروف جديدة لم تكن مستعدة لها. فقد دخلت هذه الشركات، التي كانت تعتمد عادة على دعم الدولة، في معركة خاسرة سلفا تتمثل في المنافسة المفتوحة مع شركات ألمانية غربية وعالمية أخرى متقدمة عليها بكل المقاييس. كما أدت التغيرات السياسية المتسارعة في الاتحاد السوفيتي سابقا والدول الاشتراكية الأخرى إلى انهيار الأسواق التقليدية لمنتجات ألمانيا الشرقية. وإزاء هذا الوضع المعقد وغير المسبوق لجأت الجهات المعنية إلى إجراءات جذرية للانتقال السريع إلى اقتصاد السوق عنوانها الأبرز هو الخصخصة وإعادة هيكلة المؤسسات العامة في الجزء الشرقي من البلاد.
هيئة للخصخصة على شكل شركة قابضة
كان اقتصاد ألمانيا الشرقية يخضع لسيطرة كاملة للدولة تمتد من مصانع الحديد والصلب وتصل إلى محلات الحلاقة. وكان العمود الفقري للاقتصاد الاشتراكي يتألف من قرابة 220 مجمعا عملاقا تنشط في مختلف الفروع الصناعية والتجارية وقطاعي البناء والخدمات وتضم نحو 13 ألف مصنع ومنشأة، إضافة إلى 17 ألف من محلات التجارة والمطاعم والفنادق وكذلك 2,4 مليون هكتار من أراضي التعاونيات ومزارع الدولة. وكانت هذه المؤسسات التي كان عدد العاملين فيها يربو على أربعة ملايين شخص، تعاني من مشاكل جمة، أهمها فائض في العمالة قُدر بـ 15% وقدم وتهالك معداتها وآلاتها الإنتاجية والتدني المريع في إنتاجيتها التي لم تزد عن 30 % بالمقارنة مع قريناتها الغربية. وكانت جميعها تقريبا تعمل بخسائر وتعتمد بهذا القدر او ذاك على دعم الموازنة العامة والذي بلغ في عام 1989 أكثر من 120 مليار مارك شرقي. وأمام هذه الإرث الثقيل طرح السؤال نفسه بقوة: ماذا نفعل بكل هذه المؤسسات؟ والأهم من ذلك ما هو مصير الجيش الجرار الذي يعمل فيها؟.
ولحل هذه المعضلة تم أولا استحداث وكالة حكومية شُكلت بناء على قانون خاص بها. وقد سُميت هذه الوكالة بهيئة إدارة الملكية العامة(Treuhand). وسرعان ما أحيل القطاع العام في ألمانيا الشرقية برمته إلى هذه الوكالة التي أصبحت أكبر شركة قابضة في العالم. وقد لخصت "بريغيت برويل" رئيسة الهيئة للفترة 1991-1994 أولويات عمل هذه الوكالة الحكومية على النحو التالي: أولا خصخصة المؤسسات العامة عبر إتباع كل الطرق المعروفة لذلك، وثانيا محاولة إعادة هيكلتها وإنقاذها ومساعدتها على الوقوف على قدميها. وإذا تعذر ذلك فإن البديل المتبقي هو التصفية والإغلاق مع مراعاة الجوانب الاجتماعية. وقد تولت هيئة الخصخصة مهمة تاريخية بالفعل من حيث حجمها وتعقيداتها والسرعة المطلوبة لتنفيذها، لاسيما وأنها كانت تجري في ظل الانتقال من نظام التخطيط المركزي إلى اقتصاد السوق ووسط صراعات وتناقضات اجتماعية وسياسية حادة.
ولكي تتمكن هيئة الخصخصة من تنفيذ مهامها فقد كفل لها قانون تأسيسها استقلالية كبيرة في اتخاذ القرار. كما تم توسيع طاقمها ليبلغ 3000 موظف كانوا يعملون في المقر الرئيسي في برلين وفي فروعها في المحافظات الشرقية الخمسة عشر آنذاك. وكانت قيادة الهيئة وفروعها تتألف عادة من رجال أعمال وسياسيين لهم خبرة طويلة في إدارة البنوك والأعمال وفي إعادة هيكلة الشركات والمجموعات الاقتصادية. وفيما كان الجزء الأكبر من الأعضاء القياديين من ألمانيا الغربية، استعانت الهيئة أيضا بعدد من المدراء الشرقيين السابقين ولكن كمستشارين.
وعلى الرغم من اتخاذ الهيئة لإجراءات مثيرة للجدل، إلا أن قراراتها كانت تأتي بعد التنسيق مع ممثلي جهات رسمية وشعبية عديدة ومن بينها النقابات. ومع ذلك أقدمت هيئة الخصخصة على تصفية وإغلاق الكثير من الشركات الحكومية التي أحجم المستثمرون ولأسباب عديدة عن شرائها. وقد ساهم ذلك في رفع معدلات البطالة إلى مستويات خطيرة بلغت في عام 1992 قرابة 15%.
إلا أن هذا الارتفاع الكبير في البطالة لم يؤدِ إلى اضطرابات اجتماعية خطيرة. ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى تطبيق جملة من الإجراءات الرامية للحد من الآثار الاجتماعية السلبية للخصخصة، وفي مقدمتها دفع إعانات للعاطلين عن العمل. وعلاوة على ذلك مولت الدولة مشاريع كثيرة للتشغيل استوعبت عددا لا باس به من ذوي التأهيل العالي. ولكن هذه المشاريع كانت مؤقتة وتهدف إلى تهيئة هؤلاء للانخراط بسوق العمل. كما أطلقت الدولة برنامجا ضخما لإعادة تأهيل العاطلين عن العمل وتزويدهم بمعارف نظرية وعملية في شتى المجالات. وبالفعل فقد شارك مئات الآلاف في دورات تدريبية في الكومبيوتر والمحاسبة واللغات والتمريض والحدادة والنجارة والسياقة ومجالات أخرى لا حصر لها. وعلاوة على أهميتها في تحسين فرص المتدربين في سوق العمل فقد أدى الطلب المتزايد على الدورات التأهيلية إلى تأسيس الآلاف من المعاهد والمدارس المتخصصة والتي وفرت بدورها فرص عمل كثيرة. وأخيرا وليس آخرا فقد ساهمت أشكال الدعم المتعددة للاستثمار في الجزء الشرقي، وخاصة للشركات الصغيرة والمتوسطة في خلق فرص عمل جديدة ساعدت في امتصاص جزء من البطالة. وبهذه الطريقة تمكن 80 في المائة من العمال المسرحين من المؤسسات الخاضعة للهيئة من الحصول على عمل جديد.
اقتصاد شرق ألمانيا اليوم
إلى جانب الخصخصة وتسريع الانتقال إلى اقتصاد السوق اعتمدت الحكومة الألمانية برامج للنهوض بأوضاع الجزء الشرقي من البلاد. فبعد أن كان الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد في شرق ألمانيا في عام الوحدة الألمانية 1991 لا يزيد عن 45 % بالمقارنة مع غرب البلاد، ارتفع هذه المؤشر في عام 2009 إلى 73%. وخلال نفس الفترة ارتفع متوسط الأجور من 58 % إلى 83%. وهو بطبيعة الحال تقدم واضح لم يكن ليتحقق لولا النجاح السريع في إصلاح النظام الاقتصادي.
وعموما يمكن القول إن سر نجاح تجربة الخصخصة في ألمانيا الشرقية يكمن بالدرجة الأولى في توفر الإرادة السياسية وفي مراعاة الجوانب الاجتماعية وفي وجود اقتصاد قوي قادر على تحمل تبعاتها. وبالتأكيد فإن دروس هذه التجربة يمكن الاستفادة منها في دول أخرى تواجه مهمات مشابهة كالعراق مع مراعاة الفرق الشاسع في الظروف الاجتماعية والاقتصادية بين البلدين.