سيولة «باومان» التي أبتلعت كل شيء

سيولة «باومان» التي أبتلعت كل شيء

محمد السيد أبو ريان

بدأتُ أفهم أنني لم أكن أفهم حقًا ما يحدث في العالم «الذي ليس بعالمي». إن ما يحدثُ هو على درجة من التعقيد أكبر من أن نفسّره بتلك الطريقة البسيطة المريحة، التي نتخيل من فرط سذاجتنا أنها طريقة كافية.

ربما يمكننا فهم هذا التعبير المنقّح لعالم الاجتماع البولندي «زيجمونت باومان»، باعتباره مدخلًا لفهم رحلته الإنتاجية فكريًا ونقديًا. يصرّ باومان أن يشتبك في أطروحاته دائمًا مع كل ما يدور حولنا في السياسة والاجتماع والعلوم والفكر والدين، وسائر الممارسات الإنسانية، بل والإنسان ذاته، بتنويعات أسئلته الوجودية والمعرفية والقيمية الكبرى، وتفاصيلها، وما يؤثّر فيه وما يتأثّر به.

ولد باومان في بولندا سنة 1925م، لأسرة يهودية فقيرة، وتشكّل وعيه السياسي والفكري بعد الحرب العالمية الثانية، واشتبك مع الشيوعية في بولندا، ثم مع القومية والصهيونية في إسرائيل في الفترة القصيرة التي قضاها فيها، قبل أن يستقر في بريطانيا ويشكّل معالم مشروعه النقدي للحداثة الغربية ونزعتها القومية العنصرية.

فيما يلي نستعرض أهمّ مؤلفات باومان المترجَمة للعربية، والتي يتجلّى فيها مكابدته لفهم الحداثة، وممارسته لنقدها وتفكيك قوالبها السائدة في الوقت ذاته.

لم تكن الهولوكوست انقطاعًا في التدفق الطبيعي للتاريخ، أو ورمًا سرطانيًا ينهش في جسد المجتمع المتحضر، أو جنونًا لحظيًا بين سلامة العقل وصحته، لم تكن مجرد مأساة حدثت لليهود، واليهود وحدهم، لم تكن الهولوكوست مجرد مشكلة يهودية، وإنما هي مشكلة المجتمع الغربي والحضارة الغربية والثقافة الغربية، بل ونتاجها الشرعي العقلاني الطبيعي المخيف.

يجادل «زيجومنت باومان» عن هذه التأكيدات التأسيسية في كتابه «الحداثة والهولوكوست»، شارحًا ومحللًا لحقيقة أن الهولوكوست جاءت محصلة لقاء فريد غير متوقع بين تناقضات قديمة تجاهلتها الحداثة واستخفت بها أو فشلت في حلها، وبين أدوات قوية للفعل العقلاني الرشيد صنعها التطور الحديث.

في إطار المشروع الحداثي، يتحول المجتمع إلى بستان، والدولة القومية الحديثة إلى بستاني يسخر أدواته لأعمال البستنة، وتهذيب النباتات، ومواجهة كل من يخالف النظام، ومن ثمّ شنّت الحداثة حربًا ضارية على كافة مظاهر الاختلاف والخصوصية الثقافية. كان يحدث هذا للملونين – بكل أريحية وبلا غضاضة – على يد المستعمر الأبيض في أي مكان خارج إطار الحضارة الغربية، المختلف هذه المرة فقط أن الهولوكوست حدث لرجال أوروبيين بيض على أيدي رجال أوربيين بيض في عقر دار الحضارة الأوروبية الغربية، وهو ما لا يسوّغ عملية الفصل والأيقنة التي تجري للهولوكوست، واعتبارها نشوزًا عن السياق الطبيعي للحداثة.

يعتبر هذا الكتاب هو الثاني من بين ثلاثية أصدرها باومان كمناذج مطوّرة لنقد الحداثة الغربية، وهي (أهل التشريع وأهل التأويل 1987م، الحداثة والهولوكوست 1989م، الحداثة والإبهام 1991م)، وأصدره باومان بعدما قرأ مذكرات زوجته جانينا عن تجربتها في جيتو وارسو، وما تلاها، وهدف منه إلى حشد الدروس السياسية والنفسية والسوسيولوجية الخاصة بالهولوكوست من أجل تأسيس علاقة بينها وبين الوعي الذاتي والتجربة الفعلية لمؤسسات المجتمع المعاصر وأبنائه. ونال عليه جائزة أمالفي الأوربية في علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية، وجائزة تيودور أدورنو عام 1998م، وترجمه للعربية حجاج أبو جبر، عبر دار مدارات، في 2014م.

إن ما نعتبره واضحًا جليًا هو أبعد شيء عن أن يكون كذلك، وإنما توهّمنا وضوحه من طول تكرار استخدامه بصورة سيئة وغامضة. «الحرية» هكذا، أمرٌ افتراضيّ غامضٌ مبهم محيّر، نادر التحقّق بصورة واضحة نسبيًا. تحظى مفردات كالضوابط والقيود والضغوط والمؤثرات والقوة والقسر والإكراه، بالوضوح والعمق والتحقّق والاهتمام.

يتناول زيجمونت باومان في هذا الكتاب مفهوم «الحرية»، من مدخل اجتماعي، باعتبار علم الاجتماع في بداياته الأولى هو علم «عدم الحرية»، والذي يتجه لاحقًا إلى طرح ودراسة مفاهيم مثل: الطبقة والقوة والهيمنة والسيطرة والسلطة والتنشئة الاجتماعية والأيديولوجيا والثقافة والتربية… في سياق تشكيل الخريطة السوسيولوجية للوجود الإنساني.

حرية الإنسان لا يمكن أن تكون مجرد افتراض مسلّم به، ولا يجب، فقد توجد أو تختفي مع نوع معين من المجتمعات. والحرية ليست خاصّية أو صفة مميزة يمتلكها الفرد نفسه بقدر ما هي علاقة اجتماعية تتخذ صفة وثيقة الصلة بالاختلاف المؤكّد بين الأفراد، كشرط ضروري ومتجدّد للتكامل المجتمعي.

ينتظمُ كتاب «الحرية» – الذي ترجمته د. فريال حسن خليفة – ترجمة نرى أنها متوسطة المستوى – ونشرته مكتبة مدبولي – في مقدمة وخمسة فصول: (1) الحرية كعلاقة اجتماعية، (2) عن الأصل الاجتماعي للحرية، (3) مكاسب الحرية وكلفتها، (4) الحرية والمجتمع والنظام الاجتماعي، (5) مستقبل الحرية.

كتاب «الحداثة السائلة» من تأليف عالم الاجتماع والفيلسوف البولندي «زيجمونت باومان»، الصادرة ترجمته بالعربية في 2016م، عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بترجمة حجّاج أبو جبر، يحتل الكتاب المرتبة الثالثة في سلسلة الفقه الإستراتيجي، وهي سلسلة تُعنى بالأطروحات الفكرية الهادفة إلى ربط الجسور بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وفهم الواقع المعاصر بأبعاده المركبة، وتقدم محاولة في إعادة ترسيم خرائط العلوم، وسبقه من نفس السلسلة كتابان هما «نحو عمران جديد» للدكتورة هبة رءوف عزت، و«فقه الواقع في التراث السياسي الإسلامي» للباحث مدحت ماهر الليثي.

في هذا الكتاب، يسعي باومان إلى «فهم زمن متغيّر» انتقلت فيه المجتمعات المعاصرة من الحداثة «الصلبة» إلى الحداثة «السائلة»، داعيًا إلى إعادة النظر في المفاهيم والأطر المعرفية المستخدمة لرواية تجربة فردية الإنسان والتاريخ المشترك، وذلك عبر خمسة مفاهيم أساسية انتخبها باومان، ووزّعها على خمسة فصول داخل الكتاب، باعتبارها تصوغ معنى الحياة المشتركة للإنسان: التحرّر، الفرديّة، الزمان/المكان، العمل، والمجتمع.

يُعد الكتاب مرجعًا محورًا في توثيق وقائع تلك السنوات التي تجلَّت فيها فكرة الجمهورية، وعلاقتها المباشرة بالثورة المصرية، وهو يجمعُ بين العرض التاريخي والتحليل الاقتصادي والسياسي والثقافي، بالإضافة للمصادر المتنوعة من مختلف التيارات.

كتاب «الحياة السائلة» يأتي من جملة مؤلفات باومان في الإطار السسيولوجي والحداثي، تُرجم إلى العربية في 2016م، عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، وترجمه حجّاج أبو جبر، ويقع ترتيب الكتاب في المرتبة الرابعة ضمن سلسلة الفقه الإستراتيجي.

يستعرض باومان في هذا الكتاب، تجليات الحداثة في أحوالنا اليومية، في خياراتنا الحياتية، في مشاعرنا، وفي رؤيتنا لما يمرّ بنا من أزمات. وكما في نبذة الناشر «هذا الكتاب هو كتاب عن العيش في عالم حديث سائل، إنه كتاب عن حصار الفرد من قِبَل كل الأحوال التي تمنّيه بالحرية… حيث تهبط المعاني في ظل الحياة السائلة من سموّها لتسكن دائرة السوق وتغدو سلعًا».

ينتظمُ الكتاب في مقدمة عن العيش في عالم حديث سائل، ثم سبعة فصول: (1) الفرد تحت الحصار، (2) من الشهداء إلى الأبطال، ومن الأبطال إلى المشاهير، (3) الثقافة خارج السيطرة والإرادة، (4) البحث عن مأوى في صندوق باندورا، (5) المستهلِكون في مجتمع حديث سائل، (6) تعلّم السير على رمال متحرّكة، (7) التفكير في أزمنة مظلمة: أرندت وأدورنو من جديد.

كتابُ «الحب السائل: عن هشاشة الروابط الإنسانية»، الصادر عن الشبكة العربية في هذا العام 2016. يحلّل باومان في هذا الكتاب خيارات الفرد الشخصية (العاطفية والجنسية) في زمن الحداثة السائلة، التي تخلّت فيه الحياة عن جذورها، متتبعًا صيغ البحث عن الفائدة والخيارات الرشيدة، وكيف دُمّر ما تتسم به العلاقات الوجدانية من ديمومة وعفوية وتلقائية وعاطفية، وذلك عبر رحلة تبدأُ من الفلسفة لتدخل في صلب الاجتماع، وتنتهي بالسياسة.

ينتظم الكتاب في أربعة فصول: (1) الوقوع في الحب والخروج منه، (2) دخول العلاقات الاجتماعية والخروج منها، (3) “أحبب جارك كما تحب نفسك” وصية صعبة، (4) تفكيك الاجتماع البشري.

كتاب «الأخلاق في عصر الحداثة السائلة»، لزيجمونت باومان، صدرت ترجمته العربية عن مشروع «كلمة»، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، 2016م، بترجمة سعد البازعي وبثينة الإبراهيم، وكان باومان نشره أول مرة في 2008م.

يستقرئ باومان في الكتاب عددًا من الظواهر الكبرى للعالم الحداثي المعاصر، محورها هو الشأن الأخلاقي المتأثّر بسيطرة الاستهلاك في عالم سريع التغيّر على كافة المستويات، تتغيّر فيه القيم والهويات والحدود السياسية، وتفقد الحواجز الأصيلة تأثيرها وأهميتها، سواءً من خلال تدفق رأس المال أو تحرّك المهاجرين أو البحث عن الربح السريع في شبكات الاتصال.

ينتظم الكتاب في مقدّمة، وست فصول: (1) أي فرصة للأخلاق في عالم استهلاكي معولَم؟ (2) القتل الباتر أو إرث القرن العشرين وكيف نتذكره، (3) الحرية في حقبة الحداثة السائلة، (4) حياة عجولة: تحديات الحداثة السائلة للتعليم، (5) بين الرمضاء والنار أو الفنون بين الإدارة والأسواق، (6) جعل الكوكب مضيافًا لأوروبا.

كتاب «الأزمنة السائلة: العيش في عصر اللايقين» الصادر ترجمته عن العربية في 2016م، مؤرّخة بالعام 2017م، عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، وترجمه حجّاج أبو جبر، وتقديم هبة رؤوف عزت.

وبحسب نبذة الناشر، فهذا الكتاب يعدّ نصًا يملك من القدرة التفسيرية ما يجعله مناسبًا لفهم تحولات كثيرة يمرّ بها عالمنا الراهن، الذي لم تعد تقسيماته الجغرافية دالّة، بمثلما باتت التقسيمات الثقافية والاقتصادية، على محكّات الغنى والفقر والاستكبار والاستضعاف، هي الأكثر مركزية.

ينتظمُ الكتاب في مدخل عن «مستنبت اللايقين»، وخمس فصول: (1) الحياة الحديثة السائلة ومخاوفها، (2) حركة الإنسان الدائبة، (3) الدولة والديمقراطية وإدارة الخوف، (4) معًا ولكن فرادى، (5) اليوتوبيا في عص اللايقين.

الفرد الحرّ حرية طبيعية ما هو إلا نوع نادر وظاهرة محلية… وهو أبعد من أن يكون حالة عالمية أو حالة كلية للنوع الإنساني.

كتاب «الخوف السائل» يأتي سادسًا ضمن مجموعة باومان عن السيولة في عالم الحداثة، الصادرة ترجمته العربية في 2016م، والمؤرّخة بالعام 2017م، عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، وترجمه حجّاج أبو جبر، ليكوّن سلسلة متميزة قدمتها الشبكة العربية لقرّائها هذا العام.

ينتظم الكتاب في مقدمة عن أصل الخوف ودينامياته واستخداماته، وستة فصول: (1) الخوف من الموت، (2) الخوف والشرّ، (3) الهلع مما لا يمكن إدارته، (4) أهوال العولمة، (5) إطلاق عنان الخوف، (6) التفكير في مقابل الخوف: خلاصة غير نهائية للحيارى.

أخيرًا، تداول الناشرون مؤخرًا خبر نشر ترجمة كتاب باومان «المراقبة السائلة»، بحلول أوائل 2017م. وهو ما يعني أن باومان ماضٍ في رحلته النقدية للحداثة التي ابتدأها بتناول سيولة الحداثة ذاتها، والحياة بمجملها، ثم انتقل لاحقًا إلى تجليات هذه السيولة التي تبتلع كل شيء بما في ذلك الأخلاق والحب والخوف، وأخيرًا: المراقبة.

عن موقع إضاءات