القمع والقتل الجماعي في رواية جهاد مجيد دومة الجندل

القمع والقتل الجماعي في رواية جهاد مجيد دومة الجندل

صباح الانباري

“سها جد أبي مرة فانقطع عن الدنيا، وحين عاد إليها حدث الناس عن مدينة يجهلونها ربما هي تحت الماء، وربما في السماء وربما تحت الأرض، فانفضوا عنه قائلين: خرافة"

هكذا تبدأ «دومة الجندل» خبرها مزلزلة الواقع ومخلخلة ترابطاته المنطقية لتحلق بنا في فضاءات تخييلية تبتكر منطقها الخاص وواقعها المسند بالوثائق والوقائع. إنها تفكك الواقع وتعيد تركيبه بطريقة غير واقعية ليصير لها واقع خاص هو واقع الذهنية الآنية الخلاقة لمصمم دومة الجندل وواضع أسسها وتراكيبها البنائية والفكرية. إنها، ومنذ السطر الأول تدخل في منعطف الخرافة، أو هكذا نظر إليها أولئك الذين عرفوا بأخبارها من راويها الأول «جد أبى» فأية مدينة تلك التي تستوطن السماء أو تقبع تحت الماء أو تتموضع تحت الأرض أن لم تكن مدينة خرافية؟ ذلك لان هذه الأماكن الثلاثة، حسب تشاخصها وحسب ما نقل إلينا من حكايات الإنس والجن والتراث والخوارق هي أماكن حيوية لتوالد وتكاثر ونمو الحكايات الخرافية وما يمت إلى الخرافة بصلة اجناسية من قريب أو بعيد. ويقوم الراوي الثاني بدوره في منح الشك قوة زعزعة اليقين بتساؤله عما إذا كانت أحاديث جده «الراوي الأول» عن دومة الجندل أحاديث خرافة. ويتبع خطوات جده، فيسير نحو السراب باحثا عن دومة الجندل يتبعه الأهل والصحب والأصدقاء محذرين إياه أن لا يقفو «خطى الرجل الخرف الذي بلبلت عقله الكتب القديمة والجديدة ووسوست في قلبه الشياطين» لكنه، على الرغم من تحذيرهم، يدخلها ويصف ما فيها وما حولها بطريقة توحي بواقعيتها، وتؤكد وجودها على ارض الواقع لا على أرضية الوهم مشفوعة بتأثيرات إيهامية هائلة تذوب عندها الحدود الفاصلة بين الوهم والحقيقة، بين الواقع الملموس والواقع المتخيل، بين الشك واليقين، بين الرؤية والسراب، بين خداع البصر ووضوح البصيرة، وكلما أوغل حدثها في التخييل كلما تعزز بالوثائق الساندة وبالإثباتات التاريخية حد جعلنا ننساق وراء اللعبة مأخوذين بسحرها وإيهامها على الرغم من وعينا الكامل بأصولها وبتنقلها الدائب بين الأحداث الوهمية المبتكرة وبين إيهامنا بواقعية تلك الأحداث، على هذه الثنائيات وتقاطعاتها اشتغل الكاتب المبدع جهاد ومجيد مؤسسا ومجندلا إياها بموجهات التراث لغة وشخصيات وأمكنة.

إن لغة جهاد مجيد لغة تمتاز بمرونتها العالية وأناقتها ووقعها وإيقاعها المؤثر وقدرتها على خلق الأجواء التراثية من خلال استخدامها المقصود لطريقة السرد التقليدية . وهي لغة تراثية تشكل من تراكيبها الشكل التراثي الذي يتلاءم مع الخطاب الروائي وشخصياته وأماكنه التراثية.

إن جهاد مجيد يأخذ من الكتب المنزلة والأحاديث القدسية والخزين التراثي عبارات راسخة في الذاكرة الجمعية ، ففي الصفحة الثالثة يقتبس من سورة الرحمن الآية الآتية : (يقيمون الوزن بالقسط ولا يبخسون الميزان) وفي الصفحة السادسة (إن النفس لأمارة بالسوء) وفي الصفحة الثامنة والثلاثين يقتبس بتصرف من سورة الغاشية (هل أتاكم حديث جدي) وفي الصفحة الخامسة عشرة ( وما أدراكم ما حيث السفن ). ومن الإنجيل يقتبس اكثر عبارات السيد المسيح شيوعا (الحق أقول لكم) ومن الحديث النبوي يضمن خطابه اكثر الأحاديث تحد (والله لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري).. الخ..

ومثلما استخدم العبارات والآيات والأحاديث لبلورة مناخه التراثي استخدم الشعر العمودي والزجل والأناشيد الملحمية والسجع وهذه كلها منحت لغته القدرة على تأكيد هويتها القومية . اما شخصيات الرواية ، إذا استثنينا الراوي الحفيد والراوي الجد وهما شخصيتان معاصرتان فان بقية شخوص الرواية يمثلون مرحلتهم التاريخية ويشكلون مع العناصر التراثية الأخرى قوة فعالة ومؤثرة في تأصيل « دومة الجندل « كعمل روائي عربي . اما استخدام الكاتب لأسلوب الحكايات ، وهو أسلوب تراثي طاغ على السرديات العربية فقد نجح في خلق الممهدات اللازمة لدخول القارئ الى عوالم (الجندل) الغرائبية والكابوسية الرهيبة حيث يمارس القمع كطقس يومي يؤذن للراعي، فيه، بالتلذذ في تعذيب رعيته وإمعانه في إذلالهم ولي أعناقهم بوسائل بشعة وأساليب قذرة وطرق لم تخطر على بال أحد من قبل ولا من بعد. وعلى الرغم من أن موضوعة القمع لم تكن جديدة على الرواية العربية الا أن «الجندل « جاءت بجديدها من أساليب القتل والتعذيب التي ليس لها سابقة في تاريخ القمع وسفك الدم.

في الحكايات الأولى يروي لنا جهاد مجيد قصته « فاتك بك « الذي فتك بأهل الدومة وسلط سيفه على رقابهم وأذلهم. [بقر بطون الحوامل ، ومزق صدور الفتيات وافتض جنده الكواعب والغلمان ، سلب كل خيراتها وحملها في السفن الى بلاده القصية بعد ان اصطبغت مياه نهرها وسواقيها وبركها بالدم ، ترك فيها جلاوزته يحكمونها بالنار والحديد ; فكانت اجمل نساء دومة الجندل تعرض نفسها على أحقر جنده لقاء كسرة خبز أو يروين عطشا.

افتض جنود فاتك بك كل عذارى دومة الجندل حتى صغيرات السن ، فاصدر رئيس جلاوزته أمرا منصفا يقضى بمنع الجند من مواقعة البنات الصغيرات دون عمر الخامسة.]

وروي أيضا : إن اهل الدومة أكلوا القطط والكلاب والجرذان حتى انقرضت كلية وصار من المألوف لديهم انتظار موت المرضى ليتقاسموا جثثهم . وروي ان امرأة اشتكت عند رئيس الجلاوزة جيرانا ظلموها إذ قطعوا أختها التي تحتضر واقتسموها دون ان يعطوها من جثة أختها سوى الرأس .

إن هذه الحكاية مهما بدت غريبة رهيبة في ظاهرها الا أنها تحمل جواز وقوعها في أي زمان ، وأي مكان مشابهان لزمانها ومكانها . إنها تعكس كابوسية نظام غاز موغل في العنف والعسف والقمع والشراسة والارهاب والاغتصاب.

في الحكاية الثانية يأمر حاكم الدومة « محب الدين الشرابي «جنده أن يدخلوا سيخا في دبر خصمه « نامق اوزبكي «ويخرجوه من فيه ، ويعلقوه على السفود ويقلبونه على نار حامية أوقدت لشي لحمه الحي . ان الصرخات الحيوانية المدوية التي أطلقها « نامق اوزبكي « اختلطت بقهقهات خصمه المدوية فعكست صورة بشعة من صور التعذيب الوحشي التي ترضي في الآخر ساديته و رغباته التدميرية . ان الكاتب يعرض في هذه الحكاية ، حالة الفعل التدميري « إدخال السيخ « وحالة رده الانعكاسية «قهقهات الشرابي « بعد ان قام بتبديل هاتين الحالتين وتغيير مواقعها بشكل معاكس لما في الحكاية الأولى التي وقع اثر الفعل فيها على اهل الدومة لخصوم لغازيهم . اما في الحكاية الثالثة فانه يعرض الحالتين معا ، من خلال شخصية واحدة هي شخصية « مسرور « صلاب دومة الجندل الذي اسقط اثر الفعل ، الشنق ، على المحكومين من اهل الدومة بسهولة ومهارة ، وهو يمازحهم ويلاطفهم موصيا إياهم أن يسلموا له على الذي أرجحهم ، من قبل ، بهذا الحبل ، كحالة أولى ; ثم وقوع اثر الفعل نفسه عليه « على مسرور « عندما تحول الى محكوم بالإعدام كحالة ثانية . لقد رفس الأرض وقاوم وحرن ولم يستطع خليفته في مهنة الشنق « مأمون « أن يقوده الى حبل المشنقة الا بمشقة بالغة . وعندما أوقفوه تحت الانشوطة جمدت عيناه المتطلعتان اليها وسكن جسمه وشرع سرواله بالتبلل ثم خر على الأرض ( انحنوا عليه ، حاولوا إنهاضه .. فما استطاعوا .. جس مأمون نبضه وخاطبه قائلا :

ـ سلم لي على الذين ارحجتهم في هذا المكان ، سأرسل لك سلامي مع من يلحقونك... ).

ان خوف (مسرور) وانهياره أمام رهبة الموت ، بعد آن كان يمارس تلك الرهبة على الآخرين . وتشبثه بالحياة يكشفان عن وجهي العملة القاسيين ويساويان ، من حيث الشعور الإنساني المستفز ، بين الصلاب والمصلوب فالكل هنا يتساوى مع الكل أمام قسوة الموت المصنعة بشريا . والكاتب يخفي وراء هذه الرهبة هدفا تطهيريا « كثارسيس “.

في رابع حكايات المدخل يأخذ الموت شكلا جماعيا لا يقل كابوسية عن الحكايات السابقة، وفيها يجهز الشرابي الأخير جيشه للقيام بحملة ضخمة على أقوام مفككة فيعبأ كل ما يملك من سفن بكل ما يملك من عدة وعدد. غير أن الأقوام المفككة اتحدت بعضها مع بعض وجابهت عدوها المشترك وأوقعت به هزيمة ما بعدها هزيمة إذ قطعوا رؤوس جند الشرابي وأعادوها بالسفن نفسها الى دومة الجندل. وما ان وصلت الدومة حتى شاع خبرها وراح كل واحد يبحث عن رأس ابن له او قريب. ردعتهم الشرطة ولم تفلح فتمادت في رمي الرؤوس المقطوعة الى النهر. اذ ذاك هتف شيخ في النساء والأطفال والشيوخ ان يدعوا الرؤوس ويهبوا الى الشرابي الأخير ليقطعوا رأسه. وقد تمكن ثابت الأزرق من إلقاء القبض عليه وشده الى عمود في ساحة المدينة طالبا من الناس ان يتقدموا منه ليبصق كل واحد منهم على وجهه وليضربه بنعاله كي ينتزع من نفوسهم الرهبة التي زرعها اسم هذا الظالم الظلوم الشرابي الأخير.

في نهاية المدخل او قبل ذلك بقليل يتحول سرد الأحداث من الراوي الأول، السارد، الى الراوي الثاني الناقل للأحداث . أي انهما تبادلا مواقعهما ثم اختفى السارد الأول ليحل محله الناقل الثاني وليتحول الثاني، بعدها، من النقل الى السرد ثم الى المساهمة الفعلية في أحداث الحكاية. التي جعلها في أربعة أبواب:

قمع المازوكيين:

والمازوكيون،هنا، مجموعة متجانسة طبقيا وفكريا ،اتصفوا بمقدرتهم الفائقة على تحمل صنوف التعذيب وصمودهم ضد كل اشكال الإبادة الجماعية ، وهذا يفسر لنا وجود حكايات عديدة لهم تنتهي كلها بالفواجع الرهيبة و الدمار و القتل والإبادة الجماعية . وإمعانا في الإيهام بواقعية هذه الحكايات جعلها مسندة بالوثائق المهمة والمراجع والمصادر ككتاب « رحلة الى الشرق « للرحالة الفرنسي ترنيفيه والمفوه الكندي في كتابه « بلوغ المرام في الكشف عن مصارع الأنام « فضلا عن إسنادها بأقوال الراويين.

المازوكيون عموما أناس مسالمون يرومون الى تحقيق افضل وضع إنساني لدومة الجندل وحريصون على أن لا يتسببوا في إيذاء أحد بما في ذلك رجالات السلطة الذين بالغوا في تشريدهم وإذلالهم والاقتصاص منهم ، على الدوام ، وتلويث سمعتهم واتهامهم بالكفر والزندقة والتمرد والتآمر.. الخ.

خلفيات الصروح القمعية:

إذا قيض لنا إعادة قراءة الصفحات الأول لهذا الفصل البائي فأننا نجد أن الكاتب أعطى لنا وصفا دقيقا للمكان ، وهو هنا صرح الشرابية ، بطريقة توهمنا ان الراوي الحفيد انما ينقل لنا ما يشاهده بمعية الراوي الجد مشاهدة حية ومباشرة لا لتثبيت تفاصيل صورة الصرح في ذهن المتلقي كمعالم عمرانية وطرز بنائية ، بل ليملئ الذهن بتأثيراته الدرامية عن أحداث جسام كانت جوانب الصرح وأركانه وأروقته تشكل خلفية متجانسة معها . ناهيك عن قاعاته الكثيرة مثل قاعة العرش وقاعة انتظار الوفود وقاعة الخاصة وقاعات أخرى ، فلكل قاعة من تلك القاعات خصوصية ، ولكل برج من أبراج الصرح الدائرية او النصف دائرية حادثة ، ولكل شرفة من شرفه العالية حكاية ، ولكل قبو من أقبيته الكثيرة سره الدفين . فالأبراج الأربعة النصف دائرية والأبراج العشرة المستديرة شيدت لأغراض تزيينية في ظاهرها ودفاعية في باطنها . وهكذا هو حال الصرح بشكل عام فهو جميل مبالغ في جماله ظاهريا ومثير لخوف ورهبة الناظر اليه والداخل اليه باطنيا.

قمع المطبق:

في هذا الفصل الجيمي يتناول الكاتب. على لسان صداح الدومة حالة أخرى، أو شكلا من اشكال القمع والتعذيب والترهيب خارج المطبق يتماثل قليلا او كثيرا مع شكل قمعي آخر داخل المطبق فصداح الدومة ومطربها الغريد كان صوته ينطلق حرا عذبا يداعب أوتار قلوب الدوميين فيهيمون طربا بصوته ونشوة بأنغامه . فهو سلوة الدومة ومتنفسها الوحيد . وبعد ان خنق هذا الصوت داخل الشرفة الشرابية (واجهة القمع) لم يعد كما كان حتى ان نساء القصر أمطن اللثام عامدات عندما مررن من تحت الشرفة الشرابية وسماعه يغني على أنغام عوده الجريح . ففي أمسية من أماسي الدومة هاجمت قوات الشرابي دار صداحها ملقية القبض عليه وزاجة إياه في المطبق داخل غرفة مكتظة برجال هم من اشرف رجالات الدومة وأكثرهم إخلاصا وتمسكن بها وعملا في سبيل سعادتها ودوام عزها وثبات مجدها. لقد التقى صداح الدومة بالمازوكيين وسمع صرخات الألم تنطلق حادة جراء شييهم بالماء الحار. وأنينهم الطويل وهم يساطون بقسوة وشراسة فشعر بالخوف يخترقه ويتوغل الى أعماقه من كل مسامات جلده . خوف بلا حدود.

ومن الجدير بالذكر ، هنا ، ان صداح الدومة هو الذي قام برواية حكايته مباشرة مما جعل المسارات الحكائية تتوزع بين الراوي الأول « الجد « والراوي الثاني « الحفيد « وصداح دومة الجندل.

القمع الكيساني:

بعد تثبيت ابشع صور القمع الكيساني يقوم الراوي الحفيد في آخر الحكاية بالتجوال في شوارع دومة الجندل مشاركا في وقائعها كشخصية من داخل الحدث لا من خارجه . يتعرف على مقاهي الدومة وشوارعها ودور عدالتها.. الخ.. ويجد كل شئ تماما كما وصفه الراوي الجد باستثناء أهل الدومة الذين صاروا يزعمون ان المدينة مدينتهم وان اسمها الكيسانية ولا وجود للدومة الا كأطلال مندرسة فيتأجج الصراع حول حقيقة هذه المدينة بينه وبين أهل الكيسانية . ويجد الكيسانيون في هذا الرجل عنادا شديدا وإصرارا على ان هذه المدينة ما هي الا دومة الجندل فينهالون عليه ضربا وركلا ويقذفون به الى السجن ليواجه تعذيبا دوريا حد الإغماء . وفي ساعات صحوه من العذاب كان يحدث المسجونين سائلا إياهم : لماذا يخافون!؟ أهناك أسوأ مما هم فيه!؟ فيقولون والألم يعتصر قلوبهم نعم.. هناك آلات التعذيب . ثلاثون آلة تعذيب متخصصة ، بطرق مختلفة في تقطيع ومعالجة الجسم البشري، ومن تلك الآلات العجيبة الرهيبة المثرمة والمعصرة والمكبسة والمبسملة والمقشرة والمحرقة والمذبحة والمسلخة والمطمرة .. الخ .. ومن حسن حظ الراوي انه ليس من آهل الكيسانية فوالي المدينة لا يريد مشاكل مع الغرباء لذا أخذوه بقوة والقوا به من حيث أتى. ان مساهمة الراوي في أحداث الحكاية ، بهذه الطريقة ، سهل المهمة أمام الكاتب لربط الحاضر بالماضي والاستدلال، من خلال هذا الربط، على ان القمع مورس ، بأساليب مختلفة على مر العصور وان دومة الجندل ، بعد ذلك المخاض العسير ، تجلت في الأذهان حلما يجنح الكل الى تحقيقه ولو بعد حين.