من ذكريات كرادة مريم (المنطقة الخضراء) في الجيل الماضي .. من هي (مريم)؟

من ذكريات كرادة مريم (المنطقة الخضراء) في الجيل الماضي .. من هي (مريم)؟

زاكي جمال الشوك

قرأ صادق:: تمتد كرادة مريم على طول شاطئ دجلة الغربي بين موقع جسر الأحرار الحالي شمالاً حتى نهر الخر جنوباً. أما عرضها فمن شاطئ النهر حتى سكة حديد بغداد – البصرة. وكانت تحدها سابقاً (سدة المسعودي). وهذه السدة بنيت في العهد العثماني الأخير لحماية بغداد الغربية من فيضان نهر الفرات. وقد زالت من الوجود آخر بقايا هذه السدة منذ حوالي عشرين عاماً.

هذا خبر مفيد جداً يلقي ضوءاً على الحد الغربي للأرض المشتراة التي جاء ذكرها في الوثيقة، أعني طرق المسعودي. وقرأ صادق أيضاً: ومن هذا نعلم أن كرادة مريم تتبوأ منبسطاً فسيحاً من الطرف الجنوبي الغربي لمدينة بغداد. على أن الجزء الأعظم من هذه المساحة كان إما بوراً متروكاً وإما أرضاً مزروعة...

وقال: يتضح من هذا أن أرض المسعودي هي الحدود الغربية لمدينة بغداد. وهي الحدود الغربية أيضاً لأرض أجدادنا. أما بشأن كرادة مريم فهي كانت أرضاً بوراً وبساتين مزروعة. والبساتين ربما كانت متأخرة. وسيهمنا أن نعلم متى زرعت هذه البساتين.

ثم قرأ صادق: هناك ضريح يقع في وسط المنطقة، وينسب إلى السيدة مريم بنت عمران والدة المسيح، ومنه استمدت كرادة مريم اسمها. والمرجح أن هذا القبر يعود إلى امرأة صالحة من نساء العهد العثماني اسمها مريم. وقد التبس الأمر على الناس فشاع بينهم أنها السيدة العذراء. وكان أهل الكرادة يقدسون ضريح مريم تبعاً لهذا الظن. واتخذوا من الأرض التابعة له مقبرة لأكبادهم.

وقبل أن يواصل صادق قراءته، قاطعه أخوه كريم قائلاً: – هذا يعقد المسألة علينا. من هي مريم هذه؟ وكيف دفنت هنا؟ لا أظن أن لنا صلة بهذه المرأة، فمن أين جاءت؟ هذا الموضوع يتطلب دراسة. فمن يفيدنا بهذا الصدد؟ المرشحون لتقديم معلومات حول هذا الموضوع لم يعودوا على قيد الحياة. أنا في ذهني أسماء، مثل مصطفى جواد، وأحمد سوسة، وفؤاد عباس، وجلال الحنفي، وهادي العلوي... نحن ندخل في متاهة بعد أخرى.

ثم سألنا صادق إن كنا نحب أن يقرأ لنا شيئاً عن الكسلة، فأكدنا رغبتنا في ذلك.

ثم قرأ صادق: – يقترن اسم كرادة مريم بالكسلة المشهورة، التي كان يحييها أهل بغداد. كان مقر ضريح مريم بنت عمران في الكرادة مزاراً لتسلية أهل بغداد في مناسبتي الكسلة من كل عام. كانوا يجتمعون حوله في الجمعة الأولى بعد عيد الفطر، والجمعة الأولى بعد عيد الأضحى. وهذه هي الكسلة... عندما يحين موعد الكسلة في كرادة مريم كان الناس يزحفون، منذ الصباح الباكر، نحو ضريح السيدة مريم من كل جهة من جهات بغداد، حتى تضيق بهم البساتين والحقول المحيطة بالضريح. ويأتي مع الناس الباعة المتجولون بأنماط من الأطعمة والمشتريات، وهواة الطرب ويكون يوماً مشهوداً يفوق في صخبه ومسراته أيام العيد. أما أصل الكسلة فمجهول...

وقلت أنا: – اللفظة تذكرنا بكلمة «كسل». وبالتالي التكسل. ونحن لا نعلم متى بدأت الكسلة. لكنني أعتقد أنها انتهت في أثناء الحرب العالمية الثانية عندما عسكر الجيش البريطاني في أراضي كرادة مريم. هل تذكرونها؟

أجاب كريم فقط: – أنا أذكرها، وأذكر العربات التي تجرها الخيل التي كانت تكتظ بالنساء القادمات من الأحياء الأخرى. وكيف أن الرجال من أقاربنا كانوا ينعتوهن بأمهات كراع، لأن أذرعهن كانت مكشوفة.

قرا صادق: ومن الأعمال الرئيسية لأهل الكرادة بيع الفجل. وكانوا يسمونه (أبو خوصة الذهب)، دلالة على الربح الوفير الذي يتحصل من بيعه... وليس في الكرادة حوانيت ولا عطارون بل كانوا يذهبون إلى أسواق الشواكة وعلاوي الحلة لشراء ما يحتاجونه. ثمة مواد كان أهل الكرادة يحصلون عليها مجاناً، وكانت عندهم في حكم المشاع. وهذه هي التمر، والدبس، واللبن، والتكي، والمخضرات، والفجل، والنبق، والحطب. وهو يبيعون هذه الأصناف للبغاغدة، ولا يتبايعون بها في منطقتهم... وكانوا إلى زمن قريب يتحرجون من شراء ثلاثة من هذه الأصناف المشاعة، وهي التمر، والتكي، والنبق، ويعتبرون الحصول عليها بطريق الشراء أمراً غير طبيعي...

– هذا لم يعد صحيحاً في أيامنا، قال كريم، أنا أتكلم عما عشته وشهدته منذ أيام الحرب العالمية الثانية. وفي كل الأحوال نحن كنا نسكن في الشمال من الكرادة، ولم نكن نعتبر من أهالي الكرادة. نحن كنا نعرف بلقبنا فقط. وكنا نشتري التكي من باعته الذين يجنونه من أشجار التوت المعمرة في الصدر. وكان باعته يعلنون عن بضاعته بالكلمات التالية، كما تعلمون: «بارد العنب، بارد.

– نعم، قلت أنا.

ثم قال كريم: – أما النبق فلا أذكر أنه كان يباع. لأنه كان ينمو في الكثير من بيوت وحدائق بغداد. تذكرون النبقة في ما يمكن أن يسمى حديقة في بيتنا، كانت تثمر نبقاً فاخراً.

ثم قلت أنا: – لكن أروع النبق ما كان يحصل عليه تلامذة مدرسة المنصور الابتدائية عندما يجدونه متساقطاً من أشجار النبق في الطرف الأخير من ساحة المدرسة، وكان أخي وليد يحمل إليّ حبات منه.

هذه أشياء افتقدناها بعد ذلك، بما في ذلك التوت المذهل في حلاوته وحبات ثمره. لكن ألذ شيء افتقدناه هو تمر السكْريات خلف بيت عمي عباس، التي أظنها يبست، أعني النخلات، حتى قبل استملاك الأرض لبناء فندق ميليا منصور.

وقلت لكريم: – أنت تذكر هذا البيت عندما تحول إلى بيت أو قصر أشباح. وقد تزوج فيه أبوك أيضاً، وعمي حسن.

أنا أريد أن أنتقل إلى شارعنا، شارع العجائب، لكنني أشير قبل ذلك إلى القصور الثلاثة القريبة من قصر جدي التي بنيت بعد أن باع جدي أرضها، وهي قصرا خضوري، وحييم، اليهوديين، وقصر ستيفان الأرمني ابن قنصل روسيا القيصرية في بغداد في العهد العثماني. وقد أصبح قصرا خضوري وحييم مقر القيادة البريطانية بعد دخولهم بغداد في الحرب العالمية الأولى. وبعد انتقال الانكليز من هذين القصرين إلى سفارتهم التي بنوها في الكريمات، أقام عبد المحسن السعدون في قصر خضوري، وأظن أنه هناك أنتحر.

وأنا سأنتقل إلى شارعنا الذي يبدأ، كما تعلمون من قصر خضوري الذي كان له مدخلان، مدخل في مواجهة النهر، والمدخل الآخر عند مبتدأ شارعنا، الذي تعارف عليه الناس بأنه شارع الديواني، ويتعامد مع شارع كرادة مريم الذي كان يسمى يومذاك شارع المنصور.

وتعلمون أن البريطانيين احتلوا العراق مرة أخرى في الحرب العالمية الثانية بعد حرب رشيد عالي الكيلاني في 1941. وعسكروا في أرضنا. وكان مقر قيادتهم في بيت عمي محمد والبقجة الملاصقة له. وسأعود إلى موضوع البقجة، ولعلها كلمة تركية أو فارسية تقال للحديقة. وكان مطعم المعسكر البريطاني في بنقلة خلف منزل عمي محمد. وتذكرون كيف كان الجنود الهنود يطرقون على أبوابنا مرددين كلمتي دُك دُك بحثاً عن بنات الهوى.

أريد أن أعود إلى أوائل الثلاثينات، حيث بدأ العمران في «البستان» على جهتي شارعنا الذي شق في تلك المرحلة. أبي بنى بيتين في الطرف الأبعد من الشارع، أي ملتقاه مع شارع الكرادة. وعمي عباس بنى البقجة مقابل بيتينا، التي تشتمل على مشتمل وحديقة على هيئة بستان زرعت فيها كل أصناف الأشجار المثمرة. واستطيع أن أقول أن بناء البقجة كان حدثاً جديداً وغريباً في عالم البناء. هي لم تُبنَ للسكن فيها، بل لتحقيق المتعة. لا أذكر أن أحداً بنى شيئاً مثلها. كان عمي عباس من أكثر آل الديواني ثراء. كان يملك بيتاً، ثم بنى بيوتاً أخرى في شارعنا، وله أملاك في الصالحية. وهو كان صاحب كيف. بنى البقجة ليدعو إليها المغنيات والراقصات وبنات الهوى. وكان له معارف من بين الوزراء والموظفين الكبار، مثل صالح جبر الذي أصبح رئيساً للوزراء في أيام الوثبة. أنا لا أذكر جيداً ما كان يدور في البقجة. أخي وليد كان يحدثنا عنها بانذهال. كانت البقجة عالية الأسوار. وكان ما يجري فيها مقصوراً أول الأمر على عمي عباس وجماعته من الأكابر الذين كانوا يتحرجون من الذهاب إلى الملاهي. كانت الراقصات والمغنيات يأتين إليهم في البقجة. وكان عليوي البلّام يُعد لهم سمك المسكوف في أكثر من صينية، بتكليف من عمي عباس. كانت هذه الدعوات تقام مرة في الشهر أو مرتين. كان يسمح لأخي وليد الدخول إلى هذه البقجة في أوقات خلوها من الزوار. البستان بحد ذاتها غابة من أشجار المشمش والخوخ والتفاح والحمضيات والعنب. وهناك النخلتان الأشرسان أيضاً. مرة واحدة أطل أخي وليد في صحبة محمود ابن عمي عباس من سياج بيت عمي محمد الملاصق للبقجة، وذهل بما رأى. كانت أول مرة يرى فيها رقصاً نسائياً. هذا كان في الثلاثينات. وكانت تلك أول مرة يشاهد فيها نساء سافرات ونصف عاريات.

عن كتاب (أوراق بغدادية) ــ دار المدى