هيلاري مانتل: لماذا أصبحتُ روائية تاريخية؟

هيلاري مانتل: لماذا أصبحتُ روائية تاريخية؟

ترجمة: أحمد لطفي أمان

«هل هذه القصّة حقيقية؟». القرّاء، لا محالة، يسألون. في أولى محاضراتها، من سلسلة محاضرات «ريث-Reith» التي تقدمها هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، تستكشف المؤلِّفة الحائزة، مرتين، على جائزة «مان بوكر» العلاقة المعقَّدة بين التاريخ، والحقيقة، والخيال.

يقول القديس أوغسطين: الموتى غير مرئيين. إنهم ليسوا غائبين. لستَ بحاجة لأن تؤمن بالأشباح حتى ترى أن هذا صحيح. إننا نحمل جينات أسلافنا وثقافاتهم، وما نعتقده بحقَّهم يشكِّل الطريقة التي نرى بها أنفسنا، والطريقة التي نستوعب بها زماننا ومكاننا. أهذه عصور طيّبة، أم عصور سيئة، أم عصور شائقة؟ نعتمد على التاريخ ليخبرنا. التاريخ والعلم، كذلك، يساعدانا على أن نضع حيواتنا الصغيرة في سياق، لكن إن أردنا لقاء الموتى، وهم في هيئة الأحياء، فإننا نتجه إلى الفنّ.

هناك قصيدة لـ «و.ه. أودن» تدعى «بينما تمشيتُ ذات مساء»:

تدقُّ كتلةُ الجليدِ بالدولاب،

تتنهدُ الصحراءُ في السرير،

والشرخُ في فنجان الشاي يشقُّ

ممرّاً نحو أرض الموتى

هذه المحاضرة غرضها السؤال عمَّا إن كان هذا الممر هو شارعٌ ذو اتجاهين. إننا، في المخيلة نطارد الموتى صارخين: «عودوا!». قد تشتبه الأصوات التي نسمعها بصدى لصوتنا، وتشتبه الحركة التي نراها بظلنا، لكننا نستشعر قوةً حيويةً، ما يزال الموتى يمتلكوها. إن لديهم شيئاً ليخبروننا به، شيئاً نحتاج لفهمه. مستخدمين الأدب والدراما، نحاول اكتساب ذلك الفهم.

في هذه المحاضرات، آمل أن أبيّن أنه توجد أساليب نستطيع استخدامها. أنا لا أدعي أنه يمكننا سماع الماضي أو رؤيته، إنما أقول: بإمكاننا الإنصات والنظر.

هَمّي- بصفتي كاتبة- هو الذاكرة، الذاكرة الفردية والجماعية: الأموات المؤرَّقون بتفنيد ادعاءاتهم. عائلتي تاريخها شحيح. ذات مرّة، قال لي واحدٌ من الجمهور: «أنا آتٍ من سلالة طويلة من النَكِرات». ففكرت: نعم، وأنا أيضاً. إنني لا أستطيع العودة إلى أبعد من أُمّ جدتي، من ناحية الأم. لكني أود أن أعرّفكم بها، كمثال، لأنها اجتازت الزمن من نهاية القرن التاسع عشر، كي تكوّن وعيي بذاتي، في هذه اللحظة من القرن الحادي والعشرين، حتى النكرات يمكنهم فعل ذلك.

كانت أم جدتي ابنةً لباتريك، وزوجةً لباتريك، وأُمّاً لباتريك. لا جوائز لأجل تخمين أصولها، إذاً(1). كان اسمها كاثرين أوشيه، وحياتها المبكرة أمضتها في بورتلو-Portlaw، قرية قائمة حول مطحنٍ قرب «ووترفورد- Waterford» في جنوب أيرلندا. كانت بورتلو مكاناً اصطناعيّاً، أُنشئ لغرض من قِبل عائلة تتبع جمعية الأصدقاء الدينية(2)، وتدعى عائلة مالكولمسون، أفرادها يعملون في الشحن والذرة والقطن والكتان. افتُتح المطحن عام 1826. في وقت من الأوقات، كانت بورتلو نشطة جدّاً، حتى أنها استقدمت عمالة من لندن.

كان آل مالكولمسون رأسماليين أخلاقيين، ومولعين بالتحكّم في الحياة الاجتماعية. أُعدَّت قريتهم وفق تخطيطٍ كان مثاليّاً للمراقبة، فبُنيت بحيث يمكن لشرطي واحد متمركز في الميدان، أن يرصد الشوارع الخمسة جميعها. أسس آل مالكولمسون مجتمع ادّخار(3)، ومجتمع إمساك عن الخمر، وصرفوا لعمالهم الأجور، جزئيّاً، في هيئة إيصالات من ورق مقوى، قابلة للاستبدال عند متجر الشركة. حين لمّحت جريدة محلّية إلى أن هذا نوعٌ من العبودية، فقاضاها آل مالكولمسون، وربحوا.

ما إن انقضى القرن التاسع عشر، حتى تراجعت المنسوجات، وخسر آل مالكولمسون أموالهم. وفي عام 1904، أُغلق المطحن؛ الوقت الذي- بحلوله- كانت عائلتي، مثل كثيرين آخرين، قد بدأت هجرةً متثاقلةً، على مراحل.

اثنان من إخوة كاثرين رحلا إلى أميركا، وعلى الطريقة العريقة لم يأتِ منهما نبأٌ، بعد ذلك، مطلقاً. كاثرين كانت شابة متزوّجة، عندما جاءت إلى إنجلترا، إلى قرية أخرى تقوم حول مطحن، هي «هادفيلد – Hadfield». كانت مثل بورتلو، خضراء رطبة ومظلَّلة بالتلال. بقدر ما أعرف، لم تغادرها أبداً؛ لذا لا بدّ من أنها تساءلت: هل العالم كلّه على هذه الشاكلة؟.

بيتها الأوّل كان في شارع يدعى «ووترسايد – Waterside»، لسنوات عديدة، مسرحاً لمعارك طقوسية في ليالي الجُمعات، بين عصابات المحلّيين والوافدين. إنني لا أعرف أي شيء عن حياة كاثرين، تقريباً. أظن أنه عندما يكون لدى امرأة عشرة أطفال، فإنها تقضي على احتفاظها بحياة خاصة. صورة واحدة تبقى لها. تقف عند عتبة منزل مرصوص بجوار غيره، ومبنيّ بالحجارة، تغطيها تنورتها من الخصر إلى الكاحل، شالها الممزق يغطي البقية. لا أستطيع أن أقرأ وجهها أو أن أجد له صلةً بوجهي.

أتصور أنني أعرف أين التُقطت الصورة. كان هناك صف من المنازل المطلة على ووترسايد، ظهرها ضِمن أسوار المطحن. في وقتٍ ما هُدمت المنازل، لكن توجَّب بقاء الواجهات قائمةً؛ لأنها كانت جزءاً من جدار المطحن. سُدَّت النوافذ والأبواب بقوالب من الحجارة؛ وبمرور الوقت، لأكون على قيد الحياة وأراها، كانت هذه الحجارة الجديدة بلون المطحن نفسه: أسود. لكن، كان بإمكانك أن ترى أين كانت الأبواب والنوافذ. عندما كنت طفلة، صعقتني تلك المنازل كنذير شؤم: صورة للخداع والفقدان.

بابُ منزلٍ ما ينبغي أن يؤدِّي إلى بيت. لكن، وراء هذا الباب كان الحيّز العام لباحة المطحن. عن طريق دراسة التاريخ- لنقُل تجربة الهجرة، أو تجارة المنسوجات- يمكنني أن أحدد مكان كاثرين على المستوى العام، لكني عاجزة عن الوصول إلى أفكارها. أُمّ جدتي لم تكن تستطيع القراءة أو الكتابة. بقي قولٌ من أقوالها: «جُعل النهار للأحياء، وجُعل الليل للأموات».

أفترض أن هذا ما كانت تقوله لتحافظ على الأطفال العشرة منضبطين، بعد حلول الظلام. بعد سنواتها الأولى، حسبما أفهم، لم تعد كاثرين تعمل في المطحن، لكن بلغني أنه كان لديها دور محدد في محيطها: كانت المرأة التي تجهّز الموتى قبل الدفن.

لمَ نفعل هذا، أو نعيّن أحداً لفعله؟ لماذا نغسل وجوههم ونلبسهم ثياباً مألوفة؟ إننا نفعل هذا كرمى للأحياء. حتى إن لم يكن لدينا معتقد، فلا نزال نؤمن بأن من هو إنسان يجب أن يظل يُعامل كإنسان. لاحظ السخط إذا دُنّس جثمان، وعذاب أولئك الذين لا أجساد بحوزتهم ليدفنوها. إنه- تقريباً- تعريف أن نكون بشراً: نحن الحيوانات التي تقيم الحِداد. واحد من أهوال الإبادة العنصرية هو المقابر الجماعية، مراكمة الإنسان المحبّ الحييّ مع شيء مشاع ملتبس مجرَّد من الاسم.

التأبين عملية حيوية، وكثيراً ما تكون محل جدال. عندما نخلّد ذكرى الأموات، إنما نكون تواقين، أحياناً، للحقيقة، وأحياناً لوهمٍ مُعَـزٍّ. نحن نتذكر بطريقة فردية، بدعوى الأسى والحاجة. نتذكر، كمجتمع، بأجندة سياسية؛ ننقب في الماضي عن الأساطير المؤسِّسة لعشيرتنا، لأمتنا، ونرسخها بالفخر أو نرسخها بالمظلومية، لكن قلّما نرسخها على حقائق فاترة.

إن الأمم تُبنى على نُسخٍ طموحةٍ من أصولها: قصص من نوعٍ أو آخر، كان أسلافنا فيها عمالقة. هكذا، نعيش في العالم: رومانسيين. يوماً ما، كانت الرومانسية، في معارف أرستقراطيين وهيئةٍ سرّية، هوى أن تكون جزءاً من صفوة. الآن، الرومانسية في الحرمان، والاغتراب، في المسافة الممتدة بين هناك وهنا: أو- لنقُل- بين أم جدتي وأينما أكون أنا، اليوم. إن للحقائق رواجاً أقل، وتأثيراً أقلّ على ما نكونه وما نفعله، ممّا لدى الخيالات التي نصنعها لأنفسنا.

حالما نموت، نصير ضمن عالم الخيال. فقط، اطلبْ من فردَي عائلةٍ، مختلفين، أن يحكيا لك عن أحدٍ توفي مؤخَّراً، وستفهم ما أقصد. ما إن نفقد قدرة التعبير عن أنفسنا، حتى نُؤوَّل. وحين نتذكّر- مثلما يخبرنا كثيراً علماء النفس- أننا لا نعيد إنتاج الماضي، بل نبتكره. بالطبع، قد تقول: بعض الحقائق غير قابلة للفصال، وقائع التاريخ ترشدنا، والوثائق- بالفعل- تأتي ببعض الوقائع والشخصيات التي لا تقبل الخلاف. لكن المؤرِّخ «باتريك كولينسون – Patrick Collinson» كتب: «إنه لمن الممكن أن يصل مؤرِّخون أكفاء إلى استنتاجات مختلفة جذريّاً، استناداً إلى الدليل نفسه. لأن، 99 ‌% من الأدلة، وعلى رأسها الكلام غير المسجَّل، ليست متاحة لنا، بطبيعة الحال».

الأدلة، دائماً، جزئية. الوقائع لا تمثِّل الحقيقة، وإن كانت جزءاً منها؛ فالمعلومات ليست هي المعرفة. والتاريخ ليس الماضي؛ إنه النمط الذي طورناه لتنظيم جهلنا بالماضي. إنه سِجلّ ما تبقَّى مسجَّلاً. إنه مخطَّط المواقع المتخَذة في أثناء الرقص، عندما نوقف الرقصة لندوّنهم. إنه ما يبقى في الغربال حين تكون قد نفذت، خلاله، القرون: القليل من الأحجار، قصاصات من كتابة، قصاصات قماش. إنه ليس «الماضي» إلّا إنْ كانت شهادة الميلاد بمثابة ميلاد، أو أن نَـصّاً هو بمنزلة أداء، أو أن خريطة هي بمنزلة رحلة. إنه التضاعف لأدلة شهود متحيزين وغير معصومين من الخطأ، مخلوطة مع سرديات ناقصة، لأفعال لم تُفهم كليّاً من قِبل مَن قاموا بها. إنه لا يعدو أن يكون أقصى ما بوسعنا، وفي كثير من الأحيان نعجز عن الوفاء بذلك.

المؤرّخون، أحياناً، مدقّقون وواعون بأنفسهم، أحياناً مهملون أو متحيّزون. مع هذا، في كلتا الحالتين، لا نكاد نتبين إحداهما من الأخرى، إننا نتنازل لهم عن المسؤولية الأخلاقية. همّ لا يختلقون عن عمد، ونحن نصدّق أنهم يحاولون تبليغ الحقيقة، لكن الروائيين التاريخيين يواجهون أسئلةً- كما هو متوقَّع- عمّا إذا كان عملهم شرعيّاً. ما من نوع آخر من الكتّاب عليه أن يوضح حرفته مراراً، هكذا، فالقارئ يسأل: أهذه القصّة حقيقية؟.

ذلك يبدو سؤالاً بسيطاً، لكن يجب علينا أن نكشف عنه غطاءه. في كثير من الأحيان، يسأل القارئ: هل بإمكاني أن أتأكد من هذا في كتاب تاريخ؟ هل يتوافق مع سرديات أخرى؟ هل كان سيقرّه معلمي القديم للتاريخ؟.

قد تكون الفكرة المحرّكة للروائي هي تفكيك النسخة السائدة، لكن القرّاء مخلصون، بشكلٍ يثير الشفقة، لأوّل تاريخ تعلّموه، وإنْ أنت طعنتَ فيه، فكأنك تسلب منهم طفولتهم. بالنسبة إلى شخص ينشد السلامة والصلاحية الرسمية، فإن التاريخ هو المكان الخطأ لإعمال النظر. أي تاريخٍ ذي شأن يكون في حالة دائمة من المساءلة الذاتية، تماماً، مثلما هو أي أدبٍ ذي شأن. القارئ، إذا سأل الكاتب: «هل لديك أدلة تدعم قصتك؟»، ينبغي أن يكون الجواب: نعم. لكنك تأمل أن القارئ سيكون متفطناً للأنواع العديدة الموجودة من الأدلة، وكيف يمكن استخدامها.

من غير الممكن وضع قاعدة أو معيار للممارسة القويمة، لأنه توجد أنواع عديدة للغاية من الرواية التاريخية. لدى البعض الطابع الوثائقي، آخرون أقرب إلى الخيال. لا يُشغِل كلُّ كاتبٍ نفسَه بالأشخاص الحقيقيين والأحداث الحقيقية. في سلسلة رواياتي الحالية عن أسرة تيودور(4)، أتتبّع- بدقة- السجل التاريخي حتى يتسنى لي تقديم العالم الخارجي بأمانة، رغم هذا، أخبر قارئي بالشائعات، وألمّح إلى أنّ الأخبار، أحياناً، تكون مفبركة.

لكن انشغالي الأساسي يكون بالدراما الداخلية في حيوات شخصياتي. من التاريخ، أعرف ماذا هم فاعلون، لكن لا يمكنني- بأي تأكُّد- معرفة ما يفكرون به أو يشعرون. أية رواية، ما إن تنتهِ منها حتى تعجز عن فصل الواقع عن الخيال. إنها أشبه بمحاولة إرجاع المايونيز للزيت وصفارِ بيض. إن أردتَ أن تعرف كيف أُنشئتْ، سطراً بسطر، فإن ما أخشاه هو أن يكون أملك الوحيد أن تسأل المؤلف.

لهذا السبب، بعض القراء مرتابون- بشدة- من الرواية التاريخية. يقولون: إنها، بطبيعتها، مضللة. لكنني أزعم أن القارئ يعلم طبيعة العقد. عندما تختار روايةً لتحكي لك عن الماضي، فإنك تضع، بين قوسين، السرديات التاريخية، التي قد يتوافق بعضها مع بعضٍ أو لا يتوافق، وتطلب، عازماً، تأويلاً شخصيّاً. أنت لا تشتري مستنسَخاً، ولا حتى نسخةً مصوَّرة أمينة(5). أنت تشتري لوحة فيها ضربات باقية من الفرشاة. للمؤرّخ، يقول القارئ: «خذ هذه الوثيقة، القطعة، الشخص. أخبرني ماذا يعنون؟». للروائي، يقول: «الآن، أخبرني ماذا يعنون أيضاً؟».

تعرف الروائية موقعها. إنها تمضي في عملها عند نقطة تلاقي ما هو قائم بما هو حلم، عند تلاقي السياسة بعلم النفس، وحيثما يلتقي الخاص بالعام. إنني أقف بصحبة أم جدتي عند العتبة. أقتحم السور الزائف. على الجانب الآخر، أربط قصتي الشخصية بالقصّة الجماعية. أتحرك خلال الحيّز المنزلي، وأخرج نحو الحيز التجاري الجامح لباحة المطحن: السوق، ومحل تداول النميمة، والشارع، ومبنى البرلمان.

بدأتُ كتابة الروايات في السبعينيات، عند النقطة التي اكتشفت فيها- للمفارقة- أنني أريد أن أكون مؤرّخة. فكرت أنني بسبب حماقتي، وأنا في عمر السادسة عشرة، لم أكن أعرف ما أكتبه في استمارة تقديمي للجامعة، فقد ضيعت فرصتي؛ لذلك إن كنت أريد العمل مع الماضي، يتعيَّن علي أن أصير روائية، وهو الأمر الذي يمكن، بالطبع، لأي أحمق، أن يفعله.

خلال السنة الأولى أو السنتين الأوليَيْن، تعرضت لشعورٍ بالدونية الحضارية. شعرت بأنني- أخلاقيّاً- أدنى من المؤرخين، وأدنى- فنيّاً- من الروائيين الحقيقيين الذين بوسعهم نسج الحبكات، في حين كان عليَّ، فقط، أن أعرف ماذا حدث.

في تلك الأيام، لم تكن الرواية التاريخية محترمةً أو جديرة بالاحترام. كانت تعني رومانسية تاريخية. لو قرأتَ رواية عبقرية كرواية «أنا، كلوديوس – I, Claudius»، التي تدور أحداثها في روما القديمة، فإنك لا تصمها بالنوع الأدبي؛ تنظر إليها باعتبارها أدباً فحسب؛ لذا كنتُ أخجل من تسمية ما أفعله. على أي حال، لقد بدأت. أردت أن أجد رواية تستهويني عن الثورة الفرنسية. فلم أجد، فشرعت بكتابة واحدة.

لم أكن في سعيٍ لنتائج سريعة. كنت مستعدة للنظر في جميع المواد التي يمكنني العثور عليها، حتى مع علمي أن ذلك قد يستغرق سنوات. لكن الذي لم أكن مستعدة له، كان الفجوات، والمحو، ولحظات الصمت حيث كان ينبغي وجود أدلة.

هذه اللحظات من الصمت والمحو جعلت مني روائية، لكني، في أول الأمر، وجدتها- ببساطة- مربكة. لم أحب أن أختلق أشياء؛ ما سبَّب لي نقطة ضعف. في النهاية، هرعت نحو وضعٍ انتقالي أرضاني. لسوف أختلق لرجلٍ عذاباته الداخلية، لكن ليس، مثلاً، لون ورق الحائط في حجرة الرسم الخاصة به؛ لأن أفكاره يمكن، فقط، تخمينها، حتى إن كان مدوّناً لليوميات أو كاتب اعترافات، فقد يكون ممن يُخضِعون أنفسهم للرقابة الذاتية. أمّا ورق الحائط، فشخصٌ ما، في مكانٍ ما، قد يعلم الشكل واللون، وقد أعرف إذا واصلتُ السعي إليه. وحينها، عندما يعود ثائري إلى بيته مرهقاً، بعد مناظرة دامت 24 ساعة في المؤتمر الوطني(6)، ويرمي بحقيبته في أحد الأركان، سيكون بوسعي أن أدير النظر في الحجرة، من خلال عينيه. حينما صدر كتابي، في نهاية المطاف، بعد سنوات عديدة، إذا بناقدٍ خبيث- وكان يُلزِمني حدودي بوصفي امرأة تكتب عن رجال يخوضون في شؤون سياسية جادة – يشتكي أن في الكتاب الكثيرَ عن ورق الحائط. صدقوني، كنت أعتقد- بكلّ أمانة- أنه أقل كثيراً مما يكفي.

في الوقت المناسب، فهمت أمراً، هو أنك لا تصير روائيّاً لكي تغزل أكاذيبَ مسلية، إنك تصير روائيّاً لتتمكن من قول الحقيقة. أنا أبدأ في ممارسة حرفتي عند النقطة التي تنهار فيها القَناعات تجاه الرواية الرسمية. إن بعض القصص تحتمل أن يعاد حكيها. إنها تفرض إعادة حكيها فرضاً. خذ، مثلاً، الأيام الأخيرة في حياة آن بولين – Anne Boleyn: تستطيع أن تحكي تلك القصّة تم تحكيها مرات عديدة. أن تُخضِعها لمئات التعديلات، ولكن يظل بادياً أن هناك قطعة مفقودة من الأحجية. تقول: «أنا واثقٌ من أنني أستطيع أن أبلي بلاءً أفضل، المرة القادمة»، يم تبدأ من جديد. تنظر إلى النتيجة، فتدرك، مرةً أخرى، أنه بينما كنتَ توثّق وثاق جزءٍ من الحقيقة، فرَّ جزءٌ آخر إلى البرّية.

مع هذا، تطلَّب الأمر مني وقتاً كي أصل إلى أسرة تيودور. خلال غالبية مسيرتي المهنية، كتبتُ عن أناسٍ غريبين وهامشيين: وسطاء روحيين، أو متدينين، أو من ذوي الاحتياجات الخاصة، ونزلاء المصحّات والإصلاحيات ودور الرعاية، أو أخصائيين اجتماعيين، أو فرنسيين. قرّائي كانوا عُصبةً صغيرةً ومنتقاة، إلى أن قررت التقدم نحو منتصف ساحة التاريخ الإنجليزي، وغرستُ راية.

الحقبة التيودورية، بالنسبة إلى الباحثين، لا تزال بؤرةً لجدلٍ محتدم، أمّا بالنسبة إلى العامّة فهي تسلية سائغة. وهناك رفوف كانت ملأى بروايات عن هنري الثامن وزوجاته. لكن لا يمكن لروائي أن يقاوم زاوية غير مستكشَفة. غيّرْ زاوية الرؤية، وستكون القصّة جديدة. من بين كُتاب الأدب القصصي، لم ينازعني أحدٌ على هذه المنطقة. الكل كان مشغولاً، يزرع لنفسه مكانةً كدخيل.

سنوات عديدة، ونحن مهمومون بنزع المركزية عن «سرديتنا الكبرى grand narrative». قد أصبحنا عاطفيين حيال المقطوعين من شجرة، المكسورين، أولئك الذين بلا صوت، ومتشككين حيال الرجال العظماء، مستخفين بالأبطال. هكذا، تطوّر تقصِّينا للدراما البشرية: بدايةً تذهب الآلهة، ثم يذهب الأبطال، ثم إذا بنا متروكون صحبة أنفسنا المدنَّسة المفضوحة.

فيما تكتسب معرفةً وتقنيةً بصفتك كاتباً.. فيما تكتسب وعياً ذاتيّاً ضروريّاً بخصوص حرفتك، تفقد بعضاً من متانة علاقتك بالماضي النابعة من الطفولة. حين كنت طفلة، كان الماضي يبدو لي أنه قريب، وكان يبدو لي أنه أمر شخصي. تحت كلّ تاريخ، يوجد تاريخ آخر، يوجد- على الأقلّ- حياة المؤرِّخ. لهذا دعوتُ أمّ جدتي لهذه المحاضرة، لأنني أعرف أن حياتي تؤثِّر في عملي. بإمكانك اعتبار الروايات جميعها تعويضاً نفسيّاً عن حيواتٍ لم تُعَش؛ فالرواية التاريخية تَنتُج عن نهمٍ في خوض التجارب. فضول عنيف يدفعنا، يأخذنا بعيداً عن زمننا، بعيداً عن شاطئنا، وكثيراً ما يكون خارج نطاق بوصلتنا.

يجعلك السعي وراء الماضي، سواء أكنت روائيّاً أم مؤرخاً، تعي مخاطر لامعصوميتك وتحيُّزك المتأصّل. إن كاتب التاريخ هو أثرٌ يمشي على قدمين، هو شخصٌ مغترب، يستخدم أساليب اليوم ليحاول معرفة أشياء عن الأمس لم يعرفها الأمسُ عن نفسه. يجب عليه أن يحاول العمل متثبِّتاً، مستمعاً إلى كلمات الماضي، متواصلاً لكن بلغةٍ يفهمها الحاضر. المؤرِّخ وكاتب السير وكاتب الروايات يعملون ضمن حدود مختلفة، لكن على نحو مكمِّل، لا متضاد. حرفة الروائي ليست اختلاق الأشياء، فحسب، إطلاقاً.. وحرفة المؤرِّخ ليست تكديس الوقائع، ببساطة، إطلاقاً؛ فحتى أكثر الأبحاث جموداً واعتماداً على البيانات، تتضمّن عامل تأويل. إن بحثاً عميقاً داخل الأرشيفات يمكن تأديته في هيئة جداول أو قوائم، بواسطة مؤرخين فيما يخاطب بعضهم بعضاً. لكنهمّ، لمخاطبة جمهورهم، يستخدمون الأدوات نفسها التي يستخدمها الحكّاءون: الانتقاء، والدمج، والتنسيق الخلاق. قال مؤرِّخ القرن التاسع عشر، «اللورد ماكولي – Lord Macaulay»: «التاريخ يجب أن ينطبع في المخيلة، قبل أن يمكن تلقّيه بالعقل». إذاً، كيف نعلّم التاريخ؟ هل الأمر عبارة عن مجموعة من القصص، أم مجموعة من المهارات؟ كلاهما، أعتقد. نحتاج أن ننقل القصص، وأن نمنح المهارات- أيضاً- لكي نفسِّخ القصص، ونصنع قصصاً جديدة.

لنستعيد التاريخ، نحتاج إلى صرامة، ونزاهة، وإخلاصٍ سخي، ونزوعٍ إلى الشك. لنستعيد الماضي، يُتطلَّب منا كل تلك الفضائل، وشيءٌ زيادة. إن أردنا قيمةً إضافية (أن نتخيل ليس، فقط، كيف كان الماضي، بل كيف بدا من الداخل) فإننا نختار رواية. المؤرِّخ وكاتب السير يقتفيان آثاراً من أدلة، آثاراً ورقية، عادةً. يفعل الروائي هذا، أيضاً، ثم يؤدّي عملاً آخر: يعيد الماضي إلى سيرورته، إلى الحركة، يحرّر الناس من الأرشيف، ويتركهم يهيمون، يجهلون مصائرهم، حيث كلّ أخطائهم لم تقع.

ليس بوسعنا أن ننحّي التنظير جانباً. إنه لمن المستحيل، الآن، كتابة رواية تاريخية ذكية، دون أن تكون رواية تأريخية، رواية تأخذ في الحسبان طريقةَ عملٍ خاصّة بها. لكنني حاولت أن أجد سبيلاً للتحدث عن الماضي دون أن أستعمل، يوميّاً، مصطلحات مثل «التأريخ». لقد أصبحت روائية لأختبر الفضيلة بكلماتٍ، كانت لتتعرف عليها أمّ جدتي، من تلك الرحلة التي قطعتها من أيرلندا إلى إنجلترا، من مكان أخضر رطب إلى آخر: كلماتٍ مثل: خيط، ونول، ولُحمة، وسَداة(7).. كلماتٍ مثل: رصيف الميناء، وسفينة، وبحر، وحجر، وطريق، وبيت.

المصدر: أُذيعت عبر راديو بي بي سي، ونُشرت في الغارديان البريطانية، بتاريخ 3 يونيو 2017.

عن مجلة الدوحة