وحيدة خليل .. أميرة الأغنية الريفية

وحيدة خليل .. أميرة الأغنية الريفية

أبواب - زياد عساف

جمع من الرجال أشبه ب (رادار ذكوري ) وقفوا ينصتون لغنائها من خارج سور الحديقة الخاصة بالنساء فقط، وكل الظن أنها في مأمن عن هذه النظرات ، كُشَفَ الأمر عندما راحت تشدو لصديقاتها رائعة أم كلثوم :

أنا في انتظارك ، حتى صاح هذا الحشد الفضولي من وراء السياج تعبيراً عن شدة الإعجاب : ألله .. ألله يا أم كلثوم البصرة ! ، ومن شدة الإرتباك لم تجد أمامها سوى الهروب من الباب الخلفي تسبقها دموع الخجل من هذا الموقف المفاجيء ، إلا أنها تحولت بعد سنوات لدموع الفرح مع كل نجاح حققته كمطربة شهيرة عرفها الجمهورها لفترة طويلة بلقب ( وحيدة خليل ) ، و تبدَّل الزمان ، حتى جاء اليوم الذي تنتظر به من يدق بابها دون فائدة ،مواسيةً نفسها وهي تردد باستمرار أغنيتها الشهيرة المعبرة عن واقع حالها :

أمس واليوم ما مروا عليَّا .. أمس و اليوم أدِّب واصفق بايديَّا ! .

عمرها الحقيقي ظل لغزاً محيراً أخفته عن الجميع ، يبقى التاريخ الأدق لميلادها عام 1914 حسب ماورد في حلقة من برنامج : (زنود الست) والخاصة بمشوار حياتها ، في مدينة البصرة كانت الولادة و النشأة وعاشت طفولتها برعاية أمها بعد وفاة والدها ، ولم ينجب والديها غيرها لذلك اّثرت أن تطلق على نفسها لقب : وحيدة بدلاً من إسمها الحقيقي : مريم عبدالله جمعة .

فرقة الخشابة البصرية

لكل تجربة بداية تشير لموهبة صاحبها ، ففي بواكير حياتها ألفت الإستماع لصوت الملاية و أجواء الطقوس الحسينية في عاشوراء ، و ل( فِرَقْ الخشَّابة ) في مدينة البصرة ، والمعني بالخشَّابة هم العمال الذين يصنعون السفن والقوارب الخشبية وأصبح لديهم مع الوقت لوناً غنائياً خاصا بهم ، ومنهم بدأت وحيدة تحفظ مايرددونه من أغنيات ، في عمر ثماني سنوات تمكنت من شراء طبْلة صغيرة من خلالها أصبحت تجيد العزف على الإيقاع و بإتقان.

أفلام أم كلثوم الشهيرة بالإضافة لأفلام ليلى مراد ، كان لها التأثير الأكبر في ولعها بالغناء وواظبت على مشاهدتها في صالات البصرة ولأكثر من مرة في الأسبوع الواحد ، وتحفظ الأغاني لترددها لاحقا في البيت و المدرسة ، و على رأي المثل ( إذا ذاع صيتك إفرش و نام ) ، نالت وحيدة شهرة بين الأهل و الجيران ، و بدأوا يطلبونها لتحيي أفراحهم متطوعة وبدون مقابل ، حصولها على الأجر بدأ مع تحولها للعمل في الأندية والملاهي مقتصرة غنائها على أعمال كوكب الشرق و المطربة العراقية سليمة مراد ، نقطة التحول في مشوارها برزت عندما لبَّت دعوة للغناء في بيت أحد وجهاء مدينة العمارة وهو الشيخ محمد العريبي ، وفي هذه الأجواء استمعت للغناء الريفي العراقي على أصوله ، ليصبح فيما بعد اللون الذي باتت تعرف به طيلة مسيرتها الغنائية .

يا يمه ثاري هواي..

البحث عن الشهرة دفعها للسفر لبغداد ، وراحت تهفو لبريق عاصمة الرشيد و أضوائها يحدوها الأمل بالوصول للإذاعة ،هذه الأمنية تحققت بواسطة أحد المعارف ولاقى صوتها القبول و الإستحسان ، وغنت للجمهور عام 1950 و على الهواء مباشرة ( يا يمه تاري هواي ) من ألحان ناظم نعيم ورشحها له الموسيقار عباس جميل ، وكما يبدو فأن ظهور المطربة العراقية لميعة توفيق فيما بعد يعتبر علامة فارقة أو مقلقة بالنسبة لها ، خشية على المكانة و التقدير اللتان حظيت بهما وحيدة وجعلها متربعة على عرش الأغنية النسائية في العراق لفترة من الوقت ،ولاقت على إثرها الإهتمام و الرعاية من الإذاعة العراقية بسبب ندرة الأصوات النسائية القديرة وقتها .

أعمالها الأكثر تميزا جاءت على يد الملحن عباس جميل مبدع أغلب أغانيها وحققت بها نجاحاً تشهد له الساحة الغنائية في العراق ، ومنها : أنا و خلي تسامرنا و حكينا ، لا هو جرح ويطيب ، أمس و اليوم ، على بالي أبد ، أقولك لو عواذلنا تقول لك ؟ بسكوت أوِّن ، ماني صحت ، كان الحلو بعيني ، لو غاب الاسمر ، أما الألحان الأخرى فكانت من إبداع أشهر الموسيقيين العراقيين أمثال : محمد نوشي ولحن لها : سبحان اللي جمعنا من غير ميعاد ، هذا منو دق الباب ، وحظيت بألحان جميلة أخرى لكل من : روحي الخماش ، جميل بشير ، محمد عبد المحسن ، كاظم الحريري ، عباس الغمري ، خزعل فاضل و محمد جواد أموري ،هذه الأعمال نظمها شعراً أهم مؤلفي الأغاني ممن تألقوا في هذا المجال اّنذاك ومن بينهم : جبوري النجار ، ابراهيم وفي ، سيف الدين ولائي ، جودت التميمي، رشيد حميد ، عباس العزاوي ،مجيد معروف ، جاسم محمد ، أحمد القيسي ، سبتي الطاهر و اسماعيل جودت .

شجن ..

رغم محدودية طبقات صوتها إلا انها استطاعت تعويض ذلك بالبحة الجميلة في غنائها ،وشفافية الأداء والشجن الغير مفتعل كما يحدث الاّن وبنسبة كبيرة بين المطربين في البلاد العربية ، ينصفها في ذلك ويقطع الشك باليقين بالإستماع لأعمالها التي تعد بالمئات ومن بينها : حرت والله بزماني ، عليمن ياقلب تعتب عليمن ، ضيعت ثلثين عمري على مودك ، احزن حزن معدان ، شتأمل ، عين بعين ع الشاطيء تلاقينا ، ويل قلبي ، ما اقدر أحاكيك ، بس دمعة بقت بالعين ، منين ابديلك و اسولف قصتي ، يا اهل الهوى هنونا ، هب يا نسيم الهوى ، تقطع الدلال ، روحي ما تبطل عليك ، هذا الوعد و المكتوب ، ع الولف ساهر دوم ، برافا أمشي برافا ، من مثلي يهوى اليهواه خاطر ، وياك اشحكينا ، جنيت و اتعنيت ، ما بدل زماني الحال ، تاليها ع الحبلين تلعب ، غريبة و انا ما بين أهلي ، حيرني القلب ، سطرين بوسط دلالي مكتوبة ، المصايب ما لون غير لوني ، وسفه على فرقاكم ، هنا يالحادي ، خي لاتروح بساع ، ركضت الأغصان، وليفي و ادور عليه ، مستاهل يا قلبي ، غريبة غريبة ، قلبي هيه ، أبكي و اهل العين .. مضيع بالعرب صوبين ، زمان أنا و خلي ، وين وعودكم يا احباب قلبي ، ريض يا حادي ومن وصلك من دلاك.

يا أرضنا ..

في الوقت نفسه قدمت بعض الأغنيات التي تعكس طابع الفرح والتفاؤل ومنها : ليل الفرح لذ وطاب ، ليلة من ليالينا البديعة ، على نور القمر ، يا أهل الهوى هنونا .. زارونا اللي يحبونا ، يا ناس ولفي قمر ، التشبث في الأرض قيمة عزيزة على كل إنسان خاصة من المزارعين أبناء طبقتها ، من هنا راحت تتغنى بالأرض : طالت غيبتك يا اسمر علينا و أغنية : يا أرضنا ..يا أرضنا ، و التي تم تسجيلها لبرنامج خاص بالزراعة ، ولها من أغاني الأعراس : عريس و بزفة عرس .

في التلفزيون كان لها بعض التسجيلات القديمة صورتها باستوديوهات التلفزيون العراقي ، و أغنيات أخرى تم تسجيلها لصالح التلفزيون الكويتي و من ضمن حفلات قدمتها في الكويت في زمن الأبيض و الأسود ، وخدمها الحظ في البدايات بتعاقدها مع شركة اسطوانات وسجلت من خلالها مجموعة من أعمالها .

فجر الحرية ..

لايخف على المستمع ما تكنه وحيدة خليل لأمها التي بذلت مجهوداً كبيراً في رعايتها و شدت وفاء لها:يمه و حق عينك ما أنسى طيبك ..كلك وفا و إخلاص زاكي حليبك ،ليَّه يحفظك ربي يا يمه ، وموال : يمه راسي وجعني قومي شديه ..ترى شد الغريب مانفع بيه ، ومن نوعية الأغاني الخاصة بهدهدة أو تنويمة الطفل قدمت أغنيتها المتميزة : دللول .

السينما العراقية لم تساهم بالترويج للمطربين العراقيين كونها لم تتخط حدودها الجغرافية وظلت سينما محلية لم تنتشر عربيا ، وحيدة خليل كان لها مشاركة وحيدة و يتيمة بفيلم : فجر الحرية انتاج عام 1962 ، للمخرج محمد منير عبد الحكيم ، وتمثيل عارف الزبيدي و عائدة أحمد و محمود شكري و حسيبة حسن ، وغنت بهذا العمل أغنيتها المعروفة : هذا منو دق الباب ، وشاركت أيضا بمجموعة مواويل في الأوبريت الإذاعي : غيدة و حمد .

أعذار ..

” أميرة الأغنية الريفية ” لقب لازمها طيلة مشوارها الفني لتميزها ووفائها لهذا اللون والذي تعبر به عن البيئة الريفية التي نشأت بها ، وحافظت عليها بالإنطلاق من التراث الريفي واللهجة الشعبية الخاصة بأهل منطقتها وظهورها على المسرح باللباس الشعبي أيضا ، ساهم بذلك تأثرها في البداية بأشهر رواد الأغنية الريفية أمثال :حضيري أبو عزيز و داخل حسن و مسعود العمارتلي ،ظلت وفية لهذا النهج فبرغم عشقها لصوت أم كلثوم وليلى مراد و أسمهان كما سبق ، إلا أنها لم تفكر بتقليدهن كما يحدث الاّن ، و يحسب لها بأنها مزجت بين الغناء البغدادي و الريفي .

حاولت االترويج للأغنية العراقية وسافرت لتقديم حفلات في بلاد عربية و أجنبية مثل :لبنان وسوريا والأردن و تركيا و بلغاريا بريطانيا وأمريكا ، في سنواتها الأخيرة لم تعد تطلب للإذاعة و التلفزيون ، وواجهت اختلاق الإعذار و الإعتذار عن تسجيل أغاني جديدة أو إعادة تسجيل أغانيها القديمة ، وغيرها من أنصاف المواهب من المطربات يحصلن على فرص كثيرة للتسجيل وعلى فترات متقاربة ، ووافتها المنية في تسعينيات القرن الماضي مغيبة عن وسائل الإعلام ، وحتى جيرانها المقربين لا يعرفونها حسب ما ورد في لقاء صحفي أجري معها منذ مدة طويلة .

أريد أوقف بحي الولف ..

البحث في مشوار مبدعي الفنون يأخذ الباحث و المستمع لعوالم الغناء العربي الجميل ، ومن أهم المزايا الماثلة للعيان بهذا المجال يبرز التنوع بطرح المواضيع و المواقف والتي تميزت بها الأغنية العربية ، و يسترعي الإنتباه واحدة من أغنيات وحيدة خليل بعنوان ( أريد أوقف بحي الولف ) ، وهي تحكي عن موقف ورد في العديد من الصور الغنائية ، ويتعلق بتوجه الإنسان أو تحويل خط سيره نحو الأماكن التي تربطه بذكريات مؤثرة مع محبيه ، أو ما يطلق عليه بالوقوف على الأطلال ،مع تنوع و اختلاف الأسباب لكل فرد ، وبهذا الصدد تشدو وحيدة في هذه الأغنية :

أريد اوقف بحي الولف وين الولف ؟

أصرخ واحشِّم كل هله اّه من هله

واصيح وين أهل الرحم

وين اللي يحل المشكلة ؟!.

نازل يا قطار الشوق ..

ومن العراق أيضا وفي صورة غنائية مماثلة غنى عبد الجبار الدراجي :

نازل يا قطار الشوق

نازل هاي ديرتنا

فوق من المحطة فوق

خلها تصير نزلتنا .

ومن قطار الدراجي إلى الطائرة التي يستقلها فهد بلان الذي راح يستسمح الطيار :

طوِّل عمرك يا طيار .. حوِّملي فوق هالتلِّه

تا ودِّع ولفي و الجار .. من بعدا طير و علِّي

أما محمد عبد المطلب فيذهب باليوم مرتين قاطعاً هذه المسافة الطويلة :

ساكن في حي السيدة و حبيبي ساكن في الحسين

و عشان انول كل الرضا يوماتي اروح له مرتين

م السيدة لسيدنا الحسين .

وعند مروره على بيت الحبايب غنى محمد عبد الوهاب :

مريت على بيت الحبايب

من اشتياقي أناجي أهله

ما دام مليك القلب غايب

وفي التلاقي يبخل بوصله .

يا دار ..

ومع محمد رشدي كان الشجن و التأثر باديا في غناءه لحظة مروره في البيت القديم :

في البيت القديم و نفس المكان

في البيت القديم ونفس الجيران

لسه الكلام اللي احنا كنا بنرسمه فوق الحيطان

لسه باقي حاجة منك غصب عني و غصب عنك

رغم بعدك والزمان لسه ريحتك في المكان

في البيت القديم ! .

وعند دار الولف عادت وحيدة خليل مرة أخرى تشكو وحدتها :

ِّيا دار وين الولف يا دار دليني

ليش الولف وحدي مخليني

ياعين هلِّي الدمع صبي على جروحي .

نصري شمس الدين وعند مروره بمدينة طرطوس السورية أشار للسائق بالوقوف وفي داخله خوف من شيء ما عبر عنه مغنيا:

وقفلي خليني بوس شبابيك الحلوة في طرطوس

يا بيتا المضوي ع البحر بقلبي و عينيي محروس

دخلك يا أحلى عينين إصحي تقولي غايب وين

بدي زورك من شهرين مسكتني مرتي ومحبوس ! .

عن جريدة الرأي الاردنية