هاشم صالح يدرس حال العرب بين النور والظلمات

هاشم صالح يدرس حال العرب بين النور والظلمات

شكيب كاظم

ثمة مصادفات جميلة تغير مسيرة شخص ما، وتضيف إلى منجزاته، منجزات أُخَر، قد لا تخطر على بال، فتشاء هذه المصادفات الحاسمة في حياة البشر، أن يُرسَل هاشم صالح المعيد في جامعة حلب، سنة 1976 إلى فرنسا للدراسة في السوربون، لغرض الحصول على درجة الدكتوراه، كان هذا فاتحة عهد جديد أمام هاشم صالح، الذي تعرف على المفكر الجزائري محمد أركون، الذي سيمسي أستاذه المشرف على كتابة أطروحته في النقد الأدبي.

وكان طبيعياً أن يتقن اللغة الفرنسية، بل يحذِقُها، وأضحى يكتب بها إلى جانب لغته الأم، العربية، هو يرى ضرورة اللغة الثانية وحتى الثالثة للباحث والدارس، لأنها تفتح أمامه آفاقا واسعة، قد لا يكون بِمكْنة اللغة الواحدة تلبيتها، إن من لا يجيد لغة ثانية أشبه بالأمي، حصل أن اشترك في مؤتمر ثقافي في فرنسا، وشاءت أمور أن تسود اللغة الإنكليزية في مناقشات هذا المنتدى، فألفى هاشم صالح نفسه أشبه بالأمي، هو الذي يجيد الفرنسية إلى جانب لغته العربية، لكن تحول النقاش في المؤتمر إلى استخدام الإنكليزية، أشعره بضعفه، فما بالك بمن لا يجيد حتى لغته القومية؟

تلمذته للمفكر والفيلسوف محمد أركون، وقربه منه فتحت أمامه آفاقا واسعة، فضلا عن إجادته الفرنسية، فأمسى يقرأ ما تغدقه المطابع الفرنسية، مؤكداً أنه يقرأ ثلاثة أو أربعة من الكتب في الشهر، وتولى ترجمة الكثير من مؤلفات أركون، وإذ يسأله سائل لماذا لم تترجم كتب أركون كلها؟ يجيب بدقة العالم وتواضعه؛ إنها تحتاج لجهد مترجمين، وليس مترجما واحداً، واصفا إياه بأكبر مفكر في الإسلام المعاصر، منذ عهد العمالقة الكبار: الفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وابن خلدون، وإنه لم يعد يهدف إلى تحقيق الإصلاح من داخل القفص العقائدي المغلق، وإنما أصبح يهدف إلى تفكيك هذا القفص والخروج منه كلياً، وهو ما فعله فلاسفة الأنوار في أوروبا بدءا من سبينوزا في القرن السابع عشر. أما لماذا يصفه بأكبر مفكر في الإسلام المعاصر؟ فلأنه مفكر صعب وعالم كبير متبحر في العلم، وإنه استطاع أن يجلب اهتمام كبار الباحثين الفرنسيين، والوقوف عند منجزه.

التعريف بكتب مهمة

يرى هاشم صالح في كتابه «العرب بين الأنوار والظلمات.. محطات وإضاءات» الذي أصدرت دار المدى طبعته الأولى سنة 2021، إن فضيلته الأولى في كتابه هذا، تقديمه عروضا لمجموعة من الكتب الفرنسية، التي اتيح له الاطلاع عليها، وتعريف القراء العرب، الذين لا يعرفون الفرنسية، وإذا أجادوها فصعوبة الحصول على الكتاب الفرنسي في العالم العربي، واضعين في الحسبان كسل حركة الترجمة العربية، فضلا عن قلة المترجمين، الذين يُحكّمون الضمير والوجدان في عملهم، مؤكداً أن من لا يعرف سوى العربية، لا يمكن أن يتوصل إلى فتوحات الحداثة، والفكر البشري بشكل عام، لقد أصبح شخصاً أميا تقريباً! لقد تعرفنا من خلال هذا الكتاب على عدد وافر من المفكرين والفلاسفة الفرنسيين، أعترف بتواضع أن أسماءهم تطرق ذاكرتي للمرة الأولى: إدغار موران، جان دورميسون، لوك فيري، جيل غاستون غرانجيه، برنارد ديسبانيا، ريمي براغ، نيلز بور، توماس كن، جان ستون، عالم اللاهوت السويسري الشهير هانز كونغ وغيرهم، فضلا عن مفكرين عرب ومسلمين: عبد الوهاب المؤدب، فتحي سلامة، مالك شبل، رشيد بن زين، يوسف الصديق، عبد النور بيدار، المازري حداد، المفكر الباكستاني فضل الرحمن وغيرهم، كما أنه عمّق معرفتنا بالكثير من الفلاسفة والمفكرين العرب والمسلمين والأوروبيين: الفارابي، ابن رشد، ابن خلدون، جيل كيبل، سبينوزا، كانط، لايبنتز، ديكارت، فولتير، ديدرو، مونتسكيو، جان جاك روسو، آرنست رينان، نيتشه، سارتر، مورغان هابرماس، جاك دريدا، بول ريكور، كارل بوبر، التوسير وغيرهم كثير.

وإذ ذكر هاشم صالح «اعترافات جان جاك روسو» ضمن الكتب التي يجب قراءتها قبل فوات الأوان، فإنه يؤكد أهمية هذا الكتاب بفصل عنوانه (ما هو أعظم كتاب أثر فيّ في فرنسا؟) مؤكداً أنه أعظم اكتشاف له منذ وصل فرنسا سنة 1976، ولو لم يقرأ غيره لكفاه فخرا، ولما ذهب مجيئه لبلاد فولتير وموليير سدى، أما لماذا يعطيه الأهمية؟ فلأنه مفعم بالنزعة الإنسانية.

كتب غيّرت وجه التاريخ

هاشم صالح في كتابه هذا «العرب بين الأنوار والظلمات» المولود سنة 1950، في إحدى قرى محافظة اللاذقية، أمضى نحو ثلاثة عقود في فرنسا، قبل أن ينتقل للعيش في المغرب، يعقد فصلا عن الكتب التي غيرت وجه التاريخ، ولأنه يرى صعوبة النص على كتب بعينها، غيرت وجه التاريخ ووجهته، فإنه يقسمها إلى أبواب: أولا أمهات الكتب العلمية؛ ومنها كتاب «أصل الأنواع» لدارون، و»تفسير الأحلام» لفرويد، فضلا عن كتب لباشلار و»كيف أرى العالم؟ » لأنشتاين.

ثانياً: أمهات الكتب الفلسفية، واقفا عند كتاب «مقال في اللاهوت السياسي» لسبينوزا، فضلا عن كتاب «اعترافات جان جاك روسو» وبقية كتب روسو ذات النزعة الإنسانية العميقة، التي يفضلها على كتب نيتشه، لكن أسلوب نيتشه يسحره.

ثالثاً: الروائع الأدبية، واقفا عند أشعار أبي تمام الطائي والمتنبي والسياب وخليل الحاوي، ونجيب محفوظ وروايات تولستوي، فضلا عن كتب سيتحدث عنها في فصل (ما هي الكتب التي ينبغي أن تقرأها قبل فوات الأوان؟).

ورابع الكتب التي غيرت وجه التاريخ؛ أمهات الكتب التنويرية للدين، أو المنورة له، وهي الأكثر إلحاحا وضرورة للعالم العربي، فلا يمكن أن يخرج من ظلماته وعتماته من غيرها، فالمعركة فكرية قبل أن تكون سياسية، مؤكداً ضرورة الوقوف عند كتب محمد أركون، لأنه سيغير وجه التاريخ العربي الإسلامي، إن فهم على حقيقته.

أغلب الباحثين والدارسين يقتنون الكثير من الكتب، واستغرب من الأعداد الهائلة التي تحتويها مكتبات بعضهم، وأتساءل مع ذاتي، هل بمكنة الإنسان مهما أوتي من وقت وتفرغ وراحة بال، أن يقرأ هذه الكتب كلها؟ حتى إذا انطوى العمر البشري القصير، رأيت الحسرة بادية على الوجوه، أن لم يستطع قراءة جُلّ، ولا أقول كل هذه الكتب التي اقتناها، لذا أؤكد ضرورة الدقة في اختيار الكتاب المقروء، والاستغلال الأمثل للوقت، وها هو المفكر المغربي محمد عابد الجابري، يطلقها حسرات مدويات، أن لم يستطع قراءة كل ما رغب في قراءته، لذا فإن المفكر الباحث هاشم صالح، الذي في شطحة من شطحاته، التي تشبه شطحات المتصوفة، ينزع عن نفسه صفة المفكر الباحث، واصفا نفسه بالقارئ فقط!

أقول: يكتب هاشم صالح فصلا جميلا يضع خبرته بين أيادي القراء مُبصّرا إياهم بضرورة قراءة كتب بعينها قبل فوات الأوان، وانصرام سنوات العمر القليلة سراعا، مشيرا إلى رواية «دون كيشوت» لسرفانتس، وثانيا: كتاب «ألف ليلة وليلة» وثالثا: «رسالة الغفران» لعبقري العباقرة؛ أبي العلاء المعري، وكتاب «البخلاء» للجاحظ المعتزلي رابعاً، وخامسا: اعترافات جان جاك روسو، وقد دفعني هذا الفصل لقراءة الجزء الأول من الاعترافات، التي صدرت سنة 1957، ضمن مطبوعات (كتابي) التي كان يشرف عليها ويصدرها حلمي مراد، وتولى ترجمة الأجزاء الخمسة، محمد بدر الدين خليل – والكتاب من خزانة كتب المرحوم أبي – وقد نقلها المترجم بلغة أنيسة مأنوسة، تدفعك لإعادة قراءة بعض النصوص مرات عدة، ثم يواصل تقديم كتب قرأها بالفرنسية، ولم تترجم إلى العربية، فلم أجد سببا يدفعني لذكرها.

وكان لا بد للباحث أن يعقد فصلا عن أستاذه في السوربون؛ محمد أركون، واصفا إياه بأكبر مفكري الإسلام المعاصر، لأنه جاء بفكرة – فضلا عن فتوحاته الفكرية الأخرى – أن العرب المسلمين قد عرفوا التنوير والنزعة الإنسانية الحضارية، قبل الغرب الأوروبي بقرون، على أيادي الجاحظ والتوحيدي ومسكويه وابن سينا والفارابي والمتنبي والمعري وابن العربي وعشرات العباقرة، قبل إيطاليا وأوروبا بقرون عدة، لكن انطفأت هذه الحركة بسقوط الدولة العباسية، وتصدي بعضهم لهذه الحركة التنويرية ومنهم الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» الذي سيرد عليه ابن رشد في كتابه «تهافت التهافت». هذه النظرية الأركونية أثارت جدلا بين الدارسين الأوروبيين، الذين يرون أسبقية أوروبا في هذا المجال.

وإذ ذكر هاشم صالح «اعترافات جان جاك روسو» ضمن الكتب التي يجب قراءتها قبل فوات الأوان، فإنه يؤكد أهمية هذا الكتاب بفصل عنوانه (ما هو أعظم كتاب أثر فيّ في فرنسا؟) مؤكداً أنه أعظم اكتشاف له منذ وصل فرنسا سنة 1976، ولو لم يقرأ غيره لكفاه فخرا، ولما ذهب مجيئه لبلاد فولتير وموليير سدى، أما لماذا يعطيه الأهمية؟ فلأنه مفعم بالنزعة الإنسانية.