رثاء... و إحتفاء، بكته الدمى قبل فنانيها

رثاء... و إحتفاء، بكته الدمى قبل فنانيها

د. حسين علي هارف

يوم رحيله.. بكته الدمى (تلك التي صنعها او لم يصنعها.. قام بتحريكها او لم يقم.. شهدها او لم يشهدها) بكته بكل جوارحها (خيوطها) و من كل قلوبها (فهي تملك قلوبا تنبض بحب خالقها و محركها و بسحر انامله).. بكته القرقوزات المضحكة..

و يوم وفاته.. اعلنت مدينة الدمى الحداد! هكذا اتخيل.. و اقاموا له مأتما لم يُدعى اليه ايٌّ منّا نحن البشر الذين قد نجحد فضله و نتناسى ريادته و عطاءه و عشقه للدمى التي افنى عمره فيها و معها و من اجلها.. فهل نحن جاحدون؟ هل سنفي هذا الرجل (الانسان) حقه؟!؟؟ هل سنكون اوفياء كما كان هو وفياً لدماه و فنه و من قبلهما لوطنه و اطفال وطنه..

هل سنكون على قدر من الوفاء لنثبت حقيقة ريادته المزدوجة و المركبة و في ميادين (فنية و اعلامية)؟!؟. علينا ان نكون كذلك.. علينا أن نحاول و نسعى و ها أنا أفعل ذلك.. أن أسعى لتدوين و توثيق بعضاً من سيرته الريادية الابداعية الحافلة بالفرح و الجمال و النجاح و المكتزة بالصدق و الشعور العالي بمسؤولية الفنان تجاه وطنه و شعبه و الايمان العالي برسالة الفن الانسانية و الوطنية. و لعلي مع زملائي و اصدقائي و طلبتي قد فعلت قبل رحيله بسنوات قليلة.. حين أقمت و بالتنسيق مع الملتقى الاذاعي و التلفزيوني في اتحاد الادباء و الكتّاب في العراق و بالتعاون معه، حفل إحتفاء و تكريم لطارق الربيعي بحضوره و حضور نخبة من الادباء و الفنانين.. كان ذلك في حيث شهدت قاعة الجواهري هذا الاحتفاء الذي كان الراحل غاية في السعادة به انفرجت أساريره و اطلق ضحكاته و طرائفه.. مازح الجميع.. غنى و روى.. كان عريسا في ليلة عرسه.. كنت على ثقة.. يومها.. انه سيعود سعيدا الى بيته.. لكنني كنت على دراية بأنني كنت الأسعد فالوفاء نعمة و قيمة انسانية عليا لن يدركها الجاحدون و ناكرو الجميل..

ريادات لا ريادة واحدة

الريادة قيادة و رئاسة، و هي من الخصائص و الصفات التي تتمتع بها شخصية ما في تحفيز آخرين نحو تحقيق اهداف في مجال او عمل ما و يكون أيضا مصدر إلهام لهم. و اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار إنّ الريادة هي فعل تأسيسي نوعي يضع اللبنة الاولى في تشييد و تكريس ظاهرة او أتجاه او حقل معرفي او ابداعي ما، و يعبّد الطريق لخطوات نوعية مماثلة تعقبه، فأن من الأنصافُ أن نضع فنان الدمى طارق الربيعي (ابو شنيور) في خانة الرواد. و رغم انّ هذا التعريف سالف الذكر، يستبعد المفهوم السطحي و الشكلي للريادة و الذي يرتبط تحديدا بالسبق الزمني حسب، الاّ اننا و وفقا للمفهومين نجد انفسنا أمام حقيقة ان طارق الربيعي هو رائد مسرح الدمى في العراق بالتشارك مع زميله و شريكه الفنان انور حيران. مع ضرورة الاشارة الى تميز جهود الربيعي عن زميله من ناحية الاثر الفني و حجم المنجز و تعدد المهارات الفنية لدى الربيعي من حيث الكتابة و الغناء و التلحين (رغم بساطته) الى جانب موهبة التمثيل التي تفرّد بها عن زميله و تميز. كان الربيعي يكتب اغاني البرامج الفكاهية، كان يلحن و يغني، كان يُساهم في الاعداد، كان يقدم البرامج، كان يحيي الحفلات، تجده مذيعا محاورا.. عريف حفل.. مونولوجست.. و كان يمثل بفطرته و تلقائيته رغم عدم دراسته لفن التمثيل. و قد إستثمر المخرجون في التلفزيون و السينما و المسرح موهبته التمثيلية و لاسيما اجادته للادوار ذات الطابع الريفي نتيجة تقمصه الشديد لشخصية ابو شنيور الرجل الريفي و الى جانب ذلك، فقد تعدت جهود طارق الربيعي الى مبادرات و مساعي اخرى حقق من خلالها ريادات اخرى منها السعي لتأسيس اول قسم للدمى و من قبله لبرامج الاطفال في تلفزيون العراق. و مع الاعتراف بشراكة الفنان الراحل انور حيران مع طارق الربيعي في ريادة مسرح الدمى في العراق، لابد من تثبيت احقية الريادة (الزمنية و النوعية) لطارق الربيعي في مجالات متعددة. اذن فنحن امام ريادات متعددة لا ريادة واحدة للعوامل الاتية: - الربيعي هو من اوائل من عمل في تلفزيون بغداد في عام تأسيسه - هو من أسس أول مسرح دمى خيطية (ماريونيت) في العراق - أسس مع زميله انور حيران بعد عودتهما من مصر اول فرقة مسرح دمى في العراق (مسرح بغداد للعرائس) - من مؤسسي قسم برامج الاطفال في تلفزيون بغداد الى جانب تأسيسه لأول قسم للدمى في التلفزيون. - هو من اوائل المساهمين و بفاعلية في تسجيل و تصوير اول اغاني تلفزيونية للاطفال. و من بينها تلك الاغاني التي غنتها الطفلة الهام احمد التي كانت ضمن طلبة طارق الربيعي المتدربين على فن الدمى. و من بين تلك الاغاني اغنية (شدّة يا ورد شدَة) و اغنية (هيلا يا رمّانة.. هيلا يمة.. من هيّة الزعلانة) و اغاني عديدة اشرف عليها و قام بتلحينها الفنان الموسيقي حسين قدوري. و قد لعب الربيعي دورا مهما و فاعلاً في تعزيز الجانب الفني لهذه الاغاني بالاستعانة بالدمى التي كان قد جلبها من القاهرة و دمى اخرى ذات فم متحرك كان قد جلبها من (ستوكهولم) اثناء زيارته للسويد. و بالعودة الى موضوع الريادة التي نرى احقية الفنان طارق الربيعي بها، نرى ان ذلك لا يقلل بالمرة من الجهود الكبيرة التي بذلها الفنان انور حيران بوصفه شريكا ابداعيا للربيعي، غير اننا نرى إن الربيعي كان يلعب في هذا الفريق (الثنائي) دور القائد و المنظم و صاحب المبادرة.. و كانت تسعفه للعب هذا الدور خصائص شخصية منها ذكاؤه و فطنته و مرونته و سعيه لبناء علاقات فنية و شخصية، فضلا عن سرعة تعلمه و تطوره. و رغم ان انور حيران يكبر زميله الربيعي بعامين (فهو من مواليد١٩٣٥) الا انه كان تقيّد كثيرا بشخصية القرقوز و قد كان يميل الى الطابع الكوميدي مع اتقانه لمهارة التمثيل الصامت، و لم يسعفه وضعه الصحي لمواصلة المسيرة مع رفيق دربه و صديق عمره طارق الربيعي الذي أحس بفراغ كبير بعد رحيله.

ويوما ما.. و تحديدا في ١٥-١١-٢٠١٨.. و بعد نهاية عرض (بغددة) الذي كتبه المبدع رحيم العراقي و قمت بأخراجه و تم تقديمه في مسرح جامعة بغداد بالجادرية (قاعة الحكيم) بمناسبة يوم بغداد الذي أحيته امانة بغداد كعادتها في كل عام.... و بعد أن قام الممثلون بتحية الجمهور.. جاء دوري للتحية بوصفي مخرجا للعرض.. حييت الجمهور سريعا ثم هرعت بخفة الى حيث ينتظر الفنان طارق الربيعي (و كان احد المشاركين في العرض)، فاصطحبته الى مقدمة المسرح و طلبت من الجمهور بحماس ان يصفقوا له و يحييوه بشكل خاص بعد ان طبعت على جبينه بعد ان قدمت له باقة الورد المقدمة لي قبل لحظات.. ثم طلبت ميكرفونا.. و ما ان امسكت بالمايكرفون حتى خطبت بالجمهور الحاشد و كان من بينهم نوّاب و مسؤولين حكوميين رفيعي المستوى (مدنيين و عسكريين) الى جانب أمينة بغداد - في حينها- الدكتورة ذكرى علوش، و بحضور عدد كبير من وسائل الاعلام و مراسلي الفضائيات الحكومية و غير الحكومية. قلت: (اخوان.. أخواااان.. انا آسف.. عذرا لدي كلمة. هذا العمل هو مُهدى الى بغداد.. و لكن اليوم إسمحوا لي انا اريد اليوم ان أذكّر بغداد.. مؤسسات بغداد و المؤسسات الحكومية كافة بفناننا الرائد طارق الربيعي.. كان أحد روّاد تأسيس تلفزيون العراق عام ١٩٥٦، و أسس أول قسم لبرامج الاطفال في العراق، و اجدادنا و آباؤنا يتذكرون شخصية (ابو شنيور) و مفارقاته و مقالبه مع القرقوز، و الدمى التي تم استخدامها في هذا العرض الذي شاهدتموه من قبل فناننا طارق الربيعي هي نفسها التي كان يستخدمها قبل عقود. الفنان طارق الربيعي منسي من قبل الوزارات او الحكومات و انا آسف ان اقول المتعاقبة ! لنحتفي بفنانينا ولاسيما الرواد منهم. تحية للفنان طارق الربيعي.) بعد هذا الخطاب الارتجالي صفّق الجمهور كثيرا للراحل طارق الربيعي الذي طبعت أنا قبلة اخرى على جبينه بعد أن احنيت قامتي له احتراما و إجلالًا.

كتابي عنه

انه كتاب الوفاء في زمن تفشي الجحود و تراجع لغة الوفاء و الناطقين بها.. هذا الكتاب هو شهادة اعتراف بريادة طارق الربيعي لمسرح الدمى عراقياً فضلا عن ريادات اخرى في مجال التلفزيون و برامج الاطفال. لعلّ هذا الكتاب سيكون إنصافا - و إن جاء متاخراً- لجهود هذا الفنان الذي عانى ما عاناه من الاهمال و عدم التقدير لجهوده الريادية في برامج الاطفال و مسرح الدمى.