المقام العراقي بأصوات نسوية.. البداية والتطور

المقام العراقي بأصوات نسوية.. البداية والتطور

حسين الأعظمي

رغـم ان النتاجـات الاولى التي جـاءت بصوت المطربة صدِّيقه الملايه التي نستطيع ان نقـول عنها انهـا تمشي الهوينا على استحياء في دقة الاصول المقامية التقليديـة والتاريخية وهذا ينطبق ليس فقط على جرأتها في اقتحامها مضمار المقام فقط بل فيما يخص تمكنها وامتلاكها (ناصية الاصول المقامية التقليدية والتاريخية) فانها الخطوات الاولى.. على اعتبـار انهـا بداية.. ولكنها كانت بدايـة كبيـرة حقـاً ومفاجئة ومدهشة.. وهـي التي غنت مقام المحمودي ومقام الحكيمي [1]ومقام البهيرزاوي [2]وغيرها..

ولكـن الغريب في الامر ان معاصراتها من المطربات مثل جليله أم سامي [3]وبدريه انور [4]وغيرهما لم يؤدين مقامات مكتملة، واكتفوا بممارسة اداء قطع صغيرة من المقامات قبل الاغنية أو بعدها وفي وسطها.. ومر هذا الجيل وتلاه الجيل الثاني حتى ظهرت بعض المطربات اللواتي حاولن تكرار تجربة المطربة صديقه الملايه من حيث محاولة الاقتراب من تأدية المقامات كاملة الاصول التقليدية ما استطعن الى ذلك سبيلا ومن هؤلاء المطربات المطربة سلطانه يوسف التي ادت مقام الحكيمي بصورة جيدة ومقام البهيرزاوي وكذلك كانت المطربه سليمه مراد التي ادت شيئا من البنجكاه ضمن الاغنية الشهيرة (هذا مو إنصاف منك) ثم جاء الجيل الثالث بظهور المطربة زهور حسين التي ادت مقام الدشت والهمايون بصورة رائعة حتى ظهور مائدة نزهت فنانة القرن العشرين كمؤدية للمقامات العراقية التي قدر لي ان اعلمها المقامات العراقية التي غنتها وسجلتها بصوتها في إذاعة وتلفزيون العراق وهي مكتملة الاصول التقليدية (الشكل - Form ) ومن بعدها جاءت المطربة فريدة محمد علي التي عكفتُ على تدريسها هي الاخرى لاربعين مقاماً، وهو عدد المقامات لمنهاج ست سنوات دراسية في الغناء والموسيقى بمعهد الدراسات الموسيقية وقد ادتها بوجه اصولي … وهناك بعض المؤديات الاخريات من طلبة وخريجات المعهد قدر لهن ان يتعلمن اصول المقامات العراقية عن طريق الدراسة الاكاديمية وهناك بعض المطربات ظهرن في الستينات والسبعينات أدين بعض الجمل المقامية والاغاني مثل المطربة خالدة والمطربة هناء والمطربة انوار عبد الوهاب والمطربة أنيسة وغيرهن.

الظاهرة الابرز في حقبة التحول كانت المرأة.. ان لم تكن هي المبدعة الاولى.. فكانت الرائدة صديقه الملايه التي تتفق معظم الاراء على انها اول من غنت المقامات العراقية في بغداد في حقبة التحول من النساء – أو بالاحرى أول من سجلت المقامات بصوتها من النساء.. مقام المحمودي.. مقام البهيرزاوي.. مقام الحكيمي.. الابوذية المقامية [9]بواسطة جهاز التسجيل الصوتي.. كانت بداية لغناء جديد في الاداء المقامي.. اجمع المتخصصون على انه عهد جديد في المقام العراقي.. لان التعابير الادائية قد تنوعت لاول مرة واصبحت أكثر حرية وأوسع خيالاً..

كذلك الامر كان مع معاصراتها من المغنيات اللواتي أدّين اغنيات هي من صلب التعابير المقامية مثل بدريه انور وسلطانه يوسف وجليله أم سامي حتى زكيه جورج التي جاءت من حلب منذ فتوّتها.. وإلى اخر الاسماء.. انهن ليس بفخامة علاقة صديقه الملايه وسلطانه يوسف بالمقام العراقي.. ولكنهن أدّين اغانِ عراقية مقامية مستقاة من المضمون التعبيري للغناء المقامي ولهذا السبب نتحدث عن هؤلاء المطربات الكثيرات اللواتي لم يغنين المقامات بصورة مباشرة ولكنهن غنين المقامات بواسطة تعابيرهن المقامية في اغانيهن المستقاة تعابيرها من روح المقامات البغدادية والعراقية مع تشخيصنا لمن غنت المقامات العراقية او بعضا منها.. ثم ظهرت مؤديات اخريات سرن على نفس المنحى.. من الجيل الثاني الذي وصلت فيه التعابير البغدادية النسوية أوج عظمتها في أغاني المطربة سليمه مراد منذ ثلاثينات القرن العشرين حتى ستيناته يانبعة الريحان.. الهجر موعادة غريبه.. وغيرها ورغم انها أغانِ وليست مقامات، لكنها اقرب إلى المقامات من حيث تعابيرها المملوءة بكل مضامين الغناء المقامي البغدادي.

وبلغت المطربة زهور حسين في مقام الدشت ومقام الهمايون الذروة في حقبتها من النساء في أداء المقام العراقي … وهي من الجيل الثالث لمطربات الاداء المقامي النسوي في بغداد.. أنها لم تؤدِ الشكل فحسب.. بل قدر لمطربة متمكنة ان تقترب كثيراً من تأدية شكل ومضمون هذين المقامين بصورة لم يسبقها إليها احد من حيث مستوى التعابير البيئية والعاطفية التي عبرت عن شجون وهموم المرأة العراقية في حقبتها بصورة تثير الاعجاب. وقد اوجدت جسوراً قوية بين المقام العراقي كمادة غنائية وبين نجاح تجربة الاداء النسوي لهذا اللون من الغناء في بغداد على وجه الخصوص.. اثبتت المرأة إذن وجودها في هذا الاداء بين الرجال من المؤدين في هذه المرحلة من خلال الاسلوب الادائي المقامي لزهور حسين، ففي اسلوبها تعميم لاذواق المجتمع بمشاعرها اليافعة المنتزعة من كيانها الشخصي.. فلم تعطِ زهور حسين الفرصة للاداء المقامي، الفرار من تجربتها وبدأت الابداعات النسوية تظهر بصورة جليه وواضحه أكثر من الماضي.... بدأت بدموع العين.. وصمدت امام الرفض والسخرية.. ووصلت إلى شيء من ثبات موقعها الفني ومناصرة الجماهير …

ان المقام العراقي لاينمو..! ولكنه يُنَمّى.. وهكذا كان نموه في هذه الحقبة من تاريخه الطويل من خلال قيمة المؤدين رجالاً ونساءً.

ولجت المطربة الكبيرة مائدة نزهت عالم الاداء المقامي كالشهاب الذي يشع ضوءاً ولمعاناً وهو يحترق.. ورغم انها بدأت هذه التجربة في مرحلة شبه متأخرة من مسيرتها الفنية، إلا أن ذلك يعني من زاوية اخرى انها جاءت إلى عالم الاداء المقامي وهي تمتلك تجربة كبيرة في فن غناء الاغنية التراثية والحديثة.. وفي هذه الحقبة وجد الاداء المقامي النسوي في امكانيات مائده نزهت صورة جديدة، وتحددت ملامح ابتكارات ادائية للمستقبل لم تكن قبلها ثمة اكثر من محاولات نسوية مبعثرة بين وقت وآخر، منذ ان بدأت الرائدة صديقه الملايه والاخريات يقتحمن هذا العالم بصعوبة كبيرة واصرار نادر … غنت مائده نزهت عدة مقامات بأصولها التقليدية المتقنة وهي المرة الاولى التي تؤدي المرأة فيها المقامات باتقان اصولي تقليدي بصورة فنية لم يسبق لها مثيل على اساس اعتبار الغناء المقامي كعمل فني وليس اداءاً مجرداً.

بدأت المطربة الفريده , فريده محمد علي سيرتها الفنية منذ اواخر السبعينات، وبدأت شهرتها تتسع منتصف الثمانينات، وهي من الاجيال المقامية النسوية المتأخرة، ولكنها اختصت منذ البداية بغناء المقامات العراقية وبلغت ذروتها الادائية بمقام الاورفه الذي نالت بواسطته الشهرة الكبيرة عام، وكان ذلك منتصف العقد الثمانيني، ثم توالت نجاحاتها الادائية في المقام العراقي.. وقد قدر لهذه المطربة المقامية القديرة أن تدرس الموسيقى، وصقلت موهبتها بتعلمها لتكون أول مؤدية مقامية دارسة للموسيقى من النساء.. ويمكن أن نشير إلى ان التعابير المقامية التي تمتعت بها فريده كانت اقرب من سابقاتها الى التعابير المقامية البغدادية التي تمتاز بزخارف وتحليات دقيقة امتاز في تأديتها الرجال من المؤدين وبهذه الخاصية استطاعت ان تشق طريقها وتثبِّت لها وجوداً بين مؤدي المقام العراقي.

هناك مغنيات مقاميات من طلبتنا في معهد الدراسات الموسيقية العراقي ايضا ظهرن في السبعينات والثمانينات والتسعينات.. بعضهن يمتلكن أصوات جيدة، ولكن لم تتح لهن فرص الاستمرار في هذا اللون من الأداء على الأقل، او اعتزلن الغناء تماماً لظروفهن.

هناك مطربات أخريات حاولن الولوج إلى غناء هذا اللون من الغناء عن طريق الابوذية المقامية أو بعض الجوابات الغنائية العالية المقامية داخل أغانيهن أو محاولات اخرى لم تشأ ان تستمر حتى يتسنى لنا الحديث عنها بصورة واسعة امثال بدريه انور ومنيره الهوزوز وغيرهن، واخيرأ المطربة الكبيره أنوار عبد الوهاب التي سجلت بصوتها حوالي 60 اغنية من أغاني المطربات الاوائل مثل صديقه الملايه وسليمه مراد وسلطانه يوسف وبدريه انور وجليله العراقية أم سامي بتقنيات تسجيلية ارفع مستوىً بطبيعة الزمن وتطور الاجهزة التسجيلية وذلك منذ سبعينات القرن العشرين والتي تعد من أجمل تسجيلات ألاغاني القديمة أن لم تكن أجملها حقاً شاركتها في نفس المنحى المطربة هناء بصوتها الجميل وغنائها لبعض من هذه ألاغاني أيضاً. وممن حاولن تادية المقامات في الوقت الحاضر الفنانة رند دريد.

عن (محاور في المقام العراقي ــ المحور السادس عشر)