في «فن التدمير».. هناء مال الله تستحضر رائحة الحريق العراقي

في «فن التدمير».. هناء مال الله تستحضر رائحة الحريق العراقي

إنعام كجه جي

هل يمكن أن يسلك التدمير مسارا فنيا؟ هذا ما يخطر على البال وأنت تتلقى الدعوة إلى معرض الفنانة العراقية هناء مال الله الذي يستقبل الزوار، اليوم، وحتى أواخر الشهر المقبل، في «أنسيبشون غاليري» في باريس. إن عنوان المعرض «فن التدمير»، وكل واحد من الأعمال الموجودة فيه يقف شاهدا على ما جرى في البلد الذي تنتمي إليه الفنانة وغادرته، منذ سنوات قلائل، لكي تقيم وتعمل في العاصمة البريطانية.

أما عن أعمالها فمن الصعب وصف ما يطلع من بين الكفين الصغيرتين لهذه المخلوقة الرهيفة بأنه رسم أو تخطيط أو صورة أو نحت أو نسيج أو تجهيز. إنه كل هذه الأشياء، أي كل العناصر التي تصلح لتجسيد الكارثة. حديد يتلوى، نسيج يتمزق، مخطوطات تحترق، خشب يتضعضع، أختام يبهت حبرها، جدران يتساقط عنها طلاؤها مثل نثار في مهب الريح، وطن يتهرأ في مهب الحروب. إن هناء مال الله هي واحدة من فناني ما يسمى جيل الثمانينات في العراق، وهي قد عايشت فنانين كبارا من أمثال فايق حسن ومحمد غني وإسماعيل فتاح وصالح القرة غولي، وكانت تلميذة نجيبة لفنان من وزن شاكر حسن آل سعيد. ولعلها، وهي أحد الورثة المبثوثين، اليوم، في أرجاء العالم، تدرك أي تركة ثمينة قد اؤتمنت عليها، لذلك تشتغل بدأب نحلة تجمع رحيق الفن لتصنع عسلها الخاص وغير المقلد.

عاشت الفنانة في زمن الزلزال وشاهدت الحرائق والخراب. كانت ترسم وتكتب المقالات النقدية وتلقي الدروس على طلبة الفن دون أن تغفل عن التدمير الممنهج مثل عمل هندسي مدروس بلغ من الإبداع في الشر ما يرقى به إلى مستوى الفن. لقد ظهر اسمها على الساحة الفنية، وهي بعد طالبة، منذ أن ظهرت لها تخطيطات دورية في جريدة «الجمهورية». ولفتت تخطيطاتها النظر بحيث طغت على النص المصاحب لها. وحين كان الفنانون والشعراء وأساتذة الجامعات يبحثون عن سبل الهروب لتدبير أرزاقهم خارج العراق، بعد احتلال الكويت وما تلاه من سنوات عجاف، أقامت هناء مال الله، بالاشتراك مع عدد من رفاقها، معرضا في بغداد وقرروا ألا يغادروا البلد، بل أن يدرسوا ويتمرنوا ويشتغلوا ويمارسوا فنهم فيه. كان نوعا من الإصرار المثالي على البقاء في الرحم الأول، وكانت أعمالهم تعكس ذلك التشبث الذي دفع ناقدا إلى تسميتهم «جيل الثمانينات». الجيل الذي عاصر الشرارة الأولى لحريق سيأتي على الأخضر واليابس.

ومع الحصار والحظر الجوي زادت عزلة الفنانين حتى ما عادوا يجدون أصباغا يرسمون بها. ولجأ بعضهم إلى استخدام طلاء الجدران لأنه أرخص، واستفاد آخرون من الحناء والكركم والألوان النباتية وحتى الدم. ولما عز قماش اللوحات «الكانفاه»، رسموا رؤاهم على الخشب المعاكس وبقايا صناديق الكرتون وعلى الخام الرخيص في بلد غلا فيه كل شيء. وحين لم يعد البقاء ممكنا ولا مناسبا لتحصيل لقمة العيش ولتنشق نسمة الحرية، خرجت دفعات جديدة من الفنانين خفاف المتاع إلا من مواهبهم، وهاجروا ينشدون اللجوء إلى أي بلد يفتح لهم بابه؟ ومن العاصمة الأردنية عمان تشتتوا حتى بلغوا أوروبا وأميركا وكندا والصين واليابان وكوريا وأستراليا ونيوزيلندا وجزر المحيط الهادي.

بعد ترحال بين أكثر من عاصمة استقرت هناء مال الله، عام 2007، في لندن. وسرعان ما وجدت لنفسها موضع قدم فشاركت في المعارض ووصلت أعمالها إلى المتحف البريطاني. إنها تتفنن في إعادة إنتاج آثار الحريق حتى إن من يقف أمام أعمالها يشم رائحة الشياط. وهي تسعى وراء جماليات النار وما تتركه على الورق من ألوان والتواءات وأشكال هلامية، وتتعامل مع الفناء بنظرة صوفية، وتشتغل على الهباء وكأنه مادة جاهزة لأن تنفخ فيها روحا جديدة. وهي حتى عندما تأتي بكرسي وتبقر بطنه، أو بلفة خيوط وتفككها وتترك كبابة منها متدلية من جسد اللوحة، سوداء مثل ثياب الثكالى.. حتى في تلك الاندفاعات القصوى فإن الفنانة وهي تقصد أن تفكك، تعود وتلملم المزق وترمم وتداوي وتصل ما تباعد وتبعثر. كيف لا نلاحظ تلك الموجة من الألوان الزاهية المتفجرة من قلب العتمة، في واحد من أعمال المعرض، أو ذلك الهدهد الواقف على ظهر الكرسي المبقور، أو الطيور الملونة الكثيرة التي تحط على اللوحة وهي تحمل في مناقيرها أغصان الزيتون؟ ولعله شيئا من إرث آلهة رافدينية مؤمنة بالخصب وبأسطورة الخلود.

عن الشرق الاوسط 2012