هناء مال الله.. من اللقية المتحفية جوهراً للمدينة.. الى إحداثيات ومقاييس خرائطها

هناء مال الله.. من اللقية المتحفية جوهراً للمدينة.. الى إحداثيات ومقاييس خرائطها

خالد خضير الصالحي

كان شاكر حسن آل سعيد يعرف تجربة الحقيقة المحيطية بأنها “العمل ضمن إطار المحيط أو البيئة عبر رموز ينتشلها الرسام من المحيط نفسه، من العالم الخارجي الذي يحيط الذات، ويصبح هدفاً يحاول الفنان أن يجسّده في عمله الفنيّ…

وفناً “يبتدئ من الذات مستهدفاً العالم”، وكانت تلك مرحلة قراءة، فقد كان آل سعيد يعيد قراءة الرسم العراقيّ، وربما تاريخ الرسم العراقي كذلك، في كلّ مرة طبقاً لمتجه اشتغاليّ يهيمن على تجربته التنظيرية، وقد كان منهمكاً في ثمانينيات القرن الماضي بإعادة قراءة الرسم العراقي وفق مفهومه عن فنّ الحقيقة المحيطية.

كان آل سعيد يبني تجربته في الرسم والنقد على نمطين من التعامل مع المنجز: تعامل موضوعاتي دلاليّ وتعامل شيئيّ، حتى أنّه يؤكّد في المقال ذاته افتتانه (بقيمة الجدار) (كمرآة تعكس واقع الحياة الإنسانية الحضارية اليومية) بينما يستدرك بأنّ هذا الاستقصاء ظل مرتبطاً (بالخامة اللونية) لذاتها، أي بالواقع المادي الشيئيّ للمعطيات وليس (بواقعها الاعتباري) فحسب فكان استخدامه للخامات اللونية المعروفة، ولموادّ الفنّ المعماري: كالإسنمت والجصّ و للأصباغ المنفوثة و(للفضاء الفعلي) كفراغ او شقوق أو فوهات.

وقد انتقلت بذرة الفن المحيطيّ من آل سعيد الى عدد من مجايليه وتلاميذه نقداً ومنجزاً إبداعياً، وكانت واحدةً من أخلص هؤلاء الرسامة والناقدة هناء مال الله، التي ابتدأت رسّامة اكاديمية كانت تنشر في صحيفة الجمهورية البغدادية تخطيطاتها التي كانت (حكايات) زياراتها للمتحف العراقي لتنتهي إلى بناء جهاز مفاهيميّ ورؤيويّ شكل اضافة للمنجز التشكيليّ العراقيّ، حيث يؤكد د. حاتم الصكر في مقاله (هناء مال الله: إشارات المحيط وأيقوناته) التي نشرها في مدونته: إن اول معارض هناء مال الله (بغداد: جغرافية وبشر) قد شكل انتقالها من مرحلة التشخيص والرسم الأكاديمي تجاه تفعيل “قوة جهازها المعرفي والثقافي” وقامت في كتيب كدليل للمعرض، بنشر دراساتها المطولة والتي يصفها الدكتور حاتم الصكر بأنها “دراسات تراقب عملها الفني وتكشف انشغالاتها النظرية وحدوسها وأحاسيسها، وهذه الدراسات تكشف قناعتها بالفن المحيطيّ ورؤيتها لوجود اللون عنصراً متعيناً في اللوحة، وربطها لذلك كله بما أسمته (التنقيب داخل الوجود) و(اكتشاف المحيط وتوثيقه) وبذلك أضافت للمحيط عدة أبعاد: الأول وجوديّ: يّتصل بفكرة المحيط وإسقاط الوعي والشعور عليه لإعادة تشكيله أو (اكتشافه) و(توثيقه) ليس بالمعنى المهني للتوثيق بل من زاوية إدراك الذات له وتمثلها أولاً، والثاني زمانيّ: يتصل بتأريخية المكان وزمانيته ومروره عبر الحقب بتحولات وتبدلات تصبح مناسبة لعرضه ضمن تلك اللحظات المتغيرة وهو جزء من مهمة (التوثيق) المعدّلة والمطوّرة فكرياً … والثالث مكاني: يرتبط بالاكتشاف والغوص في جزئيات المكان وهو (بغداد) في حالة معرضها المشار إليه، وقد دلّ العنوان على رؤيتها للمكان الآهل أي المسكون بالبشر، وما يضيفون إلى وجوده من خصوصية.. ويمكن استطراداً أن نتحدث عن بعد رابع هو البعد الفني للمكان، وهو يتصل بجمالياته من وجهة نظر الرسامة ذاتها، واختيار نقاط تماسها مع المدينة ومفرداتها البغدادية حاضراً وماضياً، لإعادة تمثيلها فنياً على السطوح التصويرية لحظة إنجاز اللوحة”...

وقد كانت المدينة عند هناء مال الله كما يصفها الدكتور حاتم الصكر “أعمالاً عن بغداد تتحرر فيها من الروح التقليدية في الرسم والرؤية المتحفية للأشياء، أي أنها تحررها من وجودها النصّي كأثر شاخص، إلى الوعي بها كوجود متحقق وقابل للتشكل ثانية”.

وفيه قد انتقلت هناء مال الله من اتخاذها متحف بغداد للآثار العراقية مرجعية اركولوجية الى اتخاذها بغداد (متحفاً) تستمد منها ايكولوجياتها مبتدئة من معرضها (إيقونات المحيط) بغداد 1996 حيث تكرس إشارات المحيط، و”هكذا حفلت مرحلة (الأثر وإشارات المحيط) لديها بتحويل اللوحة إلى سطح تحتشد فيه الإشارات وتتعالق (من العلاقة) كما تؤدي وظائف هندسية حين تتوزع ككتل على سطح اللوحة، مغتنية باللون الذي صار أكثر رهافة وشاعرية في هذه المرحلة”.

وكانت ستصرح مرة أخرى في دليل معرض خاص (بالمحيط والبيئة والأيكلوجيا) بأثر المحيط وغناه واحتشاده بالإشارات، مما يشجّع على إنتاج “عمل فني مفتوح الإنجاز مع المحيط بكل تأثيراته، وبه يصبح كل إنجاز مع الفنان والمشاهد مجرد لقى داخل موقع اسمه المحيط”.

وفي فترة اعدادها لدرجة الدكتوراه في فلسفة الفن من جامعة بغداد كانت قد حاولت اكتشاف المرجعية المنطقية للنظام البنائي للوحة، ولكننا الان تفاجئنا بتخليها عن محاولتها الحثيثة السابقة لاتباع (انظمة) صارمة لبناء لوحاتها، وهي محاولة ظهرت بذورها الجنينية لدى الراحل آل سعيد باكتشاف التربيع وتعمّقه في دراسة الوفق الثلاثي، وكان ذلك، برأينا، عودة اصيلة (للهيكلية الاولية) للرقى، فالأوفاق الذي هو نظام رياضي صارم، وأتجرأ أحيانا فأصفه بأنه نظام (زخرفيّ) صارم بما يتوافر عليه من متوالية بنائية صارمة، ونظام رياضي تتشكّل وحداته الصغرى من ارقام مبنية ضمن وحدات كبرى تتخذ انساق خطوط رقعة الشطرنج ومحاورها وحركات قطعها، كمتجهات ووحدات خليقية للأوفاق.

لقد أوضحت الرسامة هناء مال الله أن نظامها البنائي في تشييد هياكل لوحاتها (أوفاقها)، وكما قدمته في أطروحتها لنيل الدكتوراه في فلسفة الفن، هو نظام استند، في أساسه على نظام التربيع، وهو نظام اعتبره شاكر حسن آل سعيد بمقام (الوحدة الخليقية) الشكلية والهندسية والرياضية التي تأسست عليها الكتابة المسمارية، وهذه الوحدة الخليقية (نظام التربيع) كانت قد ظهرت في فخاريات سامراء، في نظام مماثل في بعض أوجهه وأهميته لنظام الوفق الثلاثي الذي تأسست عليه لغة الأوفاق في جزء كبير منها.

إن هذه الفكرة الصارمة التي أسست عليها هناء مال الله منجزها ربما ضاعت في ترددات الأشكال المثلثاتية التي اكتسحت لوحاتها منذ ذلك الوقت، وبذلك لم تعد تلك البنية بحالتها الجنينية الخالصة التي وُجِدت بها في فخاريات سامراء، فشكّلت طيفاً يتراءى خلف ظلال التجربة بعناصرها الشيئية المختلفة، ولكن علامات هذه البنية الهندسية ظلت عالقة كجوهر للوحة دونما انمحاء، تماما مثلما تظل (جرثومات) المشخّص التي لا يمكن محوها، عند بعض الرسامين، عالقة في اللوحة رغم كل التحوّلات التي يجريها الرسام عليها بعد ذلك، وهذا ما أسميته مرة (قانون بيكاسو) الذي ينظم حدود التجريد من وجهة نظره، كما ينظم (السيموزس) حدود التأويل، حيث يرتبط التجريد عنده بالمشخص حتى في اشد حالاته غلوّاً.

لقد هيمنت البنية الهندسيّة والرياضية على لوحة هناء مال الله، فأقصيت، العناصر الأخرى للوحة وتراجعت إلى الخطوط الخلفية؛ تراجعت ولكنها لم تنقرض؛ فتصدر النظامُ التدويني المشهدَ؛ نظام استعارته هناء مال الله، ربما من النظام التربيعي في فخاريات العراق القديم (سامراء)، أو خالطته مصادر شتى، وبذلك كان يتمُّ بناء اللوحة باعتبارها نظاماً هندسياً دقيقاً بالعودة الى “الاشكال الأولى للمواصلات اللغوية، وأعني بها الأبجدية الزخرفية والتدوينية وهي في مراحلها التكوينية (الجينولوجية)، بما فيها من (أجنّة)، بل جينات للعديد من الصفات الثقافية الموروثة” (آل سعيد، البحث في جوهرة التفاني بين الأنا والآخر، الشارقة، ط1، 2003، ص 83)، وبذلك يكون جهد هناء مال الله بحثاً عن العناصر الخليقية الهندسية للغة، وهي الصفة الأهم التي تفارق تجربتها عن أولئك الباحثين الآركولوجيين في علامات المحيط والجدران، وبناء لوحاتهم من تلك العلامات (=الوحدات) الخليقية للوجود الشيئي، لكن أهدافهم، التي ظلت في النهاية أهدافا بَصَرية تحمل قدراً من التشخيص، لم تشفع إلا لأولئك الذين كانوا منهم يحاولون تأسيس نظام كتابيّ، وأهم هؤلاء: هناء مال الله‘ وشاكر حسن آل سعيد، وبدرجة خاصة جداً كريم رسن في مراحله السابقة من خلال مدوّنات هيروغليفية منتزعة من نصوص وأنساق أخرى منقولة إلى نسق جديد هو (اللوحة المسندية) بأدواتها، وموادها الحديثة التي تحاول إخفاء وجهها، وجوهرها الحقيقيّ، والتقنّع بقناع المحيط (الواقع)، وكأن أقصى مديات فعلها محاولة الإنطباق مع المشخّص (=الجدار)، مفترضين أن للجدار نظاماً تدوينياً عشوائيّاً، وتلك نقطة الإفتراق، ونقطة الإلتقاء مع أهداف هناء مال الله، فبينما يدّعي هؤلاء وجود نمط كهذا من النسق التدويني، تحاول هناء مال الله تأسيس نظام منطقي صارم.

رغم اكتضاض لوحة هناء مال الله بما تسميه الوحدات الصغرى (عناصر اللوحة) إلا أن لوحتها تتوفر على جانب اختزالي شديد ومتنوع أخطره ذلك حينما اختزلت اللون إلى أدنى حدوده، والأشكال أدنى حدودها، فأبقت ذات الوحدات الصغرى مهيمنة كوحدات بنائية للوحتها: كالمربعات والدوائر والنقاط والثقوب والمثلثات المقلوبة، وقامت ببنائها وفق ما يشبه جدولة سطح اللوحة، وبما يشي بوجود نظام معرفي قائم على مرتكزات هندسية منطقية وحسابية تماثل نظام الأوفاق أو مستمدة منه، تعتبره الرسامة مساراً تتنافذ فيه منظومات متعددة: الأشكال المرسومة والكتابة والأعداد، كما تعتبر الرسم (قاع أنظمة التعبير)، إلا أن التطورات اللاحقة لهذه الفكرة على يد الرسامة الناقدة والأكاديمية هناء مال الله انتهت إلى عملية إبدال، أي “إحلال القيمة الزمانية للأشكال المحكية، أي أصوات الأبجديات الحسابية: الأعداد”، أي إبدال معطيات بأخرى حيث تلعب (الشروحات) التي هي معطى خارجي (غير بصري) دوراً ضخماً في ذلك.

رغم صدمتي بلوحات المعرض الأخير لهناء مال الله إلا أني اعتبرته قابلاً للاستيعاب، بمعنى قابلاً للأدلجة ووضعه ضمن سياق تجربتها على مدى السنوات السابقة، فنعتبر توجهها الآن بالاتجاه إلى خرائط مدينتها بغداد، والتعامل مع الخارطة باعتبارها مخطوطة، أو ربما دفتراً للرسم، مواصلة للانتقال الذي ابتدأ من أشكال المادة المتحفية، إلى المادة المتحفية في بنيتها الداخلية وفي أنظمة البناء الشكلية للأشكال في اللوحة إلى الهروب من شيئية المدينة (متحفيتها) الى وجودها المتعين في طوبوغرافيا خرائط الأرض، لتتحول مدينتها إلى سطح ورقيّ يضمّ إحداثيات علاماتية، ومقاييس للرسم من تلك التي تموضع عليها المسّاحون في انجازهم خرائط المدن.

ويأتي معرض هناء مال الله هذا موقفاً مما يجري الآن في العراق، وهي مرحلة يبدو أن الرسامين مقبلون عليها، وربما ستعيد الرسم العراقي إلى تعبيرية أيام حروب الخليج السابقة، فقد قدم الرسام العراقي غسان غائب معرضاً كان يدور في ذات الموضوعة، فكنت أتساءل كيف يمكن تطويع التجريد ليسع رؤية نثرية مثل رفض القتل المجاني الذي يتعرض له العراقيون الآن.

لقد كان الرسام محمد مهر الدين أبرز الرسامين العراقيين الذين أسسوا منجزهم على موضوعة الرفض التي مرت عنده بمراحل عديدة ابتدأت من العلامات المشخصة، كاليد المشبوحة ذات الأصابع المفتوحة على وسعها والموجهة تجاه المتلقي, إلى الصرخات المكبوتة، بينما تموضع هذا الرفض من خلال الكتابة المقروءة ذات المعنى الصريح المقروء والمباشر، لكن كيف يمكن لهناء مال الله، ذات التجربة المغرقة في (اللا مشخص) إن تعبر عن معنى نثري كرفض ما يتعرض له العراقيون الآن من إبادة؟

لقد حاولت هناء مال الله الاشتغال على شيئية اللوحة من خلال عنصر اللون، حيث تلفّ عوالمَ اللوحة أجواء من اللون الأسود أو البنيّ الكدر الذي يغطي مساحات شاسعة من اللوحة، بينما حاولت في مرحلة أخرى استخدام كولاج (ردي ميد) من خلال إدخال مادة مجسمة إلى جسم اللوحة لتشكل خرقاً لـ(ـجسد) اللوحة بخرطوشة، وليس برصاصة، وهي دلالة مؤثرة جداً تدل على وجود القاتل في المكان محتلاً إياه، بينما تدلل الرصاصة على استهداف المكان، وليس بالضرورة احتلاله.