هناء مال الله تعدد رموز البنى الشكلية والهندسية

هناء مال الله تعدد رموز البنى الشكلية والهندسية

خضيّر الزيدي

لا تنطوي لوحة هناء مال الله على سعة شكلية ثابتة لنتمكن من معرفة مجساتها البصرية والتعبيرية لإغراقها في المتن الدلالي المنفرط من استدلال فكري وتاريخي وهذه الخاصية التي تعمقت بها لوحاتها الأخيرة تتركب من صيغ عضوية في بنائية العمل الفني الواحد.

أضف إليه دقة في معيارية مضمونها التعبيري ومتخيل ينشئ محمولاته داخل نظام الهوية التراثية والثقافية لمشروعها المؤسس على أصول ومنابع عراقية بحتة وجراء كل عمليات التعبير التي تنظمها سياقات اللوحة تبقى خامتها ومعدنها يشيران لتغذية حية من متحف الذاكرة والتاريخ معا وهذا الافتنان بالجذر ومشاغل مظاهر التجديد في بنية اللوحة هما المسار الأسلوبي المكرس لرؤية بديلة عن مشهد لا تسعفه الرؤيا بشيء يذكر.

. تتضح في البنى التصويرية عدة عوامل لحث أبعاد اللوحة في اخذ أسباب طاقتها من مشهد (محلي / تاريخي / أسطوري) وتعتمد مخيلة الأخذ هذه على معيارية مسبوقة بالحسي وإبداء قدر واسع من الحرفة في الرسم ولهذا تتركب داخل منظومة الرسم علاماتية لتوليد الرمز في ابرع صورته وكان بروز واندفاع الشكل وكشفه عبر تسجيل الحادثة لا يأتي بمعزل مادية اللوحة وسماتها التعبيرية فضرورة بقاء الفكرة هي الحاجة الحية لارتباط قيمة اللوحة بارتباط الأصول وإثارة تخاطب (الآخر) بخسارة مادية (جفرافيا محلية اللوحة) هي غاية هناء ومقومات التكوين والاستكشاف والتعامل مع الخامات المتعددة هي منطق تعبير هناء وتعقب أصداء أهمية المصادر وخضوعها لقواعد المعرفة رؤية هناء ومع هذا كله تبقى عناصر اللوحة وطرازها هو الشحنة المؤهلة لإعادة إنتاج المعرفة.. لكن أية معرفة نبحث عنها مع مساحة الانسجام الباعث لموجة التعبير؟ لم أتذوق عملها التجريدي والتعبيري بمعزل عن الإيحاء واستنطاق طاقة تجاوزه للمألوف فبقدر ما تتداخل في منظومتها التعبيرية والرسالوية إجراءات المعيار البنائي للعمل فان التواشج الحي والصادق في بث رسالته للمتلقي يبقى محملا بقوة كلية ناتج عن مخيلة تعيد وتذكر بالماضي القريب. المهم أن طبقات أعمالها ترتفع ببواعث رؤية معاصرة تسمو على التقليد بل يتعدى النظر فيها إلى أسس الإشارة وصلابة مصادر الرؤيا وتغذيه سيرها باتجاه اتخاذ خط يكفل في إعادة نصها الجديد إلى الواجهة مع كيانات سابقة ذات إيقاع (بالأثر) واستدراجها لمثلثات ودوائر وإشارات صوفية عريضة..

اعتقد أن هناء فتحت عينيها في بريطانيا على عراق سلبت هويته في دمج غرائبي فأشارت أعمالها إلى (بغداد / المتحف / المكان /) ثم اتجهت مؤخرا إلى توظيف الهدهد بدلالته الرمزية دينيا وتاريخيا فالتعامل هنا وريث الوقوف عند مخاطبة الآخر أولا والعودة إلى الإرث ثانيا وانطق هنا ما يجول في ذهني لاعتقادي أن هناء تتفهم التحولات السياسية والعدائية فتضرب موجة الاحتماء بالإرث التراثي متخيلا عن علاقة ذيلية مع (المحيط الذي تعيش فيه) بمعنى أن هاجس التأويل يدفعها إلى ضرورة بناء منظومة قوية في الرسم تتعامل معه كونه سلاحا مرئيا يمتلك مهارة غير محدودة في مخاطبة العقل وهيمنته أن كل تلك الرسوم التي تمدنا بها بين فترة وأخرى أنما هي لحظة وجد مستوحاة من بقايا ذكرياتها في العراق فهي تضمر موقفا واضحا تجاه الأصول وخريطة المشهد المؤثر فينا …

يبدو منظور العمل الفني وكأنه محدد بهندسة شكلية للبناء أشياء معينة تضم عالما متداخلا من الخطوط والتعرجات والحدود وتعكس رؤية تبني هكذا شكل طابعا جوانيا يتوقف عند خيارات واستقراء البحث في طبيعة رسالة اللوحة والتحول معها إلى أسس اتجاهها التعبيري ووفقا لطبيعة تلك البنى الهندسية في شكل أعمالها فان شكل التراكيب الداخلية تخضع لطائل الإرث الموظف في فضاء السطح التصويري لكن أي تفحص مرئي غير مسبوق بمعرفة قاسم فكرتها السابقة من شأنه إن يؤخر فهم وإدراك رسالتها التعبيرية وتلزمنا هناء مال الله بمعرفة مسبقة لسماتها الأسلوبية وتحولاتها الشكلية فدائما ثمة إعادة لتكريس شكل التجريد في عملها والأخير يوسع أفقنا القرائي ونحن نتجه إلى تفكيك خطوات لوحتها. الهندسة الشكلية التي نتكلم عنها تغوي المتلقي بإعطاء اثر وبقاء موقف من تأمل السطح وتلك الإشكال لم تخرج أبدا عن إطار وعيها بالتجديد والتحديث المصحوب بسمات محلية تهضم أسرار نفسية (هناء) فالقدر على اصطحاب الهيئة التصويرية المعتمدة على الرموز والإيحاءات المشكلة للسطح هي باعث لتثوير مخيلة المتلقي وإذا تعذر الوصول إلى هدفها فليس الخلل في الصياغات المركبة للشكل بل يجب الاعتراف هنا أن نزعة تلك التراكيب انغلقت على تنوع زخرفي تمتزج فيه قوة الجذب مع التأمل والتجريد معا والبنى الشكلية مستوحاة من طبيعة غرائبية تجمع بين متناقضات لخلق ثوابت شكلية تتجانس فيها الصياغة في منظومة تراكيب تلاحق الظواهر الكامنة في كتلة ومساحة تخضع هي الأخرى لدلائل وإشارات مضمون العمل الفني من هنا علينا ان نعي يقين الشكل لا إيقاعه الزخرفي وتعاظم عناصره لا كينونته لان المؤثرات التي تريدها الفنانة هو تحاشي الوقوع في التكرار وان تذوب بفرديتها في شيء يحمل رسالة خالصة لا تتعارض مع حجة الفكر بمعنى أن اغلب لوحاتها التجريدية منها والتعبيرية تشتهي اتخاذ موقف معرفي يبعدها عن هوس الإثارة.

ما الذي تتضمنه اللوحة من مغزى؟

سؤال لا يبدو لي بسيطا ولا غريبا ما اعتقده أن جل أعمالها الأخيرة تتشظى في مكمن واحد وبقعة واحدة لم تكن في متاهة من أمرها ولو قورنت بأعمال سابقة لاختلف الأمر لكن اليوم تمتلك قدرة فعالة بإحداث شيء تتنامى فيه الأحداث وتتعاظم الأسباب وتصبح بفعل غائية العمل وثيقة صورية لمأساة تنطلق من بؤرة خيال يتغذى عليه الرمز والدلالة والاتجاه الباطني المصحوب برسالة طير (الهدهد) واندفاعه لحمل خطوطه الدينية والسحرية إذا هناك تنشيط داخلي مقرون بمحاور عدة تحيلنا لكشف ماهية الدلالة واتجاهها وتكوين رسالة غايتها الوقوف على تخوم وبديات الواقع فهذه الأعمال لم تبالغ في الحدث بقدر ما تدفع برمزيتها لتبني موقف فكري من (الضد) وهذا لم يغب عنا لا إيحاء ولا انطباعا بمعنى لوحتها توقعنا في طائل من الإحساس بالأرض حينما تكتب اسم بغداد على واحد منتلك التكوينات الموظفة في بريطانيا وحينما تشير لصندوق خشبي تعلوه ريشة طائر الهدهد وحينما يترك ثقب على سطح الصندوق فهو البديل الموضوعي عن انخفاض الأشياء الحسية في عملية تفكيك بنية الصورة. نحن نعلم بان غريزة اتجاه الفن عندها مصحوب بالتكنيك والتقنية ولا علاقة لمعادل واحد دون ربطه بجوانب تدمير بنية الشكل وتعدد رؤاه وقراءاته بعيدا عن اتجاه دقيق تتحكم به الفطرية وميول جوانب الإخضاع لجانب تسيطر عليه العاطفة.. حسابات أصالة فكرتها هو الوضوح بشكل تجريدي الالتفات إلى العدم الباطني المصنوع عن طريق فعل (القوى التدميري) للبناء والمكان والذاكرة بتعميق الرؤية الذات تجاه الإنسان وهويته المستلبة قضايا جمة تحملها اللوحة لا ندرك فهمها السياسي إلا بالتحرر من موقف حسي لا يحتمل التفسير وجوديا هناك غائية مركبة تستفيد منها محصلة الأحكام التي تصدر عن تكوينات تحيل المتلقي إلى الرمز بامتداد روحي لتجسيد الواقعة.