عندما ترك محمد مهدي البصير السياسة والشعر !

عندما ترك محمد مهدي البصير السياسة والشعر !

د.علي كاظم الكريعي

منذ الثورة العراقية سنة 1920 بقي الاستاذ محمد مهدي البصير، مناهضاً لسياسية الأستعمار، ينظم الشعر السياسي، حتى لقائه بالملك فيصل الأول سنة 1922م، في إجتماع سياسي مع لفيف من الوطنيين، وذلك لمناقشة تصريحات تشرشل وزير المستعمرات البريطاني، فقد صرح ذاتيوم في صيف سنة 1922م، أمام مجلس العموم ((بأن ملك العراق وشعبه يرحبان بالإنتداب البريطاني)).

قال البصير:ـ

((إجتمعنا به ((الملك)) فلما حضرنا عندهث، إلتفت اليّ قبل أن يخوض في

الحديث وقال لي: يا بصير أضنك تعرف ان الشعر السياسي شيء والسياسة شيء آخر. فقلت له: يا جلالة الملك، لقد كنت أظن أنني أخدم العراق بشعري خدمة صادقة، ولكن ما دمتم تقولون مثل هذا، فإنني سأترك الشعر من هذه اللحظة 0فقال لي: إنني لم أقل ولا يمكن أن أقول اترك الشعر، ولكن أقول ان الشعر يقوم على الخيال والعاطفة وما أشبه ذلك، والسياسة تقوم على حقائق الحياة العملية وما اليها، وأنت تعرف ذلك كل المعرفة، فقلت له، قُضي الأمر فلن أنشد الشعر بعد اليوم)).

ومنذ ذلك التأريخ، لم ينظم البصيرأي قصيدة، فقد انصرف الى طريق آخر، يخدم به وطنه وشعبه، انصرف البصير الى التأليف والتدريس، فألف كتابه ((تأريخ القضية العراقية)) وصدر الكتاب بجزئين خلال عامي (1923-1924م)، وحقق الكتاب نجاحا كبيراً. وهو مصدر تأريخي قيم عن الثورة العراقية، وعن تأريـــخ العراق الحديث،. وصدر له قبل ذلك كتيب صغير سماه «المختصر» ضم شيئاً من النظم والنثر، وصدر ببغداد سنة 1922م، وفي السنة نفسها، صدر له يوان الشذرات، وهما ديوانا شعر صغيران نشرهما قبل نفيه الى هنجام.

وفي سنة 1925م، أصدر البصير، مسرحية قصيرة بعنوان ((دولة الدخلاء)) وهي رواية إجتماعية ذات طابع تأريخي، ومجموعة من المقالات الأدبية والسياسية والإجتماعية، سماها ((النفثات)) والظاهر إنهُ لايعتبرهذه الكتب، من بين كتبه المطبوعة الجديرة بالبقاء.

عين البصير سنة 1925م، إستاذاً لاصول الفقه الجعفري في جامـــعة ((آل البيت))، لكنهُ طلب إعفاءه من هذا المنصب بعد مدة قصير.(ثم عـــين أستاذاً للأدب العربي في الجامعة نفسها، ومحاضراً في ثانوية بغداد المركزية،ودار المعلمين الأبتدائية في الموضوع نفسه. لكن رئيس الوزراء نوري السعيد. الغى هذه الجامعة، بحجة ضيق الميزانية العراقية عندها عقد البصير، العزم على ممارسة نشاطه السايسي من منبر آخر، فطلب البصير منحه إجازة لإصدار جريدة باسم « المبدأ « أراد لها أن تكون نواة لتجمع وطني حر، ينادي بالإستقلال، لكنهُ عدل عن رأيه، بسبب معارضة رئيس الوزارء نوري السعيد. فقد إعتذر عن الموافقة على إصدارالجريدة المذكورة، زاعماً أن البصير، لايستطيع النهوض بهذه المهمة.

ويبدو أن السبب الحقيقي من خلال قراءة الأحداث، هو منع البصير، من ممارسة أي عمل سياسي وطني، من شأنهُ أن يهيج الجماهير، ويقلق راحة سلطات الإنتداب. ومن جراء ذلك حصلت القناعة لدى البصير، بعد أعوام من الكفاح السياسي الوطني المرير والشاق، أن الوطنيين قلة في سوح النضال، وان المناخ

السياسي السائد في العراق، لا مكان فيه للنشاط العلني للوطنيين والقوميين

المخلصين، ولهذا قرر البصير، إعتزال العمل السياسي، والتفرغ للعمل في ميدان آخر، هو ميدان العلم والتعليم.

وفي صيف سنة 1928م، بعث الحزب الوطني العراق من جديد، فكان البصير، عضواً في لجنته التأسيسية والتنفيذية كما كان من قبل0(148)

وتحدث البصير قائلاً:

((وكنت من مؤسسيه، وقررنا أن نحتفل بافتتاحه، فطلب اليّ الزملاء أن أسهم في هذه الحفلة، فأخبرتهم بأمتناعي عن قول الشعر، منذ مواجهتي للمكلك فيصل، فقالوا هذه حكاية قديمة، وقد الزمت نفسك فيما لايلزم)) وأمام إصرارالأعضاء، نظم محمد مهدي البصير، قصيدة بعنوان ((عهود أم قيود)) بتأريخ 27 أيلول سنة 1928م مطلعها:

كم قطعنا باسم العراق عهوداً لم تكـن فــي يــديــه إلا قيــوداً

لـم تحـدد معـنا المشـورة فيها فهي من اجل ذا تجوز الحدوداً

شـغــلت مـركز الـقـيــادة مــنا اذ رضخنـــا لـهــا فكنـــا جنوداً

كم عملنا ما تشتهــى بـرضانا ثم قـــلنا: أتطلبيـــن المـزيــدا

شرح البصير، في هذه القصيده، سياسة الحزب شرحاً وافياً، ثم أشار فيها الى النفوذ البريطاني المتغلغل في كل أجهزة الدولة الإدارية والعسكرية، والذي جاوز الحدود، إذ بيده زمام الأمور، فهو يأمر وينهى، وما على الوزراء إلا الطاعة والتنفيذ، فهم مسخرون لتلبية كل رغباته، وفي القصيدة، ذم عنيف، ونقد لاذع للحكومة العراقية، والتي وقف الأجنبي من ورائها ينفذ مخططاته ومعاهداته.

عاد البصير، وترك السياسة نهائياً في ربيع سنة1930م. ولتركه السايسة

موقف ذي دلاله، جنح اليه العديد من رجال السياسة في تلك الحقبة، وصورة واضحه لجهود رئيس الوزارء نوري السعيد سنة 1930م. في تفتيت الحركة الوطنية، التي أبدت نشاطاً كبيراً في معارضة المعاهدة العراقية البريطانية والوزارت التي صادقت عليها. فما أن أعلنت الحكــومة السعيدية حل مجلس الوزراء، واجراء إنتخابات جديدة، حتى دعا رئيس الحزب الوطني جعفر ابو التمن الى مقاطعت الانتخابات، وهنا تتدخل الأيدي الخفية، لتظهر معارضة إثنين من أعضاء الهيئة الإدارية المركزية للحزب، هما بهجت زينل ومحمد مهدي البصير، ومن ثم إستقالتهم من الحزب، وكان تأثير نوري السعيد على أحداث هذا الانشقاق واضحاً، فزينل كان صديقاً حميماً لنوري السعيد، ونجح في الانتخابات نائباً عن الكوت، أما البصير، فقد كانت مكافاتهُ أن أُرسل ببعثة دراسية الى خارج العراق، حيث أوفد الى مصر، ولم يكتفِ نوري السعيد بهذا، فقد كسب الى جانبه مزاحم الباجة جي أشهر رجال الحزب الوطني معارضة للمعاهدة، فجلعهُ وزيراً في وزارته، فكانت تلك أكبر طعنة وجهت للحركة الوطنية يومذاك.(

ويحدثنا البصير، عن الأسباب التي أدت به الى إعتزاله العمل السايسي بشكل نهائي سنة 1930م فيقول: ((لم أجد ممن يعملون بالسياسة حينذاك، من يعمل للوطنية الخالصة، ووجدتهم كلهم يعملون من أجل منافعهم الشخصية)).

قال في مقطوعته ((خيانة زميل))

قالوا فــلان قــد تــقــلد منصباً هو منه في عز وفي سلطان

ويــلــوح ان جــنــانـه ولسانه لم يبقيا وقـفتا عـلى الأوطان

فأجبتهم: كم كنت منتظراً لما تستغبرون مــن إنقلاب فلان

هــذي نــواياه وكــان يســرها فاليوم تعـــلــن ايــمـــا اعلان

لا إبيض وجه مــتــاجر ببلاده كلف بحب الأصــفـــر الـرنان

لقد سجل محمد مهدي البصير لنفسه صفحة مشرقة، من صفحات الكفاح، جعلته يتبوأ مكانة مرموقه في تأريخ النضال الوطني في العراق في العصر الحديث، وقد اقترن اسمه بأعظم مأثرة من مآثر العراق الوطنية في الربع الأول من القرن العشرين، وسيظل خالداً ما دامت ثورة العشرين خالدة مع الأجيال 0(158).

عن رسالة (محمد مهدي البصير ودوره السياسي في العراق)