جعفر السعدي.. وشواغل فن التمثيل في العراق

جعفر السعدي.. وشواغل فن التمثيل في العراق

عدنان منشد

مثَّل الاستاذ الفنان جعفر السعدي (1921- 2004) مع زميليه الراحلين ابراهيم جلال وجاسم العبودي جيل التأسيس المسرحي في العراق في التمثيل والاخراج بعد الريادة الاولى للأستاذ حقي الشبلي. اذ ساهم هذا الجيل في تشييد المداميك الاولى للنهضة المسرحية في العراق منذ اربعينيات القرن الماضي وحتى وقتنا الراهن،

بما أرسوه من قيم فنية وجمالية واخلاقية على الصعيدين الاكاديمي والتربوي في معهد واكاديمية الفنون الجميلة، علاوة على ما تتحلى به عروضهم المسرحية من عناصر الجذب والاثارة والمتعة، مع كفاحهم المتواصل في تأسيس الفرق المسرحية الرائدة في بغداد، واقامة الورش الفنية وتمثيل العراق في المحافل العربية والدولية.

لقد عرف عن الفنان الراحل جعفر السعدي كممثل بارز في العديد من الشخصيات المسرحية والادوار المتلفزة والسينمائية أكثر مما عرف كمخرج مسرحي مؤسس لمشهدنا المسرحي الراهن في الكثير من العروض التي نهضت بها منصاتنا المسرحية. ويبدو ان هذا الفنان قد احب فن التمثيل المسرحي والتلفازي والسينمائي وافتتن به اكثر من شواغله الفنية والادارية المتعددة، وكرس له حياته الفنية منذ فتوته حينما كان طالبا في مدرسة المفيد الابتدائية في الكاظمية حينما شاهد عرض مسرحية "ذي قار" عام 1930 من تأليف وتقديم سلمان الصفواني احد رواد الصحافة العراقية وصاحب جريدة "اليقظة" المعروفة، ثم تعرفه على الفنان حقي الشبلي عام 1932 ومشاهدة مسرحيته "شهامة العرب" التي اخرجها الشبلي وعرضها في قاعة المفيد الاهلية لمنفعة المدرسة المذكورة.

هي بذرة الفن الاولى اذن، التي استنبتت في قلب وحشاشة ذلك الفتى، فلم يتوان عن دخول قسم التمثيل في معهد الفنون الجميلة وتخرجه منه ضمن الدورة الاولى عام 1945، اذ ساهم خلال دراسته في المعهد في تمثيل ثلاثة عروض مسرحية تحت اشراف استاذه حقي الشبلي وبمعية زملاء دُفعته القلائل في ذلك الوقت. وكان العرض الاول مسرحية "مصرع كليوباترا" عام 1942 لاحمد شوقي مع ابراهيم جلال واحسان سامي وكريم مجيد وعبد الستار البصام. ومسرحية "العامي المتأنق" 1943 مع جاسم العبودي وعبد الله العزاوي واكرم جبران وفائق القايمقچي. ومسرحية "الوطن" 1943 بمصاحبة اكرم جبران وابراهيم جلال وجاسم العبودي وعبد الكريم هادي الحميد وتقي جواد البلداوي. وكانت المناظر المسرحية والديكور من تصميم الفنانين الرائدين التشكيليين: جواد سليم وفائق حسن.

وظل الاستاذ السعدي وفيا لفن التمثيل المسرحي والاذاعي والسينمائي على الرغم من ادواره القليلة في ذلك الزمن، وحينما انتدب للتدريس في معهد الفنون الجميلة عام 1952 وجد ضالته الفنية والجمالية في شباب المسرح الذي انضووا في قسم المسرح في دراسته المسائية وقتذاك، أمثال: يوسف العاني، سامي عبد الحميد، بدري حسون فريد، اسعد عبد الرزاق، المتخرجون توا من كلية الحقوق. مع سعدون العبيدي وطه سالم ووجيه عبد الغني وكارلو هارتيون وسامي تيلا وابراهيم الهنداوي وقاسم محمد وحسن الناظمي وكثيرين. فأخرج بواسطتهم باسم معهد الفنون وباسم فرقته التي اسسها مع الفنان المسرحي المحامي عبد الكريم هادي الحميد عام 1947 تحت عنوان "الفرقة الشعبية للتمثيل" العديد من المسرحيات منها "فلوس" 1952 للكاتب التركي نجيب فاضل ومسرحية "القاتلة" 1953 للكاتب الفرنسي ليجوريان، وثلاث مسرحيات من فصل واحد، من تأليف عبد السلام الجندي وجان كوكتو وبيتر اوستينوف عام 1956. وقد اسهم السعدي ايضا كممثل في المسرحيات المذكورة، الامر الذي يؤكد عشقه المتناهي للتمثيل المسرحي من خلال حضوره المميز على المنصة، وسطوته التمثيلية التي لا تجارى، الا لدى القليل من ممثلي المسرح في ذلك الوقت.

وخلال الاعوام (57- 1961) يلتحق هذا الفنان في احد المعاهد الفنية في شيكاغو للحصول على شهادة الماجستير في الاخراج المسرحي. وكان في صحبته في هذا المعهد زميله ابراهيم جلال وتلميذيه بدري حسون فريد وخالد سعيد. ويبدو لي شخصياً – وهذا اجتهاد – ان السعدي قد تأثر في الولايات المتحدة بالمدرسة الواقعية الامريكية التي يقودها المخرج الامريكي الشهير "لي سترسبورغ" احد تلامذة منهج "الطريقة" للمخرج الروسي الشهير قسطنطين ستلانفسكي. ومن تلامذة سترسبورغ المعروفين في ذلك الوقت دهاقنة هوليود امثال ايليا كازان والنجوم المعروفين: مارلون براندو، جيمس دين، ومارلين مونرو، وكلارك كيبل، فضلا عن المؤلف المسرحي الشهير آرثر ميلر.

في حين سعى ابراهيم جلال - وهذا اجتهاد ايضا – الى نبذ "الطريقة" في زيها الروسي او الامريكي، متخذا من منهج بريشت في "الملحمية والتغريب" مسارا فنيا لاحقا في تجاربه المسرحية في العراق. اما الاستاذ بدري حسون فريد فقد افتتن بأساليب "دي سيسلاك" في المنطق الصوتي، او ما يعرف تقنيا بمنظومة "الالقاء والصوت" في فن المسرح. ولم ينجذب الاستاذ خالد سعيد – للاسف الشديد – لا بالطريقة ولا بالمنهج ولا بالنطق الصوتي، فامتثل للدروس الاكاديمية في معهد الفنون، ولم يخرج عملا مسرحيا مهما سوى "ورد جهنمي" للمؤلف طه سالم في اوائل السبعينيات الماضية.

ويبقى الفنان جعفر السعدي الذي هو قوام هذه المقالة ولسان حالها هو المجلى والامثولة الرائعة في فن التمثيل العراقي الحديث، بدون النمطية التي تقتل تجليات الممثل و"الكليشهة" الشائعة لدى بعض الممثلين التي تصنع منه شخصاً مجبولا على هذا الدور او ذاك، او السعي الى "النجومية" التي تقبر ممثل المسرح وهو في مهاده الاول.

كان فعل جعفر السعدي الحثيث حينما عاد الى العراق، اكتشاف مجموعة من الممثلين من اجل صناعة ممثلين جدد في مشرووعه الاخراجي المبكر، ومنه مسرحية "بيت الدمية" لهنريك أبسن عام 1962 وزجه الفنانة هناء عبد القادر الطالبة وقتذاك في قسم التشكيل ليلقيها في مواجهة طلبته الاثيرين في قسم المسرح، امثال: عزيز عبد الصاحب، ووجدي العاني، وسهام السبتي، وكاظم الزيدي ونجلاء داود مع طفليه الاثيرين "مي وعطيل". ثم يكتشف ويطور عناصر جديدة في التمثيل خلال مسرحيته الثانية "اوديب" لسوفوكليس عام 1962 ايضاً. ضم فيها كريم عواد وعبد الاله كمال الدين وآزادوهي صموئيل وعبد المرسل الزيدي وشهاب احمد والطفل سعد جعفر السعدي. ثم مسرحية "شهرزاد" عام 1964 لتوفيق الحكيم وباكتشافات اخرى لممثلين جدد امثال: صلاح القصب وكامل القيسي وصادق علي شاهين وسامي السراج وفيصل الياسري.

ولو تصفحنا السجل الاخراجي للسعدي بشواغله الواقعية الفنية في تقديم مسرحيات استثنائية متعددة، مثل "الاستاذ كالينوف" 1964، و "القيثارة الحديدية" 1965، و "النص" 1966 و "يوليوس قيصر" 1966 حتى آخر عرض مسرحي له عام 1979 تحت عنوان "رقصة الاقنعة" لوجدنا ان السعدي وبحكم وازعه التمثيلي المعروف هو صياد ممثلين لا يجاريه فيه مخرج عراقي آخر في وضع اي ممثل تحت دائرة الاضواء المختلفة، او الانوار الساطعة للشمس، امثال سمية محمود وفاروق فياض في مسرحية "القيثارة الحديدية" 1965، وتوفيق صبري وفوزي مهدي في "المفتش العام" 1966 وفخري العقيدي وفوزية عارف وفاروق عبد القادر في "يوليوس قيصر».

اخيراً، العزة والرفعة لفنان اصيل مكافح، مات شامخاً في اروقة المسرح الوطني اثناء مؤتمر دولي كبير لمثقفي العراق باشراف منظمة اليونسكو ووزارة الثقافة العراقية في يوم لا ينسى من ايام فرح العراقيين بسقوط سلطة الطاغوت المقبور، اذ هو الصانع الامهر والمكتشف الاكبر لاجيال كثيرة من ممثلي العراق، على الرغم من المكائد والاحابيل والسخافات الفارغة التي وضعت في سكته الفنية الطويلة.