سيد محمود
لا أعرف بالضبط متى تعلقت بكتابات بهاء طاهر ولا أعرف متى كانت المرة الأولى التى التقى فيها معه لتنمو بيننا بعدها مساحات الألفة التى افتقدها الآن بعدما حجبته ظروف العزلة. كل ما أتذكره أنه ذات مساء قبل نحو 30 عاما وقعت فى يدى روايته البهية «قالت ضحى» فى طبعتها الأولى وما أن انتهيت منها،
حتى شعرت برغبة عارمة فى البكاء، وفى الليلة التالية أعدت قراءة الرواية ودونت حول سطورها بعض التعليقات بشأن»ضحى» التى كانت «المرأة الاستثناء» لكنى أحببت بطلها «سيد» ودافعت عنه وأنا أقرأ وصف أحد النقاد له بأنه «شخصية كاذبة» لأن صدقه الإنسانى كان ساطعا فى روحى. ومن بين تلك التعليقات التى كتبتها، عبارة وصفت فيها الرواية بأنها «مصنع كبير للحزن» ولا أزال متمسكا بهذا الوصف بعد أكثر من عشرين قراءة،وعقب نقاشات كثيرة حولها مع مؤلفها ومع الأصدقاء الذين رافقوا خبرة القراءة الأولى. رأيت «بهاء» للمرة الأولى فى اتيليه القاهرة وكنت أقف بين عشرات الشباب الذين شغلوا حديقة المكان وهم يستمعون إليه يتحدث عن مجموعته الفاتنة: «أنا الملك جئت» كان أنيقا وهادئا وفى نبرته السمو الذى تأكد لى بعدها بسنوات. وكانت تلك الليلة ساطعة عنده أيضا فقد قال لى ذات حوار: «إن ندوة الأتيليه منحته الكثير من الثقة بأن لديه جمهورا يتابع كتاباته،على الرغم من وجوده فى الغربة».
ومن أغرب المفارقات أن اول مادة صحفية طلبت منى لتنشر بشكل احترافى كانت حول الطبعة الاولى من أعماله الكاملة، فقد رشحنى صديقى الكاتب ياسر عبداللطيف للناقد الراحل إبراهيم منصور لأكتب عنها فى باب كان منصور يحرره بمجلة الهلال.وعلى الرغم من أن الرجل غادر موقعه قبل نشر المقال إلا أنه وبكرم معتاد منحنى رقم بيت بهاء وقال لي: «اتصل به، أنا حكيت له عن مقالك واتبسط».
كانت المودة التى تسربت من حديث الأستاذ خلال أول لقاء كفيلة بأن تمنحنى ثقة فيما أفعل، بساطة لم تبدد الهالة التى رسمتها لشخصيته قبل التواصل معه، لكنها كانت تؤكدها وتمنحنى الجرأة التى كنت أحتاجها لأتجاوز ترددى، كلما كنت بحاجة لاستطلاع رأيه والاستئناس به واقتنعت تماما أنه رجل «طاهر» يعيش بيننا بـ «بهاء» نادر. تدريجيا صار البحث عن كتاباته،وما ينشر حولها هاجسا شخصيا،وكان السفر داخل وخارج مصر يهيئ لنا فرصا دائمة للنقاش المتبادل. ولا أزال أعتقد أن اللغة هى سره الأكبر،فهو بوصف يوسف إدريس الذى قدم مجموعته الأولى «الخطوبة» كاتب العناية المركزة «لا يقلد أحدا ولا يستعير أصابع أحد». وفى تلك الجملة إشارة ذكية لأصالة عالمه الفنى على نحو يفسر شعبيته الجارفة بين الاجيال الجديدة بما يعزز فكرة أن الكاتب الأصيل ينتمى لكل الأجيال.
لا يجد قارئ كتاباته كلمة زائدة أو سطرا فى غير موضعه، لأنه خبير فى فن الحذف وتشعر مع نصوصه بأنها محاطة بالكثير من الحنين وفيها صقل للحزن الكامن ولا يمكن التعرف فيها على مصادرها، فهى كتابة للشجو والشجن، وموضوعها الظل لا الضوء،ينحاز كاتبها إلى اللحظات الخريفية ويمجدها ويعمل على تثبيتها.
فى الكتابات الكثيرة حول أدب صاحب «الحب فى المنفى» هناك إلحاح على مجموعة من العلامات التى تحيط بعالمه الفنى وتخصب رؤيته للعالم، و العلامة الاولى تتعلق بانشغاله بفكرة البحث عن العدل، فقد تعلم بهاء درس العدل من طه حسين الذى عده المعلم الاول،كما يشير الى ذلك فى كتابه «أبناء رفاعة»، ولما قرأ «الأيام» تعلم منها أن الفقر جرح دائم لا يجوز إخفاؤه، وظل يلح على مسألة العدل الاجتماعى فى معظم أعماله وأراده مفتاحا من مفاتيح الدخول إلى عالمه الرحب.
لم يأخذ هذا الانحياز كتاباته فى سياق الالتزام الأدبى بالمعنى الصارم الذى أرادته الواقعية الاشتراكية لتجعل منها كتابات تبشيرية،فقد جاء ضمن جيل يبشر بالحساسية الجديدة،غير بعيد عن تأثيرات تيار الوعى أوالنزعة الكافكاوية ولذلك تطور مفهومه عن الالتزام ليأخذ مسارا انسانيا لتصبح الخطابات المضمرة فى أدبه تنتصر للمقهورين الذين خذلتهم الدنيا وقهرتهم الأيام وكسرت أحلامهم، فالحياة صفعة ممتدة من لحظة الميلاد إلى القبر كما أن كل انسان مرتهن بضروراته، لذلك لا غرابة أن تجد أغلب أبطاله ينشغلون بالموت وربمأ يصل هذا الانشغال الى درجة الاحتفال وانظر مثلا فى ابطاله «حشمت/ بالأمس حلمت بك» أو الدكتور فريد فى «أنا الملك جئت» وصفية «خالتى صفية والدير»، أو «محمود»/ واحة الغروب البطل ممزق الذى يبحث عن هويته فلا يجدها إلا وهو يموت، وكل هؤلاء يتأملون الموت ويدفعون ثمنا له ويمجدون فكرة الفداء كما فى «شرق النخيل» وهناك من يدفعون الأثمان القاسية لحب غامر لا يكتمل أبدا، ف«قالت ضحى » رواية عن خريف الثورة وبريجيت بطلة «الحب فى المنفي» اشارة لزوال معنى التضامن الإنسانى وفكرة الالتفات إلى ألم الآخرين. ولكن هذا الزوال يزيد دائما من إلحاح الكاتب على مسألة التواصل الانسانى فيجمع بين أبطال من ديانات أو جنسيات مختلفة ليعكس صورا مختلفة من أنماط الاغتراب أو تحديات الهوية للتدليل على مأزق «المصير المشترك».
وفى أحيان أخرى تقذف التجربة بأبطاله المؤرقين بالعدل إلى العزلة أو الانكسار ويكفى هنا أن نتأمل مصائر بطل «واحة الغروب» أوبطل، «أنا الملك جئت» وكما كان الخلاء لدى نجيب محفوظ يمثل حلا للقفز فوق تناقضات الواقع وحسمها فإن الصحراء تهب أبطال بهاء طاهر دائما هذه الفرصة بسخاء للتحرر واعادة صياغة الذات وتضفى على نصوصه مسحة صوفية لا يمكن تفاديها.
أحب بهاء طاهر التاريخ ودرسه أكاديميا واستعمله كفضاء سردى يتسع لصياغة أسئلة الحاضر وآمن بأن التاريخ لا يموت، بل تتجدد دوراته وهو فهم مستنير امتد من التخييل للكتابة التى تفيض بالتأملات الفكرية والتاريخية، كما فى «أبناء رفاعة» الذى هو كتاب عن انقطاع خيط الاستنارة وعبر انشغاله بالتاريخ أخلص الكاتب لدروس نالها من عالمين كبيرين، الاول: المؤرخ الأكاديمى الدكتور محمد أنيس، والثاني: هوالكاتب الراحل محمد عودة اللذين كانا أول من دله على الضابط محمد عبيد بطل ثورة عرابى المغدورة وفى اعتقادى أنه الملهم الاول لـ «واحة الغروب» التى لا يمكن إلا أن تقرا بوصفها رواية عن خريف لا يرحل أبدا وأمل لا شفاء منه.
عن صحيفة الاهرام القاهرية