فيصل الياسري.. الفتى الذي أضعناه

فيصل الياسري.. الفتى الذي أضعناه

علاء المفرجي

في منتصف التسعينيات تم توجيه دعوة لي مع مجموعة من السينمائيين في وزارة الثقافة لإجتماع مع الوزير لمناقشة أزمة السينما في العراق، وكان من بين المدعوين الذين أتذكرهم الناقد سامي محمد، وفيصل العباسي مدير السينما آنذاك والناقد صفاء صنكور والشاعر فاروق سلوم والمخرج والإعلامي فيصل الياسري، وآخرين لم أعد اتذكرهم...

وكان موضوع الإجتماع هو مقالة كتبها صفاء صنكور في إحدى الصحف، تحث على مطالبة العراق في أن يكون ساحة إنتاج للأفلام العربية والعالمية إسوة بالمغرب العربي مثلاً.. وهو موضوع مهم للأسف جرى تمييعه فيما بعد إسوة بالكثير من مقترحاتنا في تلك المدة.

ومناسبة تذكًر هذه الحادثة هو لأشير الى مساهمة الياسري المتميزة في النقاش وطرح الإفكار، والتي تشي بمقدار ما يتمتع به من خبرة ودراية في هذا المجال.

وهنا لا أريد أن أتحدث بشكل تقليدي عن فيصل الياسري، فهذا الرجل أصابته سهام النقد، مثلما نالته صحائف المدح، كإنسان وكمنجز... وكلا الأمرين يحملان في طياتهما قدراً من التطرف والمبالغة.. فما قيل عنه من نقد وصل أحياناً حد التجريح، هو نقد لا يحتكم لمسيرة الياسري التي إمتدت لأكثر من ستة عقود بين الأدب والإعلام، ولم تعتمد الموضوعية في تقييم هذه المسيرة، بل وغرق البعض من هذا النقد في التسييس والشخصنة.. أما ما قيل عنه من مدح وإشادة فبالتأكيد اخذته الأسباب نفسها في أنها لم تعط منجز هذا الرجل حقه في التقييم، بل راحت ولأسباب شخصية أيضا في رسم هالة من القدسية على شخصيته.

وبين هذه وتلك وقف الذين ينشدون تقييما ًموضوعياً لمنجزه، موقف المتردد من الكتابة عنه – وربما أكون من بين هؤلاء – أو إعطاء خلاصة عن دور فيصل الياسري في المشهد الثقافي والفني والإعلامي.

ولعلها فرصة جميلة أن أمارس دوري كمتابع لمسيرة الياسري في إخراج قدمي من مستنقع المبالغة والتطرف في النقد أو في المدح، لأقف على مسافة واحدة من جميع الآراء التي مارست وجودها بتعسف واضح.

فمما لاشك فيه أن فيصل الياسري يقف بين جيل تشرف في حمل لواء النهضة الثقافية في العراق منتصف القرن المنصرم، الجيل الذي أسس لثقافتنا في مجال الشعر والفن التشكيلي والمسرح والموسيقى والسينما.. وكانت بداية الياسري في هذه المدة الخصبة ثقافياً فقد عمل في الصحافة عام 1948، وأصدر مجموعة قصصية بعنوان (في الطريق)، كما أصدر رواية (كانت عذراء) عام 1952.. مما يعني أنه انخرط في هذا المجال في المدة التي شهدت ولادة الشعر الحر في العراق وثورة الفن التشكيلي التي قادها فنانون درسوا في باريس ووارشو، وظهور رجالات المسرح العراقي لتأسيس مسرح عراقي متميز.. وغيرها في جميع أجناس المعرفة..

واذا كان الياسري لم يستمر في القصة والرواية، فقد ربح الإخراج في ضمه، وهو الأمر الذي مهد له العمل في مجال الإعلام، وهنا أشير الى رأيي المتواضع: في أن الإعلام قد كسب الياسري من الأدب والسينما... والحق أقول أن الياسري واحد من أهم رجالات الإعلام في العراق والوطن العربي، أقول ذلك عن متابعة دقيقة لما أنجزه في هذا المجال، ويكفي أن أشير الى البرامج التي داعبت ذاكرتنا خلال السبعينيات والثمانينيات وما زالت مستقرة في الذاكرة الجمعية لجيلنا مثل البرنامج التعليمي (سلامتك) و(إفتح ياسمسم)، وهذا البرنامج كرسه واحداً من اهم رجال الإعلام في الوطن العربي فقد أنتج البرنامج في عام 1977 وهو إقتباس من البرنامج الأمريكي وتبناه الصندوق العربي للتنمية والقوى البشرية ورصدت له ملايين الدولارات في ذلك الوقت، وتضمن 573 حلقة. وشارك فيه عشرات الفنانين من مخرجين وإداريين وممثلين وكان الياسري يقف وراء نجاحه حيث وضع الفكرة والإنتاج واختار كادره الفني للعمل من دون أي تدخل من الجهة المنتجة، واستطاع البرنامج أن يلبي أمزجة متشابكة في الوطن العربي.

وإذا كان البعض يأخذ على الياسري إنجازه المتميز في برنامج (الملف)، والذي إقتفى آثار العمليات العسكرية على البنية التحتية والخدمات على المواطنين العراقيين في حرب الخليج الثانية، فإن هذا البعض لم يقف عند الجهود الكبيرة في إنجازه، بل تناوله بنظرة أحادية الجانب بوصفه برنامجاً دعائياً (كذا)، لكني على ثقة بأن خبراء الإعلام لهم رأي اخر في البرنامج، في إسلوب تقديمه وببراعة إعداده.. وهنا حدثني الصديق المترجم سعدون الجنابي والذي كان أحد أشخاص كادر الإعداد للبرنامج: إن هذا البرنامج وبأشراف الياسري نفسه، إستقطب كادر إعداد كبير من إعلاميين ومترجمين بل وحتى أدباء.

من هنا أقول إن إعلاميا كبيرا بين ظهرانينا فرطنا به، بهجوم البعض غير الموضوعي عليه، وبتناسي البعض الآخر لتأريخه.

أقول فيصل الياسري رجل إعلام بإمتياز. أضعناه.. في يوم كريهة وسداد ثغر.