نصير الجادرجي
في عام 1952 كنت قد بلغت التاسعة عشر من العمر، وقد كانت الرؤية السياسية لدي قد اتضحت بشكل كبير، وبلغت مرحلة من النضوج الفكري تجسد عندي عبر الاحتكاك المباشر بالوالد، ورؤيتي لأقطاب السياسة في العراق يجتمعون عندنا في المنزل،
إضافة الى حواراتي الدائمة مع أصدقائي عن الوضع القائم في البلد، وقراءاتنا المستمرة للاصدارات التي كنا نقتنيها كل حسب ميوله، اضافة الى دأبنا على متابعة ما تعرضه دور السينما من أفلام تتعلق بمقاومة المستعمر، والأدب السياسي، وهي أفلام شاعت في العالم آنذاك بعد نهاية الحرب العالمية الثانية..
بلغ بي كره (الانكليز) درجة عدم احتمالي للاطلاع على لغتهم أو حتى تعلمها، إذ جسد كل ماذكرته في داخلي مفهوماً مفاده أن هناك غوُلاً يُهيمن على كاهل الشعوب وعلينا السعي للتخلص منه.. وهذا الغول هو (بريطانيا).
وكان هذا المفهوم خاطئاً بالطبع، بل شكل جهلاً كبيراً.. أذكر ذلك لأبين حالتي النفسية وتفكيري في تلك المرحلة.
في ذلك العام توسعت هوّة الخلاف بين البلاط الملكي والأحزاب السياسية التي طالبت منذ أيام وزارتي السيد (توفيق السويدي) الثالثة، والسيد (نوري السعيد) الحادية عشرة، بضرورة تعديل قانون الانتخابات، بجعله انتخاباً مباشراً من مرحلة واحدة، وشددت حملتها مطالبة بالتعديل بعد تأليف وزارة السيد (مصطفى العمري).
وبمبادرة من السيد (كامل الچادرچي) قدمت الأحزاب الوطنية مذكرات (بدأ العمل عليها منذ شهر تموز/يوليو)، وقد وُجهت بشكل مباشر الى الوصي على عرش العراق (الامير عبد الاله) «في سابقة غير مألوفة»، رغم اعتراض بعضهم كونه لم يكن مسؤولا في الدولة، ويعدَه القانون مُصاناً من المسائلة، غير أن السيد (كامل الچادرچي) أصر على توجيه تلك المذكرات الى الوصي على عرش العراق الأمير (عبد الاله) موجهاً إليه المسؤولية المباشرة عما يحصل في البلد من أوضاع سيئة، كان ذلك في 28 تشرين الاول/ أكتوبر من عام 1952.
وفعلاً تم تقديم المذكرة الى (الوصي) ونالت تأييداً جماهيرياً كبيراً.
وحين تأكد للأحزاب السياسية المعارضة أن فكرة تعديل قانون الانتخاب بمرسوم* يجعلها على درجة واحدة مع ضمانات حريتها بعيدة المنال، قررت في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1952 مقاطعتها للانتخابات الجديدة داعية الشعب الى العمل على احباطها، أدى ذلك الأمر الى عرض قدمه رئيس الوزراء ورئيس الديوان الملكي على الوصي، يقضي باجتماعه بالساسة ورؤساء الاحزاب ليقف بنفسه على الاراء التي وردت في هذه المذاكرات.
عقد هذا الاجتماع الذي جاء بطلب من الوصي (الأمير عبد الاله) في البلاط الملكي، في مساء يوم الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر 1952 وكان برئاسته، وقد حضره كل من السادة:
توفيق السويدي ونوري السعيد وجميل المدفعي وعلي جودت الأيوبي وحكمت سليمان وطه الهاشمي (رئيس وزراء سابق ورئيس حزب الجبهة الشعبية المتحدة)، وأرشد العمري وصالح جبر ومحمد الصدر من رؤساء الوزارات السابقين.
إضافة إلى كامل الچادرچي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي، ومحمد مهدي كبة رئيس حزب الاستقلال، واحمد مختار بابان رئيس الديوان الملكي.. لكن الاجتماع انفض دون الخروج منه بنتيجة ايجابية.
مارواه لنا والدي عن تلك الجلسة العاصفة، قائلاً:
قبل بدء الاجتماع اتفق رؤساء الاحزاب الثلاثة: (طه الهاشمي ومحمد مهدي كبة وكامل الچادرچي)، بأن تكون مذكرتهم هي محور النقاش فيه.
وقد كانت بدايته ودية، قدم فيها كل من حضر رؤيته عن الاوضاع بهدوء واتزان، لكن السيد(توفيق السويدي) بدأ بطرح قضايا جانبية تخص الخدمات العامة والبلدية، فتصديت له مقاطعاً إياه (والكلام لوالدي)، طالباً من المجتمعين التركيز على المسائل السياسية الحساسة التي اجتمعوا من أجلها، وقد أيدني الوصي بذلك، ليعود الحديث عن ما اجتمعوا لأجله.
بعد ذلك تحدث السيد (طه الهاشمي)، مشيراً بأن الوزارات جميعاً لم تتشكل إلا بتأثير مباشر من البلاط، وقد خص بالذكر (الوصي) موجها الاتهام له مباشرة، الأمر الذي أدى الى تأزم الوضع في الاجتماع وساد اللغط، حينها خرج الأمير عبد الاله من القاعة ثم عاد، وقد تكرر ذلك الأمر عدة مرات.
يضيف (والدي) قائلاً: أثناءها همست بإذن (محمد مهدي كبة) بخصوص توقعه عن تبعات ما سيسفر عنه اتهام الهاشمي للوصي (وما هو موقفه ان حدث تماس بينهما)، لكن الأخير لم يُجب بأي شيء.
عاد الوصي الى الاجتماع متشنجاً فرفع صوته بوجه الهاشمي أمام الحضور قائلاً بأن الأسرة الهاشمية المالكة قد ضحت الكثير لأجل العراق وقد تركت ديارها في الحجاز من أجل شعبه وهي فوق الشبهات.. خاتماً حديثه بالقول بصوت مرتفع وجهه للهاشمي:
أنت تكذب!... وقد كرر ذلك عدة مرات.
أجابه السيد (طه الهاشمي) بالحدة ذاتها، قائلاً بأنني شخص شريف ولا أكذب.
هم (الهاشمي) بالخروج من غرفة الاجتماع، لكن الأمير نهره قائلاً: اجلس لا اسمح لك بالخروج دعني أكمل كلامي... لكن الچادرچي قال له أمام الجميع.. اخرج.. وفعلا خرج من الاجتماع.
بعد ذلك ساد الصمت الجلسة وقام والدي من مجلسه ليخرج، وحين وصوله الى الباب (وتداركاً لحراجة الموقف) الذي وضع فيه الوصي، صرخ عليه بصوت عالٍ قائلاً: أنت أيضاً اخرج.. وكأنه يوحي للاخرين بأنه قد أمره وليس هو من خرج بملء ارادته في احتجاج منه على هذا السلوك.
لحظتها عاد والدي ووقف أمام (الوصي)، الذي كان لايزال يتخذ وضع الجلوس، وهم بسدارته التي كان يمسكها بيده اليمنى، مُحركاً إياها، وقال:
ليس أنت من تأمرني، فأنا الذي خرجت بملء ارادتي.. وخرج!.
انفض الاجتماع على هذا الوضع المتشنج، وبعد ذلك جرى اجتماع طارىء بمنزل السيد (حسين جميل) أحد قادة الحزب الوطني الديمقراطي، ومن هناك اتصل بي والدي في المنزل، وأوصاني بعدم الحديث لكل من يسأل عنه بأنه في ذلك الاجتماع لكي لايتم الكشف عن مكان وجوده.
بعد فترة اتصل بنا هاتفيا السيد (مصطفى العمري) رئيس الوزراء طالباً مني التحدث مع والدي لكني اعتذرت له قائلاً بأن الوالد غير موجود في المنزل وأجهل مكانه حالياً.
اتصلت بوالدي لأبلغه بهذا الاتصال فرد عَليّ بأنه سيعود الى المنزل مسرعاً، موصياً إياي بإستقبال العمري في حال مجيئه الى المنزل قبله، وفعلا دخل الاثنان الى منزلنا سوية.
في تلك الجلسة تحدث والدي مع العمري عن خطورة الوضع في العراق، فعبر العمري عن مخاوفه من حصول (فرهود) قد يشمل الجميع، وحينئذ لن يفرق المهاجمون (منزلي عن منزلك!!).
أجابه والدي مازحاً وقال: أشكرك كثيراً على هذه الملاحظة كونك ذكرتني بأن أكتب على باب منزلي (كامل الچادرچي) ليفرق المهاجمون بين منزلي و منزلك!.
في ختام الجلسة نصح والدي العمري بالاستقالة لأن الوضع متأزم وقد يفوق المتوقع.
قدم مصطفى العمري استقالته بعد يومين من المظاهرة الاولى التي جرت يوم الخميس، فترك منصبه (يوم السبت الموافق 21/11/1952 حسبما أتذكر) بعد حادثة إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين في منطقة الفضل.
مذكرات نصير الچادرچي، طفولة متناقضة... شباب مُتَمرّد.. طريق المتاعب ــ دار المدى