صفحات مثيرة من حياة موليير..

صفحات مثيرة من حياة موليير..

رحيم العراقي

مؤلف هذا الكتاب هو الناقد والمؤرخ هنري ترولوب المختص بالآداب الفرنسية وبمسرح موليير على وجه الخصوص. وهو يقدم هنا قصة حياة هذا العبقري الذي ملأ الدنيا وشغل الناس مثل شكسبير، وربما أكثر.

ولد جان باتيست بوكلان الملقب بموليير عام 1622، في باريس، وكان والده يشتغل في صناعة الفرش والسجادات،وأما جده فكان مولعاً بالفنون، وهو الذي كان يأخذه معه إلى المسرح غالباً، وهذا ما زاد من إعجاب الصبي موليير بالمسرحيات الهزلية على وجه الخصوص، ثم دخل إلى إحدى المدارس الثانوية الباريسية لإكمال تعليمه، ويقال ان زميله على مقعد الدراسة كان أحد الأمراء الفرنسيين، وهو الذي رعاه وحماه فيما بعد عندما شعر بموهبته وعبقريته، ثم يردف المؤلف قائلاً: لقد اختلف موليير مع والده عندما كبر، لأن هذا الأخير كان يريد أن يشتغل معه في صناعة السجاد والفرش، بل وأن يستلم المخزن مكانه بعد أن يكبر ويشيخ، ولكن موليير ما كان يريد تكريس حياته لهذه المهنة التي لا يحبها، ولذلك دخل إلى كلية الحقوق، ثم تعرف بعدئذ على عائلة فنانين تدعى بيجار، وأصبح صديقاً لهم، وعندئذ غير اسمه ولقب بموليير لأول مرة ولم يعرف أحد سبب هذا التغيير المفاجئ الذي طرأ عليه، ولا لماذا اختار اسم موليير دون غيره، وما كان يعرف انه سيصبح أشهر اسم في تاريخ المسرح الفرنسي وربما العالمي. وفي عام 1643 عندما كان في الواحدة والعشرين من عمره أسس مع عائلة بيجار هذه المسرح الشهير في باريس، وكانت مديرته بنت العائلة وتدعى مادلين، وقد وقع موليير في حبها كما هو متوقع في مثل هذه الحالات، وقد اشتغل كممثل مع مادلين بيجار لمدة خمس سنوات متواصلة. ولكن بداياته في المسرح كانت رديئة ولم تجذب إليه زبائن كثيرين.
ثم حظي بعدئذ برعاية ولي العهد وشقيق الملك، وقد اتيح له أن يلعب في مسرحية تراجيدية أمام الملك لويس الرابع عشر، وهو من أشهر ملوك فرنسا إن لم يكن أشهرهم. ولكنها كانت مسرحية مملة، ثم لعب مسرحية هزلية ونجح فيها واستطاع أن يضحك الجمهور وعلى رأسهم الملك.
وعندئذ عرف أنه يمتلك مواهب كبيرة في الهزل لا الجد. فصوته وإشاراته وحركاته كانت كافية لجعل المشاهدين يموتون من الضحك. ولهذا السبب نال شهرة واسعة في مجال المسرح الفكاهي أو الهزلي. وعندئذ خصص له الملك مكانة دائمة في المسرح الموجود داخل قصره لكي يضحكه ويروّح عن نفسه عندما يشاء.. وكانت عادة الملوك آنذاك أن يحيطوا أنفسهم بكبار الموهوبين من كتّاب وفنانين.
وكانت أول مسرحية هزلية كبيرة يلعب فيها موليير هي تلك المدعوة «بالمتحذلقات السخيفات». وقد لعبها لأول مرة عام 1659، أي عندما كان في الثامنة والثلاثين من عمره. وقد نجحت هذه المسرحية نجاحاً باهراً ونالت رضى الملك الذي أغدق عليه العطايا والهبات. ولكن السيدات المتحذلقات اللواتي سخر منهن موليير حقدن عليه ودمرن مسرحه. وعندئذ بنى الملك لموليير مسرحاً خاصاً به.
ثم يقول المؤلف:
وفي عام 1662 تزوج موليير من فتاة تدعي أرماند بيجار. وهي بنت مادلين المذكورة آنفاً أو أختها. وكانت تصغره بعشرين سنة على الأقل. وفي العام ذاته راح يهتم بموضوع مسرحي غير مطروق أو غير معهود في ذلك الزمان وهو: وضع المرأة في المجتمع.وكتب عندئذ مسرحية بعنوان: مدرسة النساء. وقد حققت نجاحاً صارخاً.
ولكن حزب رجال الدين تضايق منه وراح يشكك في أخلاقية موليير ويعتقد أنه شخص إباحي. وخافوا من تأثيره السيء على الملك. ولذلك أدان الأصوليون هذه المسرحية واعتبروها خلاعية ومضادة للدين. يضاف إلى ذلك أن اهتمام الملك به وإغداقه الهبات عليه جعل الممثلين الآخرين يغارون منه ويكرهونه.
وقد رد عليهم عن طريق كتابة مسرحيات جديدة تستهزئ بهم. فالرجل كان واثقاً من نفسه وذا شخصية قوية. وفي عام 1664 صدر أمر ملكي بتعيين موليير مسؤولاً عن قسم الترفيهات في القصر الملكي. وهو منصب رفيع بالنسبة لذلك الزمان. وفي العام نفسه كتب موليير إحدى مسرحياته الشهيرة بعنوان: المنافق، أو مدعي التقى والورع.
وفيها أدان ازدواجية بعض رجال الدين الذين يظهرون الورع ويخفون عكسه.وقال إنهم يستخدمون الورع الظاهري لاستجلاب عطف الناس عليهم واحترامهم لهم، وكذلك لنيل الزكوات والأموال. فرجال الدين أكثر مكراً ودهاءً مما نظن.
وهم يخفون مآربهم تحت ستار من التقى الظاهري. ولكن هذه المسرحية أحدثت فضيحة في الأوساط الدينية الفرنسية. وقامت الدنيا ولم تقعد بسببها. وقد اضطر الملك إلى تعليقها أو إيقاف تمثيلها لكي يخفف من سخط الكهنة والخوارنة الذي كان قد بلغ أوجه. فالملك نفسه كان يخاف من رجال الدين، أي الخوارنة والرهبان والمطارنة، هذا ناهيك عن البابا، ولكن موليير تحايل على الرقابة وقدم حفلات تمثيل خاصة لها.
وفي عام 1665، أبدعت عبقرية موليير مسرحية جديدة بعنوان: «دون جوان”وقد لاقت هي الأخرى أيضاً نجاحاً منقطع النظير. وأصبح اسم موليير على كل شفة ولسان، وبلغت شهرته الأوج إلى درجة أن الملك دعا فرقته المسرحية باسم «فرقة الملك»، وهكذا أصبح موليير أهم فنان في عصره، ونال المجد من مختلف أطرافه، وطبقت شهرته الآفاق. ثم يردف المؤلف قائلاً: وخلال السنتين اللتين تلتها كان موليير مريضاً، ولذلك لم يكن يشارك فرقته في التمثيل بشكل منتظم، ولكنه لم ينقطع عن الكتابة والإبداع، فقد ألّف آنئذٍ مسرحية شهيرة تحت عنوان «كاره المجتمع» أو «مبغض البشر»، وفيها يعبِّر عن ألمه ومرارته بسبب افتراقه عن زوجته أرماند أو طلاقه لها. ثم كتب مسرحية أخرى تحت عنوان «الطبيب رغماً عنه”وبعدئذٍ حاول أن يمثل مسرحية «المنافق» تحت اسم آخر، ولكن رجال الدين عرفوا بالأمر فمنعوها فوراً من جديد.
وفي عام 1668، كتب مسرحيته الشهيرة عن «البخيل”واشتهر «بخيل موليير» في شتى أنحاء العالم، فكل من يريد أن يضحك على البخل والبخلاء ويموت من الضحك ما عليه إلا أن يذهب إلى المسرح ويشاهد هذه المسرحية الرائعة. ثم زالت الرقابة عن مسرحية المنافق عام 1669، وعندئذٍ لقيت نجاحاً لا مثيل له على خشبة المسرح، وكان آلاف المشاهدين يتدفقون على المسرح لرؤيتها. نقول ذلك وبخاصة أن كل ممنوع مرغوب.
أما آخر مسرحية كتبها موليير فكانت بعنوان «المريض الوهمي»، أي الذي يتوهم أنه مريض وهو لا يشكو من أي شيء في الواقع. ولكنه أصيب بوعكة صحية على خشبة المسرح وهو يمثلها ثم سقط صريعاً أمام كل الناس. وهكذا مات موليير شهيد المسرح الفكاهي الذي أعطاه الكثير، بل وأصبح اسمه رمزاً عليه وكانت تلك هي أفضل موتة يحلم بها فنان كبير مثله.
ولكن لم يمت قبل أن يخلِّف وراءه عشرات الأعمال المسرحية الخالدة، نذكر من بينها على التوالي: «الطبيب الطائر» (6661)، «الكسلان”أو «الظروف الطارئة المعيقة» (5561)، «الطبيب العاشق» (8561). ولكن هذه المسرحية الهزلية ضاعت ولم تصلنا. نقول ذلك على الرغم من معرفتنا بأنهم مثلوها أمام لويس الرابع عشر. ومن المؤسف جداً أنها ضاعت، فقد كانت إحدى روائعه على ما يبدو.
ثم ينبغي أن نذكر المسرحيات الشهيرة: كالمتحذلقات السخيفات، ومدرسة النساء (1661)، والزواج القسري (1664)، والمنافق، والدجال (1664)، والكاره للبشر (1666)، والطبيب رغماً عنه (1666) والبخيل (1668)، والمريض أو الخيالي (1673)، ومعظم هذه المسرحيات انه لم يكن كلها لا تزال تمثل على خشبة المسرح في باريس باعتبارها من روائع الأدب العالمي. منذ حوالي الأربعة قرون لا يزال موليير صامداً يجذب إلى مسرحيات كل عام بل كل أسبوع أو كل شهر آلاف المشاهدين! انه المسرح الخالد، المسرح الذي لا ينتهي إلا لكي يبدأ من جديد.
ثم يقدم المؤلف تحليلاً عميقاً لكل واحدة من مسرحياته فيدرس ظروف تأليفها ونشأتها وردود الفعل عليها عندما مثلت لأول مرة، الخ.
ومن الممتع ان نقرأ المقدمة التي كتبها موليير لمسرحيته الشهيرة التي جرت عليه المشاكل مع رجال الدين: «المنافق أو الدجال”فهو يقول بما معناه:
هذه المسرحية أحدثت من الضجة والفرقعة أكثر من غيرها بكثير وقد اضطهدت وحوربت ومنعت أكثر من جميع مسرحياتي الهزلية السابقة وقد برهن ذلك على ان رجال الدين هم أقوى الفئات في المجتمع ففي السابق تهكمت بالنساء المتخذلقات، أو بالأطباء الفاشلين، أو بالارستقراطيين من دوق ومركيز، الخ أو بالمخدوعين من قبل زوجاتهم ولكن لم يهددني احد منهم على الرغم من كل ذلك ولم تمنع مسرحياتي بسببهم.
اما المسرحية التي تتهكم برجال الكنيسة أو بعضهم وتصورهم على هيئة منافقين أو دجالين فقد منعت فوراً بعد أول عرض لها وجلبت لي المشاكل المزعجة من كل النواحي وقد كان رجال الدين ملاعين جداً ودهاة وأذكياء في محاربة هذه المسرحية فلم يهاجموها؟ لأنها تفضح مخازيهم وحيلهم لخداع الناس وأخذ الأموال منهم أو على الأقل هذا ما ادعوه. فقد زعموا بانها تسيء إلى الدين نفسه، والى التقى والورع، وليس الى الدجالين الذين يتخبأون وراء الدين والتقى والورع.
هكذا احتالوا على الموضوع ولم يواجهوه صراحة ولولا ذلك لما استطاعوا الاساءة لي ومنع المسرحية من التمثيل فقد زعموا أني أهاجم الدين في حين اني لا أهاجم الا المتاجرين به! وزعموا اني زنديق أو خليع في حين اني مؤمن بالله كبقية البشر.. باختصار: لقد قاموا بحملة شنيعة وكبيرة لتشويه سمعتي ومقاصدي الحقيقية وللأسف فأنهم نجحوا في ذلك ولو لفترة.
مهما يكن من أمر فان موليير الذي تفتخر به فرنسا الآن أكثر من أي كاتب أو ممثل مسرحي آخر عانى في حياته الكثير. صحيح انه عرف لحظات المجد والشهرة وذاق طعم الوصول ولكنه عرف أيضا معنى الاضطهاد والملاحقات والشبهات.