حكايتي مع علاء الديب ومجلة صباح الخير

حكايتي مع علاء الديب ومجلة صباح الخير

علي حسين

في صباي كنت من المدمنين على قراءة كل ما يصل من الصحف والمجلات العربية، في ذلك الزمان كنت مغرماً بمجلة صباح الخير المصرية، أتابع بشغف ما يرسمه صلاح جاهين في زاويته " نادي العراة " وضحكات حجازي وبهجت ورجائي والليثي كتيبة من الضاحكين ومعهم كتيبة من الكتاب يقودهم احسان عبد القدوس واحمد بهاء الدين اصغر رئيس تحرير ومعه مصطفى محمود يحرر زاوية بعنوان "قلوب حائرة"،

ويكتب عن أينشتاين والنسبية، ومحمود السعدني ومفيد فوزي وحواراته التي لايجيدهاً غيره وكيف يخبره نجيب محفوظ "لماذا لم يتزوج"، وعدد المرات التي بكى فيها صاحب الثلاثية، وكانت ثلاثة فقط، وهي يوم وفاة الزعيم سعد زغلول، ويوم وفاة والده، ويوم اكتشف ان المنفلوطي مات منذ سنوات، فقد كان مغرما به يحفظ كل كتابه، وحين قرر ان يتعرف عليه اخبروه انه مات منذ زمان، وجاذبية صدقي واحمد عباس صالح وزاويته التي يكتب فيها عن المسرح حيث عثرت في هذه الزاوية على كاتب اسمع باسمه للمرة الأولى وهو الكاتب المسرحي الألماني بتر فايس والذي قرأت له فيما بعد رائعته " مارا صاد " عن الثورة الفرنسية ومسرحيته تروتسكي في المنفى ومسرحية حديث عن فيتنام، وأدهشني في مسرحيته عن الشاعر الألماني هولدرلين

الذي قضى ثلاثين سنة كاملة في مستشفى الأمراض العقلية. ولم يتم الاعتراف والاهتمام به إلا في القرن العشرين، بعدما نشر عنه الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر دراسة بعنوان " هولدرلين وماهية الشعر " والذي قراته بعد سنوات بترجمة عبقري من طراز خاص اسمه عبد الغفار مكاوي الذي خصص كتابا خاصا عن هولدرلين نشر ضمن سلسلة نوابغ الفكر الغربي، وهي السلسلة التي نشر فيها فيلسوف مصر الكبير فؤاد زكريا كتابه المهم عن نيتشه، وكان اول حلقات هذه السلسلة وأمتعها، وقد حالفني حظي وأسعدني انني سأتعرف فيما بعد على احمد عباس صالح بلحمه ودمه، عندما استقر في العراق بعدزيارة السادات الى اسرائيل، وقد عمل استاذا في اكاديمية الفنون الجميلة، والروائي فتحي غانم وسلسلة رواياته التي لا تنسى وكان ابرزها آنذاك رواية " الرجل الذي فقد ظله " وهي الرواية التي حامت الشبهات حولها بانها تصور بدايات محمد حسنين هيكل من خلال شخصية الصحفي يوسف اليوسفي الذي صعد على اكتاف أستاذه محمد ناجي، ويقول فتحي غانم انه تلقى مكالمة ذات يوم من الصحفي الكبير محمد التابعي وهو الذي له الفضل في اكتشاف هيكل يقول له:: " محمد بيقول - يقصد هيكل - إنك كاتب عننا رواية، فأجابه فتحي غانم بالنفى مكتفيًا بقوله: "دا خيال مش أكتر».

وكامل الزهيري صاحب الأسلوب الذي لا يجارى وزاويته " من ثقب الباب " التي قرأت فيها للمرة الأولى اسم سان سيمون، ولطفي الخولي وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح حافظ الذي ترجم مذكرات شارلي شابلن، ورؤوف توفيق الذي حَببَ لي عالم السينما بمقال اسبوعي كان بعنوان " من مقاعد المتفرجين"، وقد جُمعت هذه المقالات فيما بعد بكتب لاتزال هي اجمل ما قراته عن الفن السابع: " سينما الزمن الصعب " و " السينما عندما تقول لا " و سينما الحقيقة " وسينما المشاعر الجميلة ". واحمد بهاء الدين يزور مكتبات الكبار ومن خلاله تعرفت على مكتبة توفيق الحكيم وطه حسين ولويس عوض الذي كنت اتابع مقالاته في صحيفة الأهرام وكانت سلسلة مقالات عن شكسبير والتي جمعها فيا بعد في كتاب بعنوان " البحث عن شكسبير "، حيث يخبرنا لويس عوض ان جريدة الأهرام أوفدته للمتابعة الاحتفالات في بريطانيا بمناسبة مولد شكسبير، وقد كانت محطته الأولى في الرحلة مدينة باريس التي ستساعده الصدفه ليشاهد مسرحية تعرض للمرة الأولى بعنوان " الدرس " ليوجين يونسكو وهو الكاتب الذي في طليعة كتاب اللامعقول، وأتذكر حينها بدأت في البحث عن هذا الكاتب الذي شوقتني كلمات لويس عوض للتعرف على أعماله حيث عثرت في سلسلة المسرح العالمي التي كانت تصدر في القاهرة على مجموعة مسرحياته بعنوان " مسرحيات طليعية " لا اتذكر اسم المترجم الآن، لكني حتى هذه اللحظة احفظ فقرات من المقدمة التي كتبتها الدكتورة سامية سعيد وهي استاذة الأدب الفرنسي وواحدة من المع المترجمين، ترجمة بالتعاون مع الشاعر فؤاد حداد ديوان اراغون الشهير الزا وعيون الزا، كما ترجمت عددا من مسرحيات البير كامو، وسحرني في المجلة باب اسبوعي يكتبه صحفي شاب " انذاك " اسمه علاء الديب وعنوان الزاوية " عصير الكتب " وفيه يقدم للقراء عرضا جميلا ومشوقا لكتب صدرت حديثا.. كانت هذه الزاوية دليلي لاقتناء الكتب الجديدة، فعن طريق " عصير الكتب " قرات اندريه مالرو وعشقت عبد الحكيم قاسم وتابعت احدث ما ينشره نجيب محفوظ وسمعت باسم ابراهيم اصلان لاول مرة، ورحت ابحث عن كتب معين بسيسو، واسأل اصحاب المكتبات عن اعمال سليمان فياض وصنع الله ابراهيم، وجمال الغيطاني وبهاء طاهر، ويحسب لعلاء الديب انه كتب عن اول ديوان اصدره شاعر مصر ومناضلها احمد فؤاد نجم. بعد ذلك عرفت ان علاء الديب يكتب القصة القصيرة والرواية وترجم لصموئيل بيكيت وهنري ميللر،وكتب سيناريو الفيلم الشهير " المومياء " وعثرت بعد سنوات على رواياته زهرة الليمون، وأطفال بلا دموع، و قمر على المستنقع، و عيون البنفسج، بعدها عثرت على كتابه الممتع " وقفة قبل المنحدر – من اوراق مثقف مصري – ".وهو كتاب يقدم فيه رؤيته لما جرى خلال النصف قرن الماضي وحياته التي عاشها عاشقا للكتاب والحياة.هذا الكتاب كان اشبه باكتشاف مذهل لكاتب كان بالنسبة لي مثل حكيم قادم من زمن مختلف، يعيش في صومعته التي هي مكتبته الشخصية في انسجام نفسي نادر، - ولد علاء الديب عام 1939وتوفي عام 2016 وعاش في نفس البيت الذي ولد فيه ومات فيه ايضا وفيه اسس مكتبة شخصية ضخمة يقول عنها انها كانت تمنحه الثبات ويقيس عليها علاقته بالعالم وتحافظ على وشائج الصلات بينه وبين الناس، وفي مذكراته نقرأ كيف ان المثقف يستطيع الهروب من كل صراعات المال أو المناصب والإستعراضات الثقافية، لانه يؤمن ايمان حقيقي بان الكتب بامكانها ان تُسرّب شعاع نور للمحبطين والمتعبين من البشر.

يخبرنا علاء الديب ان احسان عبد القدوس كان له الفضل الاول في تشجيعه على كتابة زاوية " عصير الكتب ". وكان اول كتاب أستعرضه هو احدى روايات عبد القدوس، حيث كتب شيئا اثار استغراب زملائه في صباح الخير التي كان يراس تحريرها انذاك احسان عبد القدوس، حيث كتب ان احسان عبد القدوس لديه رؤية ادبية محترمة لكنه يحتاج في الوقت نفسه الى جهد كبيرا لكي يجعل تلك المادة التي يكتبها مقروءة ومفهومة للقارئ «

اليوم وأنا ابحث في مكتبتي في البيت، وقع نظري على كتب علاء الديب. فتناولت ثلاثيته الروائية " قلب بل دموع، قمر على المستنقع، عيون البنفسج "، والتي احتفظ منها بنسختين واحدة ثلاث كتب منفصلة صدرت عن دار الهلال، أما التي كنت انظر الى غلافها وهو صورة فوتغرافية قديمة للكاتب صبيا مع امه وأبيه فهي من إصدار دار الشروق ضمن مشروعها لإعادة أعمال الكاتب الكبير الذي ادين له بالفضل والعرفان، فمنذ ان قرأت زاويته " عصير الكتب " تمنيت ان اكتب عن الكتب بدأت اقرأ في الصفحات الأولى من ثلاثية علاء الديب لأعيش من جديد ايام صباح الخير ومتعة تصفح هذه المجلة المذهلة.

الثلاثية اشبه بسيرة ذاتية تدور حول غربة استاذ جامعي وعائلته في زمن تغيرت فيه المقاييس الاخلاقية والاجتماعية، وكما في اعماله القليلة يمضي علاء الديب ليقدم لنا عالما متنوعا بطريقة سلسة، يقول انه تعلمها من استاذه القدير يحيى حقي، الذي اوصاه بان يبتعد عن تقديم الكتاب بكلمات لامعنى لها ولا تضيف جديداً إلى القارئ.

ونجده في الثلاثية متاثراً بكاتبه المفضل لورنس داريل وروايته الشهيرة " رباعية الاسكندرية "، حيث تعاد الحكاية نفسها بألسنة متعددة، ومن وجهات نظر مختلفة تماماً، فنحن نشعر مع كل جزء أننا أمام حكاية جديدة، يأخذنا فيها برحلة مع أبطاله، بصفحات أشبه بمناجاة دائمة. يطرح من خلالها التساؤلات حول مأساة جيله، والجيل الذي أتى بعده، والذي تراكمت عليه الأعباء وزادت أوجاعه. فهو يعترف انه عاش الحياة مثلما نعيشها نحن اليوم مليئة بالأكاذيب التي يوصينا أن نراجعها جيدا، رواية كانها سيرتنا جميعا، و الأحداث التى توالت علينا خلال العقود الماضية، حتى انني وانا اقرا سيرته الذاتية او ثلاثيته اجد ان الواقع الذى يقدمه لنا لايختلف عن الواقع الذي عشنا فيه منذ سنوات ونعيشه اليوم.