لؤي عبد الإله: عن ماض لا خلاص منه

لؤي عبد الإله: عن ماض لا خلاص منه

سعد هادي

تتخلص شخصيات رواية لؤي عبد الإله «كوميديا الحب الإلهي» (دار المدى) من سلطة المكان، لكنها لا تستطيع التخلص من ماضيها. إنها رغم الفروق والاستثناءات، أسيرة لتشابكاته وتداعياته. المكان البعيد يرسل رسائله دائماً وهي مشحونة بالألم والسخط والمأساة. عبدل مثلاً: اللص منذ طفولته والبرغماتي،

عاشق المال الذي يذهب إلى لندن بعدما يسمع حواراً بين رجلين يشيد أحدهما بالضمان الاجتماعي هناك. لكنّ عبدل سيعيش أربع سنوات فقط مع زوجته الإنكليزية ويطلقها حالما يصله جواز السفر بالبريد. ويعود ليتزوج من خطيبته العراقية بيداء، الفتاة الخجولة التي تأتي من بغداد بكل خواص الزوجة التقليدية: ماكينة للإنجاب والطبخ. وهي تأتي لقريبتها شهرزاد بدفتر ذكرياتها وصورها من بغداد، لتوقظ فيها مشاهد من ماض حاولت نسيانه.

شهرزاد ابنة الأستقراطية التي درست الطب وظلت تبدّل عشاقها، وكان والدها يعمل مع العائلة المالكة قبل انقلاب 14 تموز 1958، تسربت إليها رائحة أليفة وغريبة من الدفتر. فبرغم انطفاء ملامح الماضي من ذاكرتها، ظلت تلك الرائحة تهب أحياناً في روحها لتتركها في دوار خفيف. كما أيقظ ظهور بيداء المفاجئ فيها شعوراً بالانتماء إلى بقعة ما من العالم. وعبر الصور التي جلبتها بيداء، كانت شهرزاد تتبع أقدار أولئك الذين تركتهم وراءها. سألت مثلاً عن مغن شاب صعد نجمه قبل مغادرتها: ناظم الغزالي. فرد عليها عبدل ضاحكاً: «لقد مات منذ قرن».

أما عشيقها صالح الذي يهرب من العراق بعدما عقد قرانه على امرأة تنتمي إلى اليسار، وقرّر السفر معها إلى لندن في شهر عسل، فيهرب وحده من الشرطة التي تداهم بيته هناك... ثم ينشغل بكتابة رواية عن الماضي، جاءته فكرتها عندما كان يطوف مع الحشود حول الجثث الـ14 المعلقة في ساحة التحرير في 22 شباط (فبراير) 1969 بعد إدانة أصحابها بالتجسّس في الشهور الأولى من استيلاء البعثيين على السلطة.

أسلوب الرواية الذي يستعير خصائصه الفنية من أسلوب سيزان في الرسم، يركز على سرد الأحداث من مواقع زمنية مختلفة، بإدماج صوتي الراوي والبطل وتفريقهما، مثل آلتين موسيقيتين، تتحدان وتفترقان على امتداد زمن المقطوعة. ثمة رواية أخرى داخل الرواية، وفصول تعيد حكاية سلمى التي كادت تكون زوجته عبر شخصية حياة التي تتحول إلى عشيقة للمسؤول الأمني الكبير الذي يسميه «المبدع» في إشارة ملغزة وساخرة إلى أنّه هو الذي ابتكر الطوق الحديدي الصارم الذي عاش العراق داخله لأكثر من 30 عاماً. بفضل ذلك الخوف المتغلغل في الهواء عبر تأسيسه للقلعة (أو سجن قصر النهاية الشهير وهو المعتقل الذي كان مسرحاً لتصفية خصوم النظام الجديد)، تمكن الزعيم ووزراؤه من التمتع بأمان مطلق، وكذلك الناس ما داموا منصرفين إلى حياتهم الخاصة!

وفي الرواية، تسير حكاية حياة/ سلمى بموازاة الحكايات الأخرى من دون أن تتلاقى. إنّها حكاية متخيلة أعاد صالح تأليفها في روايته داخل رواية متخيلة أخرى أكثر اتساعاً وتداخلاً، سرد يناظر سرداً ونسيج من الاستعارات التاريخية والتحوير ولعبة إمتاع يتمكن منها لؤي عبد الإله. إن روايته تقترب من التاريخ عبر «ذاكرات» تحاول أن تكشف عن ماضيها. لكن هذا الماضي يعاد إنتاجه ثانية في رواية أخرى، يكتبها صالح بدلاً عنه... أو يستعير وجهه داخل الرواية الأصلية، قناعاً يجرده من هيمنته المطلقة على النص. تجاور وخطوط متوازية لا تلبث أن تنتهي بتدمير الرواية الداخلية، وتواصل الإطار الروائي الأساسي: شهرزاد تمزّق المخطوطة بعد أن تكتشف علاقته ببيداء. وبيداء تحرق صور ابنها المريض ورسائل أبيها وتهيم في شوارع لندن... وثمة إشارات في الروايتين الأساسية والداخلية إلى أنّها ستموت تحت عجلات المترو مثل أنا كارنينا.

على الجانب الآخر، هناك دائماً كوابيس تطارد شخصيات الرواية، كوابيس طويلة يراقب فيها الحالمون ذواتهم في لحظات رعب وشهوة واكتشاف، هي بشكل ما استعادة للماضي... ابن عربي المتصوّف المعروف الذي يقحمه المؤلف في مشاهد اعتراضية داخل الرواية، ليبحث بين سؤال يؤرقه: هل هناك بعث للحيوانات في العالم الآخر؟ يكتشف في الصفحات الأخيرة وهم اللحظة المعيشة: نحن لسنا سوى محض ظلال للذات الإلهية، حيث كُسيت أعيان الممكنات بثياب الوجود، ودفعت صوب عالم الشهادة إلى حين، لكنها لن تترك وراءها أي أثر.