حروب وإنقلابات وسحر... إرث بيليه في بلاد العرب

حروب وإنقلابات وسحر... إرث بيليه في بلاد العرب

حين أحرز بيليه هدفيه في مرمى السويد في نهائي كأس العالم 1958 ليقود البرازيل للقب كأس العالم الأول في تاريخها لم يحقق فقط وعداً قطعه لوالده بمنح البرازيل اللقب الذي فشل المنتخب البرازيلي في تحقيقه على أرضه في عام 1950 بعد الهزيمة أمام أوروغواي، لكن كتب بداية مرحلة جديدة في تاريخ كرة القدم.

ظهور بيليه زامن مرحلة تحول كرة القدم إلى لعبة عالمية تتجاوز فيها شهرة نجوم اللعبة محيط تأثيرهم المعتاد، وكانت كرة القدم في تلك الفترة متعطشة لظهور منتخب يتسلم الراية من منتخب المجر العظيم بقيادة بوشكاش.

أدركت البرازيل أنها ليست فقط بطلة العالم ولكنها تمتلك بيليه الموهبة الأفضل في كرة القدم الذي يسعى الجميع إلى مشاهدته على أرض الواقع، وسعوا إلى استغلال ذلك، ورأوا في عرض قدم من القاهرة فرصة سانحة لاستكشاف بيليه ورفاقه أرضاً جديدة بعيدة، لكن يمتلك شعبها شغف البرازيليين نفسه بكرة القدم.

الجوهرة السوداء في القاهرة

كانت العاصمة المصرية القاهرة أو عاصمة الإقليم الجنوبي في زمن الوحدة بين مصر وسوريا شاهدة على الظهور الأول لراقصي السامبا بقيادة بيليه، والذي لم يكن حينها قد أتم عامه العشرين بعد، لكن ما قدمه في ظهوره الاستثنائي في مونديال السويد وضعه في مكانة القائد لكرة القدم البرازيلية المكتظة بالمواهب.

عرض من مؤسسة “أخبار اليوم” المصرية لإحضار فريق البرازيل إلى الإقليم الجنوبي وافق عليه اتحاد كرة القدم في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1959، ثم رحلة قطعها مسؤولو “أخبار اليوم” للاتفاق مع الاتحاد البرازيلي وعادوا منها بالموافقة، جعلوا المصريين ينتظرون عام 1960 بشغف كبير لرؤية أبطال العالم وموهبتهم بيليه بعد أن سمعوا عنهم كثيراً وحان وقت رؤيتهم.

في زمن لم يكن فيه الوصول من أميركا الجنوبية إلى شمال أفريقيا بالسلاسة التي عليها الآن، قطع بيليه ورفاقه رحلة طويلة من ريو دي جانيرو إلى القاهرة استمرت يومين، مروا خلالها بداكار فلشبونة فمدريد فروما ثم وصلوا إلى بيروت قبل أن تهبط طائرتهم في القاهرة، ليجدوا المئات من محبي كرة القدم في مصر في انتظارهم في مطار القاهرة.

اليوم هو يوم الجمعة التاسع والعشرين من أبريل (نيسان) من عام 1960، والمكان هو ملعب النادي الأهلي بالجزيرة، أما الحدث فهو الظهور الأول لبيليه ورفاقه في المنطقة العربية، حيث يواجهون منتخب الجمهورية العربية في مباراة احتشد لها أكثر من 30 ألف متفرج.

شغف الجماهير برؤية منتخب البرازيل دفع عشرة مشجعين إلى أن يبيتوا في النادي الأهلي ليلة المباراة، ليضمنوا مقاعدهم في المدرجات في ظل سباق كبير من الجميع على حضور المباراة.

تقرير مجلة “آخر ساعة” الصادرة من القاهرة حينها، قال إن القاهرة لم تشهد في تاريخها هذا العدد من الجماهير في مباراة واحدة، ثلاثون ألفاً حضروا لرؤية أصحاب القمصان الصفراء يلعبون تحت شمس القاهرة.

حضر عبدالحكيم عامر الرجل الثاني في مصر حينها المباراة من المدرجات، ودعت مؤسسة “أخبار اليوم” كثيرين لرؤية ملوك كرة القدم، وكان من بينهم أفضل لاعبي الكرة الشباب في البلاد وهم أمهر من يلعبون كرة القدم في شوارع وحواري القاهرة، الذين وصلت شهرتهم حينها إلى شهرة نجوم أندية الدوري المصري.

آهات الجماهير

نزل بيليه ورفاقه إلى أرض الملعب ومع كل لمسة من نجوم البرازيل خرجت الآهات من الجماهير الحاضرة وكأنهم في حفلة لأم كلثوم. فشل نجوم المنتخب المصري في إيقاف المنتخب الأفضل في العالم على رغم أن بيليه لم يقدم ما هو منتظر منه في المباراة.

لعب بيليه المباراة وهو يعاني إصابة قوية في قدمه أجبرته على اللعب بحرص شديد لتجنب تفاقم الإصابة، ولم ينجح في زيارة الشباك، لكن منتخب البرازيل في تلك الفترة كان في أفضل مستوياته وكان نجومه قادرين على فرض سيطرتهم على المباراة مهما كانت الغيابات، ونجحوا في هزيمة أصحاب الأرض بخماسية نظيفة.

في القاهرة لم يلعب بيليه في أول مباراة بقوته الكاملة وحمل غارينشا هجوم البرازيل، في تجربة سيعيشها المنتخب البرازيلي بعد هذه المباراة بعامين حين أجبرت الإصابة بيليه عن الغياب عن معظم مباريات البرازيل في مونديال 1962 في شيلي، فتكفل غارينشا وهجوم البرازيل بالمهمة وحققوا لقب العالم للمرة الثانية على التوالي في إنجاز لم ينجح أي منتخب بعدهم في تحقيقه.

ظهور بيليه الباهت في مباراته الأولى جعل الجماهير تتعجب من الشهرة الكبيرة التي امتلكها، بل إن البعض تمادى بوصفه بالنقطة السوداء في فريق البرازيل، وهو ما نقله إليه مدرب المنتخب البرازيلي حينها فيسنتي فيولا فكان الرد في المباراة التالية بعد يومين حيث فازت البرازيل مرة أخرى بثلاثة أهداف مقابل هدف واحد، وهذه المرة كان بيليه هو صاحب أهداف البرازيل الثلاثة في المباراة.

لعبت البرازيل ثلاث مباريات في رحلتهم إلى مصر خرجوا منها فائزين، أحرزوا 11 هدفاً واستقبلت شباكهم هدفاً واحداً كان من نصيب لاعب الزمالك ومنتخب مصر نبيل نصير.

قبل أن تغادر بعثة البرازيل القاهرة استقبلهم رئيس الجمهورية حينها جمال عبد الناصر، وصافح بيليه في مشهد ختم به المصريون ترحيبهم ببعثة أبطال العالم، الذين أظهروا مهاراتهم في بلاد الفراعنة، وأمتع بيليه الجمهور المصري وأثبت لهم أنه النجم الأول لكرة القدم في العالم.

سامبا مزيفة في القاهرة

حين حققت البرازيل لقبها العالمي الثاني عام 1962 في تشيلي وجد اتحاد كرة القدم المصري الفرصة سانحة لاستضافة ثانية لبيليه ورفاقه، فدعا نجوم السامبا لزيارة ثانية إلى القاهرة عام 1963.

انتظر الجميع أن يشهد استاد القاهرة الكبير حدثاً مماثلاً لما شهده ملعب النادي الأهلي قبلها بثلاثة أعوام، فقد حضر بطل العالم ليلعب مباراة ودية مع منتخب مصر وكل شيء جاهز لصناعة يوم عظيم آخر لمحبي كرة القدم في مصر، لكن على رغم ذلك كان المشهد مختلفاً هذه المرة، فلم يكن هناك زحام على التذاكر ولا مدرجات ممتلئة ولا كرة قدم رائعة، لأن بيليه لم يحضر مع بعثة البرازيل ولم يشارك في المباراة.

غاب بيليه فعزفت الجماهير عن الحضور، وعبرت الصحافة المصرية بعد المباراة التي انتهت بفوز البرازيل بهدف نظيف بأن البرازيل أرسلت للقاهرة منتخباً مزيفاً يضم عدداً كبيراً من الناشئين، وقال مدرب منتخب البرازيل حينها أيموري موريرا إن لاعبيه لم يقدموا الأداء المطلوب، وإنه لا يثق في قدرتهم على دعم المنتخب في كأس العالم ١٩٦٦ في إنجلترا.

شاهد على انقلاب الجزائر

بعد عامين عادت البرازيل مرة أخرى إلى المنطقة العربية هذه المرة إلى الجزائر التي كانت تستعد للذكرى الثالثة لاستقلالها عن فرنسا، تضمن برنامج الزيارة مواجهة أولى بين البرازيل ومنتخب الجزائر في وهران يوم 17 يونيو (حزيران) عام 1965 وبعد ثلاثة أيام مواجهة أخرى في العاصمة.

حضرت البرازيل بكامل نجومها يتقدمهم بيليه من أجل المباراة، وقدمت أجمل فنون الكرة لجمهور الجزائر الحاضر وبينهم أول رئيس للبلاد بعد الاستقلال أحمد بن بلة، الذي كان حريصاً على استقبال بيليه ونجوم البرازيل والتقطت له صورة وهو يتوسط بيليه وغارينشا، والتي يعتقد أنها آخر صورة لبن بلة في منصبه كرئيس للجزائر.

مع وصول بعثة البرازيل إلى العاصمة الجزائرية من أجل لعب المباراة الثانية كانت الدبابات تسيطر على العاصمة، حيث قاد هواري بو مدين انقلاباً على بن بلة الذي تم القبض عليه في وهران، لتنتهي رحلة منتخب البرازيل في الجزائر بعد أن لعبوا مباراة واحدة وشهدوا على نهاية نظام.

أكرم الرئيس بن بلة بيليه ورفاقه، فمنحوه يومين آخرين في الحكم، حيث اقترح أحد مخططي الانقلاب القبض على الرئيس يوم المباراة، لكن الخوف من رد فعل الجماهير الحاضرة وكذلك طريقة استقبال ما حدث من الصحافة العالمية في ظل وجود أهم نجوم كرة القدم في العالم على أرض الملعب أطال عمر بن بلة في الحكم يومين آخرين.

عام 1969 عاد بيليه إلى الجزائر مرة أخرى، لكن هذه المرة مع فريقه سانتوس لمواجهة المنتخب الجزائري على الملعب نفسه في وهران، لكن هذه المرة كان قد تغير اسم الملعب إلى ملعب “19 يونيو” احتفالاً بذكرى الانقلاب الذي كان بيليه شاهداً عليه قبل أربعة أعوام.

رحلة إلى الخليج

عاد «الجوهرة السوداء» إلى المنطقة العربية مرة أخرى عام 1973، لكن هذه المرة ضمت رحلته منطقة الخليج العربي. حضر الملك بقميص سانتوس بعد أن أنهى مسيرته الدولية مع «السليساو» وهو بطل العالم ثلاث مرات، فقد أضاف في عام 1970 في المكسيك لقباً ثالثاً للبرازيل في بطولة قدم خلالها أداءً استثنائياً آخر في رقصته الأخيرة على المستوى العالمي.

كانت كرة القدم في الخليج تخطو خطواتها الأولى من الهواية إلى الاحتراف، وبدأت مشاركات المنتخبات والأندية الخليجية في المسابقات القارية، وكانت زيارة فريق بقيمة وشعبية سانتوس في وجود بيليه كافية لقطع خطوات كبيرة في هذا التحول مع شغف أهل الخليج كغيرهم في العالم برؤية كرة القدم التي يقدمها بيليه.

البداية في الرياض

في التاسع من فبراير (شباط) 1973 استضاف استاد الملز (استاد الأمير فيصل بن فهد حالياً) المباراة الأولى لبيليه وفريق سانتوس في منطقة الخليج بعد دعوة من الاتحاد السعودي، الذي اتخذ قراراً حينها بلعب المباراة بصفوف المنتخب السعودي للشباب مدعوماً فقط بحارس المنتخب الأول أحمد عيد.

القرار كان الهدف منه دعم اللاعبين الصاعدين وتوفير احتكاك جيد لهم أمام النادي الأفضل في العالم، وفي حضور آلاف من الجماهير المتحمسة الداعمة لهم ليكونوا نواة لمستقبل كرة القدم في المملكة.

وتقدمت البرازيل بهدف لم يحمل توقيع بيليه فسكت الجالسون في المدرجات حزناً على تلقي شباكهم هدفاً، لكن حين أحرز بيليه الهدفين الآخرين في المباراة صفقت الجماهير تحية لبيليه، الذي رحل مع رفاقه بعد المباراة لجولة استمرت لأيام، لعب خلالها في الكويت والدوحة والبحرين والإمارات، وفي كل مرة ترك أثراً كبيراً في نفوس من شاهدوه وفي تطور لعبة كرة القدم في بلادهم.

في تلك الجولة أيضاً زار بيليه القاهرة مرة أخرى وواجه النادي الأهلي المصري في استاد القاهرة، وتسلم قبل المباراة وساماً منحه إياه الرئيس المصري حينها أنور السادات، كما لعب بيليه أيضاً مع فريقه ضد نادي الهلال السوداني وفي حضور رئيس البلاد جعفر النميري.

زيارة ضمن عشرات الزيارات التي قام بها بيليه مع البرازيل ومع سانتوس لأماكن كثيرة من العالم، لكنها بالنسبة إلى شعوب المنطقة العربية لحظات خالدة في الذاكرة، ليس فقط لقيمة بيليه ولكن لأنها كانت مرحلة مؤثرة في تاريخهم الكروي بعد ذلك.

هنا بيروت... فليستمتع الوطن ببيليه

عام 1975 كانت طبول الحرب الأهلية تقرع في بيروت التي مزقها الصراع السياسي والطائفي، وطن كامل في طريقه إلى مصير مجهول ككرة ثلج تتحرك من دون أي إشارة إلى توقف.

في أبريل من عام 1975 نجحت علاقات رئيس نادي النجمة اللبناني عمر غندور في الوصول إلى بيليه، الذي كان حينها لاعباً في صفوف فريق “نيويورك كوزموس” الأميركي ووجهاً إعلانياً لشركة بيبسي كولا.

طلبت واحدة من الجمعيات الخيرية من رئيس “نادي النجمة” إقامة مباراة خيرية مع أحد الفرق المحلية يعود إيرادها لدعم الجمعية، ففكر الرجل في أن يتحول اليوم إلى كرنفال رياضي وطلب من بيليه أن يكون ضمن الحاضرين في البلاد.

لم يلعب بيليه كرة القدم في بيروت من قبل، ووافق على الحضور إلى لبنان من أجل المشاركة في مباراة ودية بين نادي النجمة أحد أعرق أندية البلاد مع منتخب الجامعات الفرنسي.

في يوم المباراة بيعت كل التذاكر وحضر الآلاف من الجماهير إلى ملعب المدينة الرياضية لرؤية بيليه بقميص نادي النجمة. لم يلعب بيليه الدقائق الأولى من المباراة في مركزه المعتاد في خط الهجوم ولكن طلب من حارس مرمى النجمة حينها زين هاشم أن يرتدي قميصه ليلعب كحارس مرمى.

دافع بيليه في الدقائق الأولى من المباراة عن مرمى النجمة قبل أن يقرر المشاركة في خط الهجوم في باقي أحداث الشوط الأول، لتستمتع به الجماهير التي زحفت من كل مدن لبنان لرؤية الملك.

لعب بيليه شوطاً واحداً في المباراة وفي الشوط الثاني جلس في المقصورة الرئيسة ليتابع لاعبي النجمة يحققون الفوز بالمباراة.

بعد المباراة ومع نهاية الزيارة قال بيليه لرئيس نادي النجمة إنه سيتحدث دائماً عن الجمال الذي وجده في لبنان، ووعده بأن يتحدث للجالية اللبنانية الكبيرة في البرازيل بروعة وحلاوة وطنهم الأم ليحضروا لزيارته.

لم يمهل الوقت بيليه لينفذ وعده لرئيس النجمة، فبعد أسبوع واحد فقط اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية والتي استمرت خمسة عشر عاماً.

حين يتذكر الشعب اللبناني وطنهم قبل الحرب يذكرون يوم السادس من أبريل عام 1975، حين جلسوا جميعاً كلبنانيين في مدرجات ملعبهم يشاهدون ملك كرة القدم في سعادة وابتسامة غابت عنهم طويلاً بعدها.

ترك بيليه بصمته كلاعب في الملاعب العربية كما فعل في كل ملعب شهد حضور الملك الذي عرَّف العالم إلى كرة البرازيل. أرادته البرازيل أن يكون سفيراً لها فأصبح سفيراً للعبة الأجمل في العالم، وحافظ على صلته بالمنطقة العربية وزياراته لها حتى بعد اعتزاله كرة القدم.

عن الاندبندنت عربية