صلاح فضل: فكرٌ.. ولكنه بروح تنزيل

صلاح فضل: فكرٌ.. ولكنه بروح تنزيل

إبراهيم الكوني

«كُن عبداً للفلسفة، تغدو سيّداً في الحرية».

(أبيقور)

رومانسيةٌ هي الصداقة التي يلعب فيها الابداع دور السفير في العلاقة.

اللقاء الأول؟

للقاء الأول كان في القاهرة مطلع 1998م في مؤتمر الرواية الأول، ولكن من وراء حجاب. فقد رنّ جرس الهاتف في غرفتي بالفندق لأسمع صوتاً يتغنّى: “أنا إنسانٌ عاشقٌ لإبراهيم الكوني، اسمه صلاح فضل”، فلم أملك إلّا أن أجيبه: “وإبراهيم الكوني عاشقٌ لإنسانٍ اسمه صلاح فضل”. هاتفني ليوجّه لي الدعوة لمأدبة عشاء أقامها في بيته العامر، مع عدد من الأدباء، تناولنا فيها طعوماً من صنع يدي عقيلته الباسلة، التي كانت له في مباراة الوجود ساعداً أيمن، قبل أن تفجعه فيها الأقدار، بعد تلك المناسبة بسنوات، فآلمتنا جميعاً.

بفضل روح صلاح فضل صرنا صديقين على الفور، لأن أي قوّة تستطيع أن تقاوم قلباً ينزف حبّاً؟

إنه النزيف القدسي نفسه، الذي سطّر به دراساته القيّمة، عن مختلف الأعمال الروائية، قبل أن ألتقيه شخصياً بأعوام. فهل كان الرهان على النقد في بُعده الأدبي، أم هو رهان نموذج فضل على نقد الواقع الإنساني؟

فلو تأمّلنا هذه المفردة في هويّتها المتداولة في اللسان اللاتيني، الذي استعارت منه اللغات الاوروبية، مصطلحها الكانطي (kritik)، لاكتشفنا أن مدلولها لا يقتصر على مجرد تدخّل جراحي، في حقّ نصّ، ولكنه مغامرة باسلة ذات علاقة، في الأصل، بالتفلسف.

ماذا يعني “كانط” عندما يستخدم كلمة «kritik» الألمانية المستعارة من اللاتينية، لينصّبها وصيّاً على كل أعاله المرجعية الثلاثة: “نقد العقل الصريح”، أو “نقد العقل العملي”، أو “نقد مَلَكَة الحُكم”؟

إنه يعني بُعداً أبعد من كلمة «نقد»، المستعملة في معجمنا، كمجرد «تنقيب»، أو «تحليل»، أو «تأويل»، لأن كلمة «فلسفة»، وحدها تستطيع أن تترجم لنا الدلالة الأحقّ بمنزلة المغامرة النقديّة الحقيقية. وهو ما يعني أن مأزقنا هنا لا يتعلّق بمنطق اللغة، ولكن بالمفهوم في اللغة. فالنَّقد تحكيمٌ لحُكم العقل، في منازلة واقع ظلمات، لاستخراج غنيمة مخفيّة، تسكن قيعان ذاكرة، ذاكرة مكبّلة بأصفاد زمنٍ ضاع. ولمّا كان العقل مبدأ مستعار من العقال، الدالّ على القيد، فلا ضمان لاستجلاء أدغال الزمن الضائع، حيث تقيم الغنيمة، بدون استنفار ملكة التفكير، التفكير في سيرورة «تفكّر»، التفكّر بالمفهوم الأفلاطوني، القادر وحده على تحقيق مرتبة «التذكّر» في سلّم المبارزة، وهو ما لا يتحقق بدون الاستعانة بسلطان مارد آخر، أقوى حجةً من العقل، ومن المنطق، ومن الذاكرة كمجرد مستودع، ألَا وهو الحدَس، القادر وحده على استنطاق المنسيّ في خزنة المستودع، لغرض تحرير الطريدة، تحرير الغنيمة، تحرير القيمة، المكتومة الأنفاس بورم اسمه النسيان، فظلّت رهينة الأسر طويلاً؛ ليستوي التحليل، أو التأويل، في التهليل، تلك المنطوقة المشفوعة بروحٍ غيبيّة، بروح ألوهية، فلا نعدم في هذه الأنقاض، المجبولة بخضراء دمن، العثور على الطريدة، التي نزفنا في طلبها لا الدم وحسب، ولكن نزفنا الروح أيضاً، وإلّا لما أسفر الكشف عن قدس أقداس هو: الحقيقة!

الحقيقة ثمن الغزوة المميتة، التي لا نفلح في الفوز بها بدون إدمان دين الحرية، بخوض حرب تَوليد هذا الجنين المقدّس من رحم ذاكرة مسكونة بالذخائر المنسيّة، فلا تتنازل لنا عن ثرواتها بدون وساطة الحدس، لأنه، بما هو شاهد عيان على الواقع، بيد أنه وحده يمتلك الشهادة في حقّ العدم أيضاً، أو ما يروقنا أن نسميه عدماً.

هذه الملحمة التحريرية، المتوّجة باغتنام حجّة هي الحقيقة، هي ما عناه صاحب “لسان العرب” في موسوعته بـ”تمييز الدراهم بإخراج الزيف منها” تعبيراً عن كلمة “نقد”، المستعملة في أدبياتنا التقليدية. وكلمة “تمييز” هنا، ليست سوى “تحرير”، والدراهم عملة اقتصادية ذات سلطة دنيوية تبدو حسيّة، ولكنها في حال عالم الروح، ذات وزن حدسيّ. وأن تكون حسيّةً فهذا يعني أنها عرضة للتزوير دوماً، ولكن “النقد” هو ما يعصمها من الزيف، لتستعيد النقاء المفقود، تستعيد البكارة الضائعة، تستعير، بحملة التحرير العصيّة، براءة القيمة الروحية، بعد تطهيرها من دنس الواقع الحرفيّ، لتتبوّأ عرشاً هو الحقيقة.

ومحفل الأوصياء على هذه الحكمة، الذين أوتوا القدرة على استنطاق الغيوب، لتحرير الافكار من زور الحرف المميت، وحدهم جديرون بلقب مهيب ابتذلناه بسبب سوء الفهم، وهو الناقد.

فالناقد، إذاً، هو الحكيم، هو الفيلسوف، هو الفارس في تلقين الأجيال دين الحقيقة، عملاً بوصية أبيقور: “كن عبداً للفلسفة، تغدو سيداً في الحرية».

وهو ما يعني أن الابداع عمل ديني بالطينة الأولى، ولا يكون حجّة في واقعنا الدنيوي إلّا بسبب هذه الطينة البدئية. والوصيّ على الإبداع، ليس مبدع الإبداع، ولكنه ناقد الإبداع: الناقد في ماهيّته الحقيقية، ماهيّته الربوبية، ماهيّته كقابلة تحترف تيسير ميلاد الأجنّة القدسية من باطن البعد الغيبيّ، ليغدو هذا البعد واقعاً مستعاداً، فردوساً مستعاداً، القابلة فيه تلعب دور عرّاب وجود.

وصلاح فضل رسول الحقيقة، المنتمي إلى حزب هذه الملّة. وقيمته الحقيقية إنّما تكمن في هذه الهوية، التي مارست النقد بهذا المفهوم، المنزّه عن حضيض واقع الحرف الميّت، بدليل أن الإبداع لا يستطيع أن يتباهى بمؤهّلاته الجمالية، المنتدبة في حياتنا كمتعة، إلّا من ملكوت ذلك التنزيه، من ملكوت هذا التنزيل!

عن سكاي نيوز