فى وداع صلاح فضل

فى وداع صلاح فضل

د. أحمد زكريا الشلق

رحل عن عالمنا الأديب والمفكر والناقد الأدبى الكبير الدكتور صلاح فضل فجر السبت 10 ديسمبر 2022 بعد رحلة عطاء علمى وثقافى كبير، وبعد معاناة من مرض أمسك بتلابيبه لسنوات لم يكف خلالها عن العطاء تحت وطأة العلاج، وبرحيله فقدت مصر والعالم العربى عالما جليلا وناقدا صادق الكلمة، عالما بأسرار اللغة والأدب، متبحرا فى فنون الأدب ونظرياته، وخبيرا بالأدب المقارن، ومناهج النقد الحديث، مواكبا لحركة الإبداع ، ساهما دءوبا فى متابعتها.

إنها رحلته الإنسانية التى تشهد على أن ابن قرية شباس الشهداء بكفر الشيخ المولود عام 1938، الذى بدأ رحلته بالالتحاق بالكتاتيب فالمعاهد الأزهرية، ليصبح أزهرى النشأة والأساس، ثم انتقل إلى دار العلوم بجامعة القاهرة ليتفوق ويعمل معيدا بها منذ عام 1965، استطاع هذا الأزهرى الدرعمى بدأبه وبتفوقه أن يحصل على بعثة للدراسات العليا فى إسبانيا، حيث حصل على دكتوراه الدولة من جامعة مدريد المركزية عام 1972. ولأنه كان يتمتع بحيوية ومقدرة خاصة فقد عمل مدرسا للأدب العربى والترجمة بكلية الفلسفة والأدب بنفس الجامعة منذ عام 1968، كما ساهم فى إحياء تراث ابن رشد بالتعاون مع المجلس الأعلى للبحث العلمى فى إسبانيا.

وعندما عاد إلى أرض الوطن، عين بجامعة الأزهر أستاذا للأدب والنقد بكليتى اللغة العربية والبنات لنحو عامين، انتدب بعدهما أستاذا زائرا بجامعة المكسيك المستقلة لنحو ثلاث سنوات نجح خلالها فى إنشاء قسم للغة العربية وآدابها فيها منذ عام 1975. وعندما عاد إلى مصر انتقل إلى جامعة عين شمس أستاذا للنقد الأدبى والأدب المقارن منذ عام 1979، وكنت أعمل حينئذ معيدا ومدرسا مساعدا بنفس الكلية، وكنت كلما رأيت إعلانا بالكلية عن مناقشة رسالة جامعية يشرف عليها كنت أحرص على حضورها منبهرا بأدائه وأستاذيته.

ولخبرته بالجامعات الإسبانية والحياة الثقافية بها وجهوده فى خدمتها، انتدب مستشارا ثقافيا لمصر بها ليقضى هناك سنوات خمسا تولى خلالها رئاسة تحرير مجلة المعهد المصرى للدراسات الإسلامية بمدريد، الذى تأسس بتوجيهات من طه حسين. وبعد عودته إلى مصر انتدب عميدا للمعهد العالى للنقد الفنى بأكاديمية الفنون ليقضى فى منصبه هذا نحو ثلاث سنوات (1985 – 1988). ونتيجة لسمعته العلمية التى أحرزها تسابقت الجامعات العربية لدعوته أستاذا زائرا بها، خاصة جامعتى صنعاء والبحرين فى بداية التسعينيات من القرن الماضي، حتى استقر فى كليته بعين شمس يدرس تخصصه الأثير، وظل فى وظيفته هذه إلى أن عين أستاذا متفرغا حتى بلوغه السن القانونية. وبالرغم من أنه لم يسع إلى تولى أى مناصب إدارية ، فإنه تولى رئاسة قسم التاريخ بكليته كما انتدب لرئاسة مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (2002 – 2003) حيث لعب دورا كبيرا فى تنشيطها. ثم تفرغ بعدها لنشاطه الأكاديمى والثقافى كما هو معروف. وفى عام 2003 انتخب عضوا فى مجمع اللغة العربية، وقدم مشروعا كبيرا لتطوير العمل بالمجمع يستهدف توسيع دائرة نشاطه ونشر رسالته، حتى صدر له قرار وزارى بتكليفه قائما بعمل رئيس المجمع منذ نوفمبر 2020.

أما عن مؤلفاته فقد أثرى المكتبة العربية بمؤلفات على درجة كبيرة من الأهمية، وأشهر مؤلفاته فى مجال نظرية الأدب كتابه الرائد الذى شرح فيه النظرية البنائية فى النقد الأدبى الذى صدر عام 1978،والذى سماه ابنى البكر، وقد أراد به شرح هذه النظرية بكل أبعادها التاريخية والمنهجية ومبادئها النظرية وتطبيقاتها على الأجناس الأدبية، ثم ثنى هذا الكتاب بآخر عن علم الأسلوب تناول فيه مناهجه ومبادئه وإجراءاته (1984) . وذلك بعد أن بهرته أفكار رولان بارت التى كانت تشير إلى تغير جذرى فى استراتيجية الخطاب النقدى ولغته، فلم يكن يعلن موت المؤلف وانتهاء عصر المنهج التاريخى فحسب، وإنما أثبت احتضار الأيديولوجيات.. وكان يعمد إلى التمثيل المرهف لتركيب النص الأدبى ليقبض على عصبه الحساس ويشرح كيفية أدائه لوظائفه الجمالية. أما كتابه علم الأسلوب فقد درس فيه تاريخ هذا العلم وطبيعته ومفهومه وأطره النظرية وصلته بعلم اللغة والبلاغة. ومن الشعراء والأدباء الذين خصص لكل منهم كتابا بذاته، كتاب: فصول عن شوقى أمير الشعراء (2009)، محمود درويش حالة شعرية خاصة (2010)، عوالم نجيب محفوظ (2011). وفى عام 2019 فاجأنا صلاح فضل بكتاب جديد عن شعر العامية الذى أجرى فيه مصالحة بين اللغة الفصحى واللهجة العامية، فقدم قراءة نقدية لشعر العامية يستهدف نقلها من سوق الحياة إلى متحف الفن، وجعل يحدثنا عن العلاقة الحميمة بين اللهجات العامية والمستوى الفصيح ودعا إلى أن نعترف بها ونكف عن اعتبارها تهديدا للفصحى. وذكر أن شعراء العامية المصرية يقفون فى مستوى إبداعاتهم جنبا إلى جنب مع كبار المبدعين بالفصحى، فكتب دراسات نقدية عمن سماهم سلالة النديم: بيرم وجاهين وفؤاد حداد والأبنودى وسيد حجاب. وذكر أنهم لا يقلون أثرا عن سلالة شوقى وحافظ وناجى وعبدالصبور وحجازى ودنقل، وأن كتاباتهم نفذت بالغناء والموسيقى إلى أعماق الوجدان الشعبى بأبعد مما بلغته الشعرية الفصيحة.

ونلاحظ أنه قدم خمسة أعمال مترجمة عن المسرح الإسباني، واهتم بشكل خاص بإبداعات بويرو باييخو بالذات فترجم له ثلاثة أعمال . وأخيرا كتب صلاح فضل سيرة حياته الإنسانية والفكرية فى عملين غاية فى العذوبة والجمال، أولهما كتاب عين النقد وعشق التميز، مقاطع من سيرة فكرية (2018)، والآخر هو صدى الذاكرة (2021). رحم الله صلاح فضل الذى احتضن جسده ثرى وطن أحبه وأخلص له، وبقيت روحه حية فى ملكوت بارئها.

عن صحيفة الاهرام