في ذكرى رحيله في 23 كانون الثاني 1961.. جواد سليم وذاكرة النصب

في ذكرى رحيله في 23 كانون الثاني 1961.. جواد سليم وذاكرة النصب

عادل كامل

إن كانت تجارب نيازي مولوي بغدادي ـ وهو أقدم مؤلف، ونسّاج، وذهنية مركبة، دشن مقدمات للفن الحديث في العراق ـ خارج دائرة الاهتمام، والأضواء، إلا أنها كانت وليدة تحولات سمحت للفنان ان يرتقي بالحرفة نحو الفن، وبالفن نحو المجتمع المعرفي،

وبالذاكرة (الموروث) نحو العصر، فقد جمع ـ كما يذكر الأستاذ شاكر حسن ـ بين الرسم والخط والزخرفة، لا من خلال " المجال التقني كفنون تشكيلية مستقلة بكيانها عن بعضها البعض بل من خلال رؤيته الفنية التي حاول ان يسبغها عليها جميعا ً. وقد اقتضت هذه، بشموليتها، ان يؤلف ما بين حسه اللغوي والتشكيلي والحرفي في ان واحد، بحيث يستطيع بعد ذلك ان يطور كل فن على حدة بكل غنى مثلما يتوصل أيضا ً إلى نتائج رائدة في مجال الفن المعاصر تسبق عصرها بنحو قرن من الزمان".

لكن هذه الريادة ـ مكانا ً وزمنا ً ـ وجدت، لدى جواد سليم، نموذجها.

فإذا لم تتعرض تجربة نيازي مولوي للأضواء، كي تجد من يرى فيها غير الذي رآه شاكر حسن، وغير الذي أنجزه بمنح (النسق) وثبات جعلت من الذات علامة مجتمعية ـ حضارية، وجعلت من الفن لغة ردم ـ وحفر، رسمت حدا ً فاصلا ً بين ظلمات قرون خيمّت على العراق، وبين آفاق منحت البذرة اشتغالاتها، فان النظام التموزي الرافديني ـ دفن البذرة عبر مفهوم التضحية حد سفك الدم ـ سيعيد اشتغالاته. وهو ذاته سيشكل نظاما ً لجواد سليم خلال حياته الزاخرة بالتدشينات.

فقد تعرض جواد سليم ليس للنقد حد (التجريح)، بنزعته نحو التحديث، بل بتهم تذكرنا بمن تعرض للانتهاك، والموت. فنجد من يزعم ان جواد سليم، لم ينصص، ولم يتأثر، ولم يستفد، ولم يتغذ على تجارب سابقة، بل وضع (الحافر على الحافر)، بالرجوع إلى مشاهدة متحف الشعوب، باللوفر، في فرنسا.

وللآسف لم ترسلني أية جهة رسمية، أو شبه رسمية، بزيارة واحدة منذ بدأت الكتابة، في العام 1968، حتى هذا اليوم (2013) كي ازور هذا الجناح، وأتحقق من هذا الرأي.

بيد ان نصب الحرية، بعد نصف قرن، اشتغل، كما في عدد من مصغراته التي أنجزها قبل سنوات من إقامة النصب، ذات صلة بالنسق ذاته للأساليب الرافدينية ـ وللموروث الشرقي، والإسلامي، والعربي ـ في عصر (الحداثات) الأوربية: الفن بصفته مرآة، وبصفته مزاوجة بين الأزمنة، والأساليب، والذي يلخص مفهوم: التناص ـ التنصيص، بصياغة تتحقق فيها الهوية ـ المدرسة ـ عبر التجريب، وليس عبر الانغلاق أو التكرار، أو محاكاة التيارات المعاصرة.

لا مناص ان جواد سليم عاش زمن نشوء (دولة) مستقلة؛ بمعنى عاش تدشينات وتحولات شملت الحياة العراقية برمتها، وفي مقدمتها ليس استعادة زمن مضى، وتوارى، ودفن، واستبداله، حد القطيعة، بعالم آخر. فجواد سليم، بتأثيرات النشأة، كان يراقب هذه التحولات، وتعقيداتها. وليس انتحار عبد المحسن السعدون، رئيس وزراء العراق، بحدث عابر، بل نموذج رسخ مدى الصعوبات التي ستواجهها (الهوية) ـ بماضيها وبمستقبلها ـ في المجالات كافة، ومنها، الفن. وتشخيصات جواد حول (المدرسة) صريحة تماما ً، فيذكر ـ على سبيل المثال: ان الفن " لا يتبلور ويأخذ قالبه أو مستواه في خلال عشرين سنة أو نصف قرن.." متابعا ً " ومع هذا فالفنان هنا في بغداد يواصل العمل ـ وهذا هو المهم والذي يحمد عليه ـ مما يجعل لنا وطيد الأمل بحدوث النهضة الفنية "، ولكن ثمة محركات كانت تشتغل في أعماق الفنان، يلخصها الأستاذ عباس الصراف بجلاء: "ان موضوعات جواد في الرسم والنحت مدارها الدراما الإنسانية تتمثل قي ذلك الإنسان الطعين المصلوب باسم غصب الآلهة تارة وباسم الديانات السماوية تارة أخرى وباسم العنصرية والطبقية والإقليمية تارة ثالثة" ولجواد سليم إشارات نقدية تحدث بها بعد عام 1958، فذكر " ان القائلين بان الفن العراقي سيبدأ حياته بعد الثورة، هم الذين فشلوا في ان يحققوا أي عمل فني جيد قبل الثورة، ذلك لأن الفن العراقي، طرق ـ في حدود الظروف التي أحاطت به ـ أكثر من موضوع إنساني، بل تناول كثيرا ً من جوانب الحياة في وطننا، وهذا ما يحملنا على القول بان الفن في العهد الجمهوري، لن يكون إلا امتدادا ً للماضي، ولكنه امتداد انفجاري ـ إذا راعينا دقة التعبير ـ لأننا نرقب فيه تفجر جميع الطاقات الفنية المبدعة".

فإذا كان الأسلوب ـ بمعنى الهوية ـ يأتي بعد الموت، بحسب تصوّر بيكاسو، فان جواد سليم، برهافته، راح يشذّب، ويعّدل، ليمنحه معادله مع الخلاصات: الهوية ـ أي ان يجد مأواها في الأزمنة القديمة، وفي ذات الوقت، ألا يكون نسخة مستعارة من هنري مور، أو بيكاسو، أو جايكوميتي، أو خوان ميرو، أو كاندنسكي، أو تابيس، أو أي فنان من فناني عصر الحداثة. لقد قلب السياق، وسمح للأسلوب ان يتشكل عبر روافد مكونات الهوية ـ وأدق تفاصيلها ـ على صعيد الأشكال، والأسلوب. خاصة انه، في نصب الحرية، استعار، واستعاد، دور الفنان ـ ودور الفن ـ في وادي الرافدين؛ ذلك الارتقاء من (الأنا) نحو عملها المنسق مع الضمير الجمعي، من غير محو لها، ومن غير قطيعة معها أيضا ً. فهو بصدد انجاز (علامة) ليست خاصة بالحدث، 14 تموز 1958، المحدد بمكانه وزمنه إلا وهو يزيح ظلمات قرون تعود بنا إلى الواجهات (اللافتات/ الجداريات) في عصور: الأشوريين، البابليين، والسومريين. وكلماته حول معنى كون الفن مرآة اجتماعية، تضمن التعبير عن هذا الهاجس، وفي الوقت نفسه، فان الأسلوب تضمن خزينه العميق، النائي، واللاواعي، لجذور تخيلها عبر منجزه الفني وهو يخاطب المستقبل، ولا يكتفي بالحاضر، ومحدوديته. فالفنان لم يعد حلقة بين مجهولين، بل حاضرا ً لم يجعل من الفن جسرا ً للعبور ـ أو الدعاية ـ، بل، على العكس، تدشينا ً لاتجاه تميز، واختلف، عن مفاهيم موت الفن، وعن مفهوم موت الفنان/ المؤلف، كي يتضمن رسالة استبدلت مفهوم (الوثن) و (السلعة) بالإنسان ككائن مثقل بالانتهاكات، نحو: انعتاقه ـ وكرامته. وقد يكون مصغّر (السجين السياسي المجهول) ـ 1953 ـ نموذجا ً لسلسلة من الأفكار التي شغلت ذهن الفنان، لكن تجاربه الأقدم، والأخرى التي نفذها قبل الشروع بتصميم نصب الحرية، تفصح عن المنحى التجريبي القائم على استبعاد أية أحادية في المنهج، واستثمار نسق (الصيرورة) بالمدى الذي يسمح للفن ألا يكون معالجة فنية خالصة، أو حرفية، أو ذاتية، إلا كمحرك للمعنى الأبعد: الانعتاق ـ بالحفاظ على واقعيته، وتعبيريته، ورمزيته في الأخير.

ففي نصب (البنّاء) ـ 1944 ـ 1945 ـ والفنان في عنفوان شابه ـ يمسك بالحل النموذجي، والوحيد، لحكمة ملحمة جلجامش: الصيرورة، أي ليس لدى الإنسان إلا ان يصنع تاريخه، كي يحقق حريته فيه، لا ان يتخيله، ويتأمله حسب. فالعمل، وهو الذي تأسست عليه أقدم حضارات وادي الرافدين، بعلاماته الهندسية، وبالاستناد إلى العدد، الحساب، والكتابة، والجهد البشري الخلاق، سيشكل المفتاح بمعناه المشفر في نصب الحرية.،

ففي نموذج (البنّاء) جذور واقعية استقاها الفنان من تأمله لأحد أسطوات بغداد، الاسطة طه، وشيد بها المعنى، بتأثيرات لم يغب النحت المصري القديم عنها، ولكنها، في الوقت نفسه، سمحت للبنّاء ان يكون (مركزا ً) للرليف بالتوازن مع فريق العمل، والتفاصيل الأخرى. انه نموذج سيتكرر في نصب الحرية، حيث (الكل) لا يمكن عزله عن أجزائه، ومكوناته، مهما كانت مستقلة، مثلما تؤدي الأجزاء دورها في الكل، كي يأخذ سياقه في الصيرورة: في المعنى ـ وفي الأسلوب/ الهوية.

عن بحث (جواد سليم، وثائق وشهادات) في موقع ألواح سومرية.