صلاح جاهين.. اليومي والمتخيّل

صلاح جاهين.. اليومي والمتخيّل

حسن مدن

برأي ناقد كبير هو المرحوم رجاء النقّاش فإن الأدب العربي، قديمه وحديثه، ينقصه الخيال.

ثمة استثناءات محدودة تعدّ على أصابع اليد الواحدة أوردها النقّاش؛ بينها ما تخيّله أبو العلاء المعري في «رسالة الغفران»، التي تصوّر عالمي الجحيم والجنة، وابن طفيل في «حي بن يقظان» حيث تَصوّر إنساناً يعيش في جزيرة منعزلة يبحث عن المعنى وسر الوجود، وكذلك بعض قصص «ألف ليلة وليلة».

لم يأتِ رأي رجاء النقاش هذا في سياق دراسة عن الخيال في الأدب، إنما في سياق دراسة عن الشاعر صلاح جاهين استشهد بها الدكتور حسن يوسف طه في كتابه «جماليات الإبداع عند صلاح جاهين».

برأى النقاش أن جاهين يمكن أن يعدّ أحد الاستثناءات في غنى الخيال بتجربته الشعرية التي جسدّت، كما يقول، «حقول الشعر الفلكوري والأساطير والخزين الهائل من آيات ومعارف ورموز العالم القديم التي تتضافر بجرأة الخيال الشعري»، ويعطي مثالاً على ذلك قصيدته «بكائية» التي تخيّل فيها السيد المسيح ينزل من الصليب وينام في مرج دمع، و«المجدلية تميل عليه وتنوح».

تظل رباعيات جاهين هي العمل الأشهر له، ورغم ما بدت عليه من استغراق في اليومي والبسيط والعادي، إلا أنها ترتقي إلى مقام الفن الذي يعيش. ربما لأنها كانت، إذا ما استعرنا تعبير الدكتور حسن يوسف طه، «حياة جاهين في كل لحظاته وخلاصة رؤيته وتأملاته».

صدرت الرباعيات كاملة في عام 1963، ولكنها قبل ذلك نشرت يومياً، في حقبة ثرية من تاريخ مصر كانت مليئة بالطموحات التي تجسدت شخص ومشروع جمال عبدالناصر، وكتب الكثير عن تعلّق جاهين بشخص عبدالناصر، حتى إنه أصيب بالإحباط والكآبة بعد رحيله المفاجئ والمبكر.

كانت التقارير التي ترفع لجمال عبدالناصر في سنوات حكمه الأولى تضع جاهين في خانة المعارضين اليساريين لنظامه، لكنه بالتأكيد لم يتذكر اسمه حتى قرأ أشعاره المفعمة بالأمل في التجربة الناصرية، ويروي الكتاب أن ناصر سأل محمد حسنين هيكل عمّن يكون كاتب هذه الأشعار، فأجابه بأنه أديب شاب في «روز اليوسف».

بعد حين كان على والد جاهين أن يؤدي القسم أمام رئيس الجمهورية، بعد تعيينه رئيساً للمحكمة العليا في الجيزة، حين صافحه عبدالناصر همس أحد كبار موظفي الرئاسة في أذن الرئيس بأن هذا الرجل هو والد الشاعر صلاح جاهين، فعاد إلى مصافحته.

روى الأب/ القاضي لابنه ما حدث له مع عبدالناصر، قائلاً له: «لقد قدّمتني إلى الكبار قبل أن يقدمني أحد».