الملا عثمان الموصلي والموسيقى العربية

الملا عثمان الموصلي والموسيقى العربية

زيد خلدون جميل

يعتبر فن الموسيقى والغناء جزءا أساسيا من ثقافة كل شعب في العالم، لأنه يظهر شيئا فريدا لا يميز فقط ذلك الشعب، بل أيضا كل مدينة وكل فنان، ولذلك تفتخر الدول والشعوب بأعظم موسيقييها أكثر من علمائها، ففي ألمانيا نجد بتهوفن، الذي نسمع اسمه وموسيقاه كل يوم، بل أن أحد مؤلفاته يعتبر الموسيقى الوطنية الرسمية للاتحاد الأوروبي.

وهناك موزارت النمساوي الذي اعتبر الطفل المعجزة، وأخيرا تشايكوفسكي الروسي، الذي يعتبر من رموز روسيا، وجميعهم يستحقون هذا التقدير وقد اأنتجت أفلام سينمائية عديدة عن هؤلاء العظماء، والسؤال هنا هو «من لدى العرب بشكل خاص والشرق الأوسط بشكل عام في مستوى أولئك؟». والإجابة هي «نعم، عثمان الموصلي».

من منا لم يسمع أغنية «زوروني بالسنة مرة» التي كان أشهر من غناها المغنية اللبنانية فيروز، وهي الأغنية التي تدعي وسائل الإعلام أن ملحنها هوالموسيقي المصري سيد درويش، وكم من كاتب وصفها بقمة الغناء المصري والعربي الأصيل، ودليل على عبقرية سيد درويش، ولكن كم من المؤرخين والموسيقيين يعرفون بأن ملحن هذه الأغنية الرائعة لم يكن سيد درويش، بل أستاذه الموسيقار والمغني العظيم الملا عثمان الموصلي، وأنها في الأصل أغنية صوفية بعنوان «زر قبر الحبيب مرة»، والحبيب هنا هوالرسول (ص)، ولم يكن ذلك اللحن الوحيد الذي نسب إلى سيد درويش خطأ، بل كان هناك أكثر من لحن واحد شهير لعثمان لاقى المصير نفسه.

ولد الملا عثمان بن الحاج عبدالله عام 1854 في مدينة الموصل، عندما كان العراق تحت الاحتلال العثماني في بيت قديم لعائلة فقيرة جدا، فقد كان والده سقاء يجلب الماء العذب من نهر دجلة لبيعه للناس. وكأن بؤس الفقر المدقع لا يكفي فعندما كان عثمان في السابعة من عمره أصيب والده بمرض لم يمهله سوى بضعة أيام حتى توفي تاركا أولاده برعاية أمهم المعدمة، التي عملت خادمة لدى محمود أفندي العمري، سليل عائلة العمري الشهيرة وشقيق عبد الباقي العمري الشاعر العربي الشهير في القرن التاسع عشر. ولم تكن هذه نهاية كوارث عثمان، فقد هجم وباء الجدري على المدينة في السنة نفسها طاحنا الكثير من سكانها، ولم يرحم عثمان، فقد أصابه ليشوه وجهه ويفقده بصره ليغرق في عالم الظلام لبقية حياته.

احتضنت عائلة العمري عثمان وحرصت على تعليمه القرآن الكريم والشعر والموسيقى، وقد ساعد عثمان في التفوق في هذه الميادين حدة الذكاء وصوت جميل وقابلية الحفظ غير العادية أذهلت كل من عرفه وجعلته متفوقا دائما على أقرانه. وقد صاحبت هذا خصلتان لا يتوقعهما المرء في من له معاناة عثمان وهما خفة دمه ولطافة معشره، وقد فتحتا له الأبواب وجعلته خير جليس ومستمع وقادر على كسب ود الجميع بدون تزلف أو إرهاق. وقد تعمق عثمان في دراسة الدين، حتى ارتدى زي رجال الدين، وهو الزي الذي لم يتركه طيلة حياته. وقد ترك عثمان الموصل متوجها إلى بغداد بسبب وفاة محمود أفندي لينضم إلى ابنه أحمد العمري، الذي أصبح من باشوات الدولة العثمانية وأديبا كبيرا.

كانت بغداد نقطة تحول بارزة في مسيرة عثمان، ففيها تتلمذ على يد رحمة الله شلتاغ، سيد المقام العراقي آنذاك ومبتكر مقام التفليس، وآخرين. وفيها خاض أول تجربة سياسية له، فقد انتقد الدولة العثمانية في خطبة له أدت إلى نفيه إلى سيواس في تركيا عام 1886 لفترة قصيرة، ليعود بعدها إلى الموصل وفيها تابع دراسة قراءة القرآن الكريم، وانضم إلى الطريقة القادرية الصوفية التي تخرج على يدها الكثير من القراء المعروفين في الموصل، وانضم بعد ذلك إلى الطرق الصوفية الرفاعية والمولوية. وهذا يجعلنا نعتقد بأن خفة الدم التي كانت تميز عثمان لم يكن سوى غطاء لنفس معذبة غارقة في عالم مظلم مليء بالأصوات. وأضاف عثمان إلى إنجازاته اتقان اللغتين الفارسية والتركية.

انتقل عثمان إلى اسطنبول وبرز فيها بسرعة ليصبح أشهر قارئ للقرآن وملحن ومغن فيها، وانتشر اسمه في كل مكان حتى سمع عنه السلطان عبدالحميد، فجلبه إلى قصره عن طريق القبض عليه ليسمعه شيئا من أغانيه. وقد برع عثمان في أدائه وكرر الزيارة عدة مرات، بل أنه قام بالغناء أمام حريم القصر، وتطور الأمر ليقوم عثمان بمهام رسمية للسلطان عبد الحميد. وكانت اسطنبول عاصمة الامبراطورية العثمانية ومركز ثقافتها، ومن يبرز فيها يعرف اسمه في جميع أنحاء الإمبراطورية، وقد ساعد هذا عثمان وجعله مرحبا به أينما ذهب، ومكنه من تأسيس علاقات وطيدة مع مشاهير عصره.

كل ما دخل عثمان بلدا غنى وتعلم وعلم واعتبر الأبرز في الغناء والتجويد فيه، ففي مصر أدخل نغمات الحجاز كار والنهاوند وفروعهما، وقام بإدخال المقام العراقي مثل، المقام المنصوري الموصلي في الغناء التركي، ولا يزال هذا الطراز يسمى في تركيا بطراز الحافظ عثمان الموصلي. ومن مشاهير تلامذته في مصر محمد كامل الخلعي، وأحمد ابوخليل القباني وعلي محمود ومحمد رفعة، وفي العراق الحاج محمد بن الحاج حسين الملاح والحاج محمد بن سرحان ومحمد صالح الجوادي ومحمد بهجة الأثري وحافظ جميل والمصري سيد درويش الذي التقى عثمان في دمشق ودرس على يده لمدة ثلاث سنوات، وقام باقتباس موشحات دينية وأغان كثيرة من عثمان الذي كان له الفضل الأكبر في نمو مواهب سيد درويش ووصوله إلى تلك المرتبة المتقدمة. وأشهر ما اقتبسه سيد درويش كان أغنية «زوروني بالسنة مرة» وأغنية «طلعت يا محلى نورها»، التي كانت موشحا بعنوان «بهوى المختار المهدي». كما كان عثمان من دعم مطرب العراق الأول محمد القبانجي.

واشتهرت ألحان عثمان وغناها أبرز الفنانين العرب، من أمثال فيروز وسيد درويش وصباح فخري، واعتبرت أفضل أعمالهم، وكنت أتمنى من هؤلاء النجوم وذلك العدد الهائل من النقاد الفنيين والصحافيين أن يقروا بالحقيقة البسيطة، وهي أن هذه الألحان من تأليف عثمان الموصلي، الذي مات منسيا لتختفي ذكراه في متاهة الماضي. وأنا لا أتكلم هنا عن صغار الفنانين فالعتاب على كبارهم.

ما أنتجه عثمان من موشحات وأغان أكبر من أن يذكر بالتفصيل في مقال بسيط مثل هذا إلا أنني سأذكر أشهرها:

«زوروني بالسنة مرة».

«طلعت يا محلى نورها» التي غنتها فيروز.

«أسمر أبوشامة» التي أخذت من موشح لعثمان الموصلي بعنوان «أحمد اتانا بحسنه سبانا».

«فوق النخل فوق» التي أخذت من موشح لعثمان الموصلي بعنوان «فوق العرش فوق». وأشهر من غناها المطرب العراقي الكبير ناظم الغزالي الذي كان قد أقر بأن الأغنية من تلحين عثمان.

«ربيتك زغيرون حسن» التي أخذت من موشح لعثمان الموصلي بعنوان «يا صفوة الرحمن سكن».

«لغة العرب أذكرينا» التي غناها المطرب العراقي الشهير المرحوم يوسف عمر مقرا بنسبها لعثمان واقتبسها فنانون لبنانيون وهنود تحت عناوين مختلفة.

«يا ناس دلوني» التي أخذت من موشح لعثمان الموصلي بعنوان «صلوا على خير مضر».

«يا أم العيون السود» التي غناها ناظم الغزالي.

«يا من لعبت» التي غناها ناظم الغزالي.

«قوموا صلوا» التي غناها ناظم الغزالي.

«البنت الشلبية» التي اقتبست من قبل احد المغنيين الهنود عام 1959 ثم غنتها فيروز.

«قدك المياس» التي غناها المطرب السوري صباح فخري ثم غنتها فيروز تحت اسم «يا ليل الصب متى غده». كما ازدادت الاقتباسات لتدخل اللغات الأجنبية فهناك نسخة يونانية تحت اسم «matia mou Μάτια μου» وأخرى تركية تحت اسم «ada sahillerinde». وكلمات الأغنية من شعر عثمان، فقد كان شاعرا بارزا.

وكان عثمان ناشرا معروفا للكتب وأشهرها: الأبكار الحسان في مدح سيد الأكوان (1895)، تخميس لامية البوصيري (1895)، المراثي الموصلية في العلماء المصرية (1897)، مجموعة سعادة الدارين (1898)، الأجوبة العراقية لأبي الثناء الآلوسي (1890) والترياق الفاروقي وهو ديوان عبدالباقي العمري (1898). ونشر كتبا لغيره مثل «حل الرموز وكشف الكنوز» وقام باصدار مجلة في مصر تدعى «مجلة المعارف» وفتح دكانا في أسطنبول لبيع الكتب.

وعلى الرغم من كونه مرحا وعذب المعشر ومرهف الحس وسريع البديهة ومغنيا كبيرا وشيخ قراء القرآن وملحنا يمتاز بطابع البهجة ورجل دين ولاعب شطرنج ماهرا ولاميعرف النسيان وعازفا بارعا للعود والطبلة والقانون والناي وناشرا للكتب ومؤلفا لها ومتزوجا مرتين، إلا أن هذا لا يخفي الطبيعة البائسة للرجل التي كان كل من درسه بعمق يكتشفها. فارتماؤه في أحضان الصوفيين وانشغاله الدائم في مختلف الفنون لم يكونا سوى وسيلة له لنسيان بؤسه في عالم الظلام وشعوره المخيف بالوحدة، في عالم لا يستطيع رؤيته. ومن الواضح أن نفسيته المضطربة كانت عاملا مهما في حبه للتنقل، وكأنه غير قادر على العثور على راحة البال في أي مكان. وانتهى عذاب هذا العملاق بوفاته يوم الثلاثاء المصادف 30 كانون الثاني/يناير 1923 في بغداد تاركا إرثا عظيما أرجو ألا ينساه العرب كما نسوا غيره فمن نسي تاريخه تاه في درب الحياة.