في ذكرى رحيله في 2 شباط 1985..هكذا تعرفت على جعفر الخليلي ومجلة «الهاتف»

في ذكرى رحيله في 2 شباط 1985..هكذا تعرفت على جعفر الخليلي ومجلة «الهاتف»

كريم مروه

كان ذلك في أواخر أربعينات القرن الماضي. وكان منزل حسين مروة في مدينة الكاظمية مركزاً رحباً للقاءات المثقفين العراقيين والمثقفين اللبنانيين الذين كانوا كثراً في العراق في تلك الحقبة من تاريخهم، ابتداء من عهد الملك فيصل الأول. وكان حسين مروة لا يزال في السنوات الأولى من مغادرته زيه الديني، وفي المرحلة الأولى من بداية رحلته الجديدة في عالم الأدب، تدريساً وكتابة.

كان يعمل مدرساً كمهنة يكسب منها رزقه. وكان يتنقل بين مدن العراق ومدارسها المتعددة، إلى أن استقر به المقام في الكاظمية، من حيث الإقامة، وفي بغداد في ممارسة التعليم في مدارسها. وكان يمارس، في الوقت عينه، الكتابة في الصحف اليومية، وفي المجلات الثقافية المتعددة أنواعها واتجاهاتها. وقد هيأت له سعة ثقافته في التراث وفي فنون الأدب الإمكانية لإقامة علاقات واسعة في عالم الثقافة الذي كان مزدهراً في تلك الفترة من تاريخ العراق.

وكانت اللقاءات التي تتم في منزله، وما أكثرها، وما أكثر تنوع المثقفين الذين كانوا يأتون لزيارة صديقهم حسين مروة، كانت تلك اللقاءات، بالنسبة إلى فتى مثلي في ربيع العمر، مناسبة رائعة لتكوين شخصيتي، ولإغناء معارفي في ميدان الثقافة. وكنت، منذ المرحلة المتوسطة من دراستي، قبل أن أذهب إلى العراق لمتابعة دراستي الثانوية في مدارسها برعاية حسين مروة، قد بدأت أقرأ الأدب، شعراً وقصة ورواية ونصوصاً مسرحية، بالعربية وبالفرنسية. كما كنت قد بدأت ممارسة هواية الكتابة الأدبية.

كان زوار حسين مروة، في معظمهم، من أصدقائه الأوئل في مدينة النجف، عندما كان رجل دين، ومن أصدقائه في المدن الأخرى التي كان يتنقل بين مدراسها لتعليم اللغة العربية وآدابها. وهي مدن الناصرية والحلة وسامراء، كما أذكر. وكان منزل مروة يفيض بأنواع المجلات الثقافية، العراقية بتعدد أنواعها، واللبنانية والمصرية كذلك. وكان من بين تلك المجلات واحدة استهوتني بنوع القصص التي كانت تنشر فيها.

وهي مجلة «الهاتف». ولم أكن أعرف، في البدء، أن صاحبها هو جعفر الخليلي، رغم أنني كنت مواظباً على قراءة مسلسل قصصه عن عالم الجن، أو في ما سماه فيما بعد «قرى الجن». وكانت تلك القصص مترابطة فيما بين أحداثها، كما لو أن كاتبها كان يروي وقائع حقيقية. وكان الخليلي، في سرد تلك القصص، مثيراً للدهشة. إذ كان يفرض على القارئ بذكاء متابعة القصص بشغف. وهكذا استمر اهتمامي بقراءة قصص الخليلي في مجلة «الهاتف» قبل أن ألتقي به في منزل حسين مروة. كما كنت أتابع ما كان ينشر في المجلة من مقالات تعالج شؤوناً أدبية وسياسية كانت تغريني بقراءتها.

هكذا تعرفت على جعفر الخليلي ومجلة «الهاتف»

ذات يوم زارنا جعفر الخليلي، بعد أن كنت قد تنبهت إلى أنه هو ذاته صاحب تلك القصص وصاحب المجلة التي أحببتها، وواظبت على قراءتها. وقد أدهشني في شخصية جعفر الخليلي ظرفه، الذي كان يحبب إليه من كانوا يأنسون إلى مجالسته والسمر معه، والاستماع إلى أحاديثه والاستمتاع بها. وكان يتبادل مع حسين مروة النكات الأدبية والسياسية. وكان يشاركهما في العديد من اللقاءات أدباء عراقيون ولبنانيون، أذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، كلاً من محمد شرارة وحسن الأمين اللبنانيين، وجعفر همدر العراقي ومحمد حسن الصوري اللبناني العراقي. وكانوا جميعهم أدباء معروفين. وكنا، نزار حسين مروة وأنا، نستمتع بأحاديثهم ونغني معارفنا بها. كما كنا نشاركهم متعة الظرف والنكات والضحك بأعلى الصوت ومن أعماق القلب.

تكررت زيارات جعفر الخليلي إلى منزل حسين مرووة. وأدى ذلك إلى تعميق معرفتي بشخصيته. لكن عودتنا المفاجئة إلى لبنان، بعد الانتكاسة التي أصيبت بها انتفاضة الشعب العراقي، قطعت الصلة بيني وبين متابعة تعميق معرفتي بجعفر الخليلي. كما انقطعت علاقتي بمجلة «الهاتف». غير أن ما انحفر في ذاكرتي من تلك اللقاءات في منزل حسين مروة عن جعفر الخليلي ظل حاضراً بقوة. وليس سهلاً، كما تشير إلى ذلك تجربتي الشخصية، أن تمحى من الذاكرة الأشياء والأحداث والصور الجميلة في حياة البشر.

ذكرياتي مع (الهاتف)

تذكرت في هذه الأيام، وأنا أقرأ في موسوعة جعفر الخليلي المعروفة «هكذا عرفتهم»، تذكرت تلك اللقاءات التي جمعتني بهذا الأديب العراقي الموسوعي، وهي لقاءات لم تكن لتسمح لفتى بعمر الربيع مثلي أن يقيم علاقة صداقة مع ذلك الأديب. ولم يكن ذلك الأمر يشغلني. كان يكفيني من تلك اللقاءات أن أتعرف إلى أهل الثقافة، وإغناء معارفي ومداركي من خلال الاستماع إلى أحاديثهم، ومن خلال التعرف إلى سمات شخصياتهم.

استعدت ذكرياتي عن ذلك اللقاء مع جعفر الخليلي، واستعدت ذكرياتي عن مجلة «الهاتف» وعن قصص الجن التي لا تزال أحداثها محفورة في ذاكرتي، من دون تفاصيلها. ثم قادتني الذكريات، وأنا أقرأ بعض ما جاء من تعريفات لبعض الشخصيات العراقية في موسوعة الخليلي «هكذا عرفتهم»، قادتني إلى الغوص في عالم جعفر الخليلي، مستعيناً بما تيسر لي من معطيات عنه من هنا ومن هناك، في بعض المقالات المتفرقة، لاسيما ما ورد في الجزء الرابع من الموسوعة المشار إليها من معلومات عنه سجلها صديقه مشكور الاسدي.

وهي تشتمل على معلومات وافية عن سيرته وعن سيرة جده وسيرة والده وأشقائه. كما تشتمل على عدد من الطرائف التي تتصل بشخصية الخليلي، لاسيما روح النكتة عنده. غير أن ما لفت نظري فيما اطلعت عليه من سيرة الخليلي هو الأصول الدينية والأدبية والعلمية والوطنية لعائلته. فقد حفلت عائلته بالمرجعيات الدينية النجفية. كما حفلت بالشخصيات التي كان لها دور في النضال الوطني في مراحل قديمة وحديثة من تاريخ العراق، قبل الاستقلال وبعده.

ويقول الأسدي في عرضه لسيرة الخليلي أنه ورث عن أبيه مكتبة غنية بأنواع مختلفة من الكتب في ميادين الأدب والشعر والتاريخ والعلوم وفي كل ما يتصل بالمعارف الإنسانية. وقد تكونت شخصية الخليلي منذ بدايات عمره في البحث عن المعرفة في مكتبة والده وخارجها. لكن الأب، الذي كان مثقفاً، وكان ديمقراطياً في التعامل مع أولاده، قد أسهم في تربيتهم على حب المعرفة، وعلى الحرية في التعبير عن أفكارهم، وفي عدم التنازل عن هذه الحرية أياً كان الثمن، بما في ذلك في النقاش معه، وفي الاختلاف، وفي النقد. وكان يطلب منهم عدم الاكتفاء بما يرونه أمامهم من وقائع، أو ما يصل إليهم بالصدف من معلومات.

إذ هو كان يدفعهم إلى بذل الجهد في اكتساب المعارف، وفي العناية بتكوين السمات الأساسية لشخصياتهم. وكان الجد قد أنشأ مدرسة عصرية، كانت الأولى من نوعها في ذلك التاريخ. وأصدر فتوى تحث على جمع المال لتأمين حاجات المدرسة. وعمل على تأمين عدد من كبار الاختصاصيين في مجالات الأدب والعلوم لكي يمارسوا التدريس فيها.

النضال ضد الاحتلال

هكذا نشأ جعفر الخليلي في مناخ الحرية والمعرفة والثقافة، فضلاً عن المناخ الذي ساد في العائلة، مناخ النضال في مرحلة الاحتلال البريطاني للعراق، قبيل ثورة العشرين، وخلالها، وفي المرحلة التي أعقبت تلك الثورة. وأدت تلك التربية العائلية وسيرة الآباء والأجداد بالخليلي إلى أن يشارك، حتى وهو شاب، ثم في مرحلة النضج، في كل المعارك الوطنية بالقلم وبسواه التي شهدها العراق.

واتخذت مشاركته في الثورة صيغة مناشير تشبه صفحات الصحف، كانت تكتب فيها بخط اليد شعارات تحرض الناس على الاحتلال. وكانت توزع هذه المناشير في الأحياء. وكان يلصق بعضها على الجدران في الصحن الشريف. ولم يمض وقت حتى تحول الخليلي إلى صحافي يمارس الكتابة في العديد من الصحف. ولم يمض وقت حتى بدأ ينشئ الصحف والمجلات، إما بمفرده أو بمشاركة بعض أصدقائه، معتمداً على الذات، وعلى القليل من المال. وكان المال القليل يقوده إلى إقفال تلك الصحف من تلقاء ذاته. علماً بأن بعض تلك الصحف قد عوقبت من قبل السلطات، بسبب مواقف الخليلي، وأقفلتها.

كانت أول تجربة للخليلي في العمل الصحافي في جريدة «الفجر الصادق»، التي أسسها في عام 1930، وعاشت سنة واحدة. وكان هو الذي أوقفها لعدم توفر الإمكانات المادية. وفي عام 1934 أصدر مجلة «الراعي»، التي عاشت سنة واحدة، إذ أغلقتها السلطات، بسبب مواقف الخليلي المعارضة. غير أن مجلة «الهاتف»، التي كانت أهم إنجازاته الصحفية فقد صدرت في النجف أولاً في عام 1935. ثم انتقل بها في عام 1941 إلى بغداد. وظلت تصدر من دون توقف التي أن أفلقتها السلطات في عام 1954. وأهمية «الهاتف» إنما تكمن، إلى جانب دورها الثقافي العام، في أنها كانت حرباً على التقاليد البالية. وقد دفع الخليلي ثمن مواقفه في جرأته في محاربة التقاليد أثماناً باهظة، بما في ذلك في تعرضه للاعتداء الجسدي عليه.

ورغم أن الزمن قد طال وابتعد بي عن أحداث تلك الأيام، التي كانت مجلة «الهاتف»، مع عدد من المجلات الأخرى، أجزاء جميلة منها، فإنني لن أنسى دور هذه المجلة وأخواتها في تيسير المعرفة، لي ولأمثالي من أبناء جيلي، وفي تعميمها ثقافة الحرية، وثقافة التحديث في الحياة العامة، وفي التحرر من التقاليد البالية.