بروكلمان والأدب الإسلامي

بروكلمان والأدب الإسلامي

د. حسن الأمراني

في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، قام الغرب يتمطى، ويلقي ببصره من وراء جبال الأورال، ليبصر العملاق الشرقي منتصباً جبّاراً، ومنذ ذلك التاريخ، تراوحت العلاقات الشرقية –الغربية ما بين الاحتكاك الحربي والاتصال الحضاري، وبالرغم من تعدد المشارق، إلا أن المشرق الإسلامي كان أشد المشارق حضوراً عند الغربيين عامة، وداخل المؤسسة الاستشراقية خاصة.

وقد تنازعت الاستشراق منذ ذلك التاريخ رؤيتان متباينتان: إحداهما الرؤية الكبلنجية. التي ترسخ المركزية الأوربية، وتقيس النمو الحضاري للأمم والشعوب إلى المرجعية الغربية وحدها، والأخرى تؤمن بالحوار الحضاري سبيلاً إلى تأسيس حضارة كونية.

ويبدو أن هذا التنازع لم يكن متكافئاً بحيث ظلت الرؤية الأولى مهيمنة على الحقل الاستشراقي هيمنة دفعت بعض المستشرقين إلى التصريح بأن الغرب لن يمتلك ذاته وجوهره إلا بتدمير آليات الاستشراق التقليدي.

وقد ألقى هذا التنازع بظله على الشرقيين، فوقفوا من الاستشراق ومؤسساته مواقف متباينة، تتراوح ما بين الدفاع والهجوم، إذ رأى بعضهم الاستشراق خيراً كله، ورآه بعضهم شراً كله، وحاول بعضهم أن يسدد ويقارب.

موقع بروكلمان من المؤسسة الاستشراقية:

يصنف كارل بروكلمان عادة ضمن الزمرة المعتدلة من المستشرقين، وذلك بسبب أن المجال المعرفي الذي شغل هذا المستشرق كان –في معظمه- مجالاً يفرض نوعاً من الموضوعية لاعتماده الوصف والإحصاء، أكثر من اعتماده النقد والتحليل مما يغيب البعد الإيديولوجي، أو يخفف من غلوائه، على أقل تقدير. فقد اشتغل هذا المستشرق بالدراسات اللغوية خاصة، فألف في النحو المقارن للغات السامية، وفقه اللغات السامية وحين انتقل إلى التأليف في الأدب العربي، كان كتابه (تاريخ الأدب العربي) عملاً ببيليوغرافيا في أساسه، مما لا يخرجه من دائرة الوصف والإحصاء وما وقع فيه بروكلمان من أخطاء في هذا الكتاب يعده بعضهم مما يقع لأي باحث، ولا دخل فيه للهوى وسوء النية.

من تاريخ النقد الأدبي:

هناك ملاحظتان ينبغي تسجيلهما ونحن نتناول كتاب بروكلمان (تاريخ الأدب العربي).

- الملاحظة الأولى: أن هذا الكتاب ليس عملاً فهرسياً خالصاً بل هو يتضمن من الأحكام ما يكشف عن ذوق المؤلف الأدبي من جهة، وميوله ونزعاته المذهبية من جهة أخرى.

- الملاحظة الثانية: أن هذا الكتاب يتداخل فيه تاريخ الأدب –النقد الأدبي- فهناك الأدب في مجاله النظري، ويهتم بالحديث عن مبادئ الأدب ومقاييسه وقوانينه، وهناك الأدب في مجاله التطبيقي، ويهتم بدراسة النصوص الأدبية، إما في فترة زمنية معينة، وإما بتتبع تلك النصوص في مراحلها التاريخية المختلفة..

ويدخل تحت هذا المجال (النقد الأدبي) وهو سكوني في معالجته، و(تاريخ الأدب) وهو حركي في المعالجة وإذا كان من الصعب فصل التاريخ الأدبي عن النظرية والنقد، بحكم أن التاريخ الأدبي يعالج الوقائع القابلة للتحقق من صحتها، وأن النقد الأدبي يعالج مسائل الرأي والإيمان، فإن كتاب بروكلمان يقوم دليلاً على هذه الصعوبة، إذ إن كتابه، وإن كان يدخل ضمن دائرة التاريخ الأدبي، إلا أنه مليء بالنظرات والأحكام النقدية، فهو، وإن كان من جانب يقدم لنا رصيداً صالحاً من المعارف المتصلة بالأدب إلا أنه يقدم من جانب آخر رؤية خاصة لذلك الأدب، وهذه الرؤية الخاصة هي التي جعلت بروكلمان يوفق إلى تقديم تقسيم جديد ومتميز لعصور الأدب يخالف به سابقيه ومعاصريه من العرب والمستشرقين على السواء، فقد قسم الأدب العربي إلى مرحلتين:

أ – أدب الأمة العربية، من أوليته إلى سقوط الأمويين.

ب – الأدب الإسلامي باللغة العربية.

فما الذي يميز الأدب الإسلامي عن غيره؟

وما الذي سوغ لبروكلمان أن يجعل العصر العباسي منطلقاً للأدب الإسلامي؟

وهل استطاع تجاوز المعيار الزمني في تقسيمه، أم أنه اكتفى بإعادة صياغته؟

ما الأدب الإسلامي؟

قبل خمسين عاماً، لم يكن مصطلح (الأدب الإسلامي) يثير ما يثيره اليوم من تساؤلات، فقد كان المعيار الزمني سبباً في صرف الدارسين عن تحديد طبيعة الأدب الإسلامي، ورصد خصائصه ومميزاته، ولم يكن يفهم من (الأدب الإسلامي) غير ذلك الأدب الذي تلا العصر الجاهلي، فجعله بعضهم وقفاً على عصر النبوة والخلفاء الراشدين، وامتد به بعضهم ليشمل عصر بني أمية.

ولم تبرز ضرورة إعادة النظر في المصطلح إلا مع فئة من الدارسين الذين مزجوا بين الدعوة والتذوق الأدبي، من أمثال أبي الحسن الندوي، وسيد قطب، ومحمد قطب ومن سار على نهجهم كعماد الدين الخليل ونجيب الكيلاني ومحمد حسن بريغش.

لقد قدم هؤلاء مفهوماً جديداً للأدب الإسلامي، يكسر عنه طوق الزمن، ويجعله أدب فكرة لا أدب فترة، أدباً له خصائصه الثابتة في إطار التغيير، ومقوماته الأصيلة في إطار التطور، فهو التعبير الجميل بالكلمات عن الكون والحياة والإنسان، انطلاقاً من التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان.

هذا المفهوم لم يكن مما انتبهت إليه الدراسات والبحوث الأكاديمية المعروفة، فبقي، من أجل ذلك، المعيار الزمني سيفاً مصلتاً يميز الأدب الإسلامي عن غيره، وكأن الإسلام لحظة من عمر الزمن عبرت وانتهى وميضها.

ولذلك، فقد كانت إشارة بروكلمان إلى ظهور أدب إسلامي مكتوب باللغة العربية، مع مطلع العصر العباسي، إشارة جديرة بالتأمل والفحص.

يقول بروكلمان:

(لم يؤثر الإسلام تأثيراً عميقاً في شعراء العرب، كما يريد النقاد العرب أن يقنعونا بذلك، فقد سلك شعراء العصر الأموي دون مبالاة مسالك أسلافهم الجاهليين ولم تسد روح الإسلام حقاً إلا بعد ظهور العباسيين).

وهكذا نما في عهد العباسيين أدب إسلامي بلسان عربي.

إن بروكلمان، وهو يقرر نمو أدب إسلامي في عهد العباسيين، يعيد طرح بعض القضايا التي زرع بذورها النقاد القدامى من أمثال الأصمعي وابن سلام.

من المعلوم أن قضية أثر الإسلام في الشعر، سلباً أو إيجاباً، قد أثارها مجموعة من نقادنا القدماء، من الأصمعي حتى ابن خلدون، فقد ذهب الأصمعي إلى أن (طريق الشعر إذا أدخلته في باب الخير لان، ألا ترى أن حسان بن ثابت كان علا في الجاهلية والإسلام، فلما دخل شعره في باب الخير –من مراثي النبي صلى الله عليه وسلم وحمزة وجعفر رضوان الله عليهما وغيرهم- لان شعره) وأثيرت من وراء ذلك قضية ضعف الشعر في الإسلام.

ويريد بروكلمان أن يدلل على رأيه، المتصل بضعف أثر الإسلام في الشعر، في مواطن مختلفة، إلا أن آراءه في هذا المجال لا تخلو من اضطراب، فهو يعد الإسلام مسؤولاً عن انحراف الشعر من لغة الوجدان والصدق إلى أن يصبح ضرباً من التسول. ففي مقارنة بين المديح في العصر الجاهلي وصدر الإسلام يقول:

(وكثيراً ما كان الشاعر يتجه بفنه أيضاً إلى مدح بطل أو أمير من قبيلته، ولكنه لم يكن يفكر قديماً في الجائزة الرنانة، التي نزلت بمكانة شعراء المديح المحترفين في بعض الأحيان، منذ عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى درك المتسولين بالغناء).

فهذا يعني أن الشعر التكسبي لا أصل له في الجاهلية كما يعني أن المديح النبوي لم يكن دفاعاً عن العقيدة، ومنافحة عن الرسالة، بقدر ما كانت تمليه شهوة الطمع.

والذي شدا شيئاً من تاريخ الأدب العربي ونهى النفس عن الهوى، يدرك جيداً أصول المديح التكسبي عند العرب، ويعرف طبيعة العلاقة التي كانت قائمة بين المادح والممدوح، كما يعرف جيداً أمر الأعشى الذي قال عنه ابن سلام: (وكان أول من سأل بشعره)(وقال عنه ابن رشيق أنه (جعل الشعر متجراً) وقد جعل القدماء ذلك سبباً من أسباب تدني مكانة الشاعر عن الخطيب في الجاهلية.

على أن بروكلمان يعقد الفصل الثالث من الباب الثاني، للبيد والأعشى، فيقول عن الأول:

(ولما طار ذكر لبيد في الشعر بقي وفياً بقومه، وازدرى مهنة الشاعر المتجول بالمديح، في طلب الجوائز والصلات).

فلبيد إذن لا يمكن أن يتجانف عن نهج إلا إذا كان مطروقاً.

ويقول عن الأعشى:

(أما القصيدة الدالية المنسوبة إليه في مدح محمد (صلى الله عليه وسلم) فلم تعد أن تكون مزاولة للتكسب بالشعر، ولا يحتمل أن تكون لها علاقة بعقيدته).

فكيف يمكن أن تكون مزاولة للتكسب بالشعر، وهي –إن صحّت آخر شعره؟

وبروكلمان نفسه يقول بعد ذلك مباشرة:

(وكان الأعشى يجول بشعره في بلاد العرب من حضرموت إلى الحيرة، يكرمه الناس ويغمرونه بالصلات والهدايا إذا مدحهم، ويخشون حاله ويرهبون لسانه لإقذاعه في الهجاء).

فهذا نفسه –مما أنكره بروكلمان قبل- هو ما عبر عنه ابن رشيق حين قال عن الأعشى:

إنه (جعل الشعر متجراً).

وحين تحدث بروكلمان عن لبيد، قال عنه إنه (قدير على صياغة موضوعات البداوة صياغة ساحرة، ومما يزيد شعره نفاسة ما يتردد فيه من نغمات دينية) فالنغمات الدينية إذن مما يزيد الشعر نفاسة.

وقد كانت حجة بروكلمان، للرد على من قال: إن لبيداً لم يقل شعراً في الإسلام، أن (كثيراً من شعره مطبوع بطابع الوحي) فكيف يكون شعره مطبوعاً بطابع الوحي، ثم يقال إن أثر الإسلام فيه كان ضعيفاً؟ إلا أن يكون مرد هذا الحكم رأي أبي عمرو بن العلاء، وليس ذوق بروكلمان الأدبي..

كان اعتذار بعض الدارسين عن ضعف أثر الإسلام في الشعراء الحديثي العهد بالإسلام، أنه كان لابد من فترة زمنية كافية، يتمكن فيها الإسلام من نفوسهم، وتتشربه أرواحهم، وتخالط بشاشته قلوبهم، ليصبح بعد ذلك منبعاً لإبداعهم ولذلك فإن صياغة هذا الشعر الذي دار حول النهضة الإسلامية (كانت على العموم صياغة جاهلية لم يستطع العقد الحديث بحوادثه العظيمة أن يغير منها، لأنها ثمرة ملكات عقيدة تم نضجها من قبل، ولأن تغير ملكات الشعر ومواهبه يسير ببطء، بل يتم على يد جيل جديد.

وعلى هذا، لم يكن من المنتظر أن يظهر أدب إسلامي خالص مع ظهور الإسلام، لا في عهد النبوة، ولا في عهد الخلفاء الراشدين، ولاسيما إذا عرفنا أن معظم شعراء الرسول، صلى الله عليه وسلم، سلخوا أشطراً من أعمارهم في الجاهلية، فكان لابد من انتظار أجيال جديدة، لا صلة لها بالجاهلية لتشهد ميلاد أدب إسلامي، جدير بهذا الاسم، ومن هنا يكون إطلاق مصطلح (الأدب الإسلامي) على أدب صدر الإسلام، فيه كثير من التسامح.

وبالرغم من أن هذا الرأي بحاجة إلى كثير من الفحص، لتعارضه مع كثير من نصوص تلك الفترة، إلا أنه منسجم، إلى حد ما، مع رأي بروكلمان الذي ذهب إلى أن روح الإسلام لم تسد حقاً إلا بعد ظهور العباسيين، وقد اعتمد بروكلمان، فيما ذهب إليه، معيارين اثنين:

فأما المعيار الأول، فمرتكزه أن المجتمع الإسلامي، إلى نهاية العصر الأموي، ظل مجتمعاً خالصاً، ولئن كان العرب قبل الإسلام، على الرغم من تشتتهم السياسي في الظاهر، ربطت بينهم وحدة معينة في أفكار الديانة والعادات وجعلت منهم أمة واحدة فإن هذه الوحدة ظلت قائمة في العصر الأموي بحكم كون (سلطان الدولة الأموية سلطاناً عربياً أصيلاً، متجاوباً تماماً مع نزعات الأمة العربية، موافقاً لطابعها الشعبي إلى حد معلوم) ومن هنا ظل قالب القصيدة العربية في العصر الأموي قالباً جاهلياً، إلى أن (صار طرازاً قديماً بالياً في أواخر عهد الدولة الأموية، فلم يقو على مسايرة العصر).