فولتير ومبادئ الحرّية والعدالة

فولتير ومبادئ الحرّية والعدالة

عيسى مخلوف

نهاية الشهر الماضي، أعادت ألمانيا إلى فرنسا عشرة مجلّدات للفيلسوف الفرنسي فولتير بعد نهبها خلال الحرب العالميّة الثانية.

وكانت هذه الكتب نُشرت بين 1820 و1823، وتشكّل جزءاً من مجموعة الأعمال الكاملة التي تتألّف من 70 مجلّداً. بين الكتب التي استعادتها فرنسا، هناك ثلاثة كتُب مخصّصة للمسرح وكُتُب أخرى تُعنى بالتاريخ والسياسة، ومجلّد واحد يحتوي على مراسلات. النتاجات التي سرقها جيش الاحتلال لا تنحصر في كتب أدبيّة وفكريّة، بل تتضمّن أيضاً أعمالاً فنّيّة لعدد من الفنّانين التشكيليين، ومنهم، على سبيل المثال، الفنّان مارك شاغال. هذه الأعمال أُعيد جزء منها، وسيُعاد لاحقاً الجزء الآخر.

فولتير الذي عاش بين نهاية القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، هو أحد أعلام عصر الأنوار إلى جانب كلّ من جان جاك روسّو ومونتسكيو ودُونِي دِيدْرُو وغيرهم من الذين جمع بينهم هاجس أساسي: تمكين الناس من الوصول إلى المعرفة الحقيقية، وبلوغ الحرية، وتحقيق السعادة. ولقد شكّك هؤلاء الفلاسفة في أسس الدين، وتَحَدّوا المُلكية المُطلَقة، وطالبوا بالمساواة الاجتماعية، كما حاربوا العبوديّة باسم مبدأ المساواة وحقوق الإنسان.

عُرفَ فولتير برؤيته الفلسفيّة التي ساهمت في تأسيس الحداثة الفكريّة وتركت أثرها الواضح في عدد من المفكرين الذين لمعت أسماؤهم إبّان الثورة الفرنسيّة. كان فولتير صاحب حسّ نقدي متّقد. انتقد استعمال الدين وتوظيفه لغايات هي أبعد ما تكون عن الدين، ووقف أيضاً ضدّ الكاثوليكيّة التي استفادت من دعم السلطة السياسيّة لها، وتواطأت معها على تشويه صورة العدالة. كتابه "زاديغ" عَكَسَ مبدأ العدالة كما حلم به التنويريّون. ولذلك التفتَ طه حسين إلى هذا الكتاب ونقله في العام 1947 إلى اللغة العربيّة، وسمّاه "القدَر". كتاب فولتير لا يقتصر على طرح فكرة القضاء والقدر، بل يذهب أبعد من ذلك من خلال طرح أفكار أساسيّة شغلت فلاسفة عصر الأنوار، ومنها فكرة العدالة وحكم العقل. وهذا ما أراد طه حسين إيصاله إلى القرّاء العرب، هو الذي كان يحلم بتحقيق حوار متكافئ بين الشرق والغرب، مدركاً أنّ مثل هذا الحوار لا يستقيم من دون الإيمان بالعلم والمعرفة وتفعيل العقل. وكان من الطبيعي أن ينجذب الكاتب المصري إلى كتاب فولتير، فهو يتناول في قالب أدبي روائي رسائل بليغة في الحرية والديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان، وهذا أكثر ما يتوق إليه البشر الذين يبحثون عن موقع لهم تحت شمس العصر.

من المعروف أن طه حسين طاردته تهمة التكفير بسبب كتاباته الجريئة (خصوصاً كتابه "في الشعر الجاهلي") التي لم تسلِّم بالفكر السائد غير العقلاني والقائم على الخرافات والغيبيّات. التجربة التي عاشها طه حسين مع التكفيريين، عاشها أيضاً كلّ من علي عبد الرازق (بسبب كتابه "الإسلام وأصول الحكم") وفرج فودة ونجيب محفوظ (بسبب روايته "أولاد حارتنا") ونصر حامد أبو زيد، وجميعهم جرت ملاحقتهم وتعرّضوا لتهمة التكفير. حين سأل المحقّقُ قاتلَ فرج فودة لماذا قتله، أجابه: "لأنه كافر"، وعندما طرح عليه سؤالاً ثانياً ليعرف منه في أيّ كتاب من كُتُب فودة وجد أنه كافر، ردّ المتّهم بأنه لا يجيد القراءة والكتابة، لكنّه كفّره نتيجة فتوى إحدى الجماعات الإسلامية وفتوى الشيخ محمد الغزالي.

لقد كرهَ فولتير في الأديان انعكاساتها السلبيّة التي تتمثّل في التعصُّب، ورفض الاختلاف والتسامح، وادّعاء امتلاك الحقيقة. في القرن الثامن عشر كما الآن، في القرن الحادي والعشرين، المشكلة هي نفسها والتحدّي المطروح، على هذا الصعيد، لا يزال هو نفسه، خصوصاً في المجتمعات التي لم تفصل بعدُ بين الدين والسياسة.

نادى الفيلسوف الفرنسي بحريّة الرأي، وبالفكر المتسامح والمتعدّد، ضدّ الفكر الأحاديّ المستبدّ. ولذلك أشاد بالنموذج الإنكليزي الذي منح الحرّيات للمواطنين، بينما كان الفرنسيّون، آنذاك، ما زالوا محرومين منها. في إحدى رسائله المعروفة تحت اسم "رسائل فلسفيّة"، ورد الآتي: "لو كان في إنكلترا ديانة واحدة، لكان ذلك مبعث خشية وخوف من تَحَكُّم الاستبداد. ولو كانت هناك ديانتان اثنتان، لكانت الواحدة منهما ستقطع حنجرة الأخرى، لكن هناك ما يقارب الثلاثين منها وهي تعيش في سلام ووئام". التنوُّع الديني والمذهبي في لبنان لا تنطبق عليه هذه النظريّة طالما أنّ مكوِّنات المجتمع غير متصالحة في ما بينها، في ظلّ نظام طائفي يلغي المفعول الإيجابي للتعدُّد.

عن نداء الوطن