هدية حسين
إنها الدروب الظليلة، تلك التي عادت بعد ثلاثين عاماً الى ذاكرة العاشقين، نيكولاي أليكسييفيتش، وناديجدا، وحدها المصادفة قادت العاشق القديم الى النزل الذي تديره محبوبته القديمة، لكننا قبل الدخول الى عوالم تلك القصة التي تحمل عنوان(الدروب الظليلة) سنلقي بعض الضوء على عالم هذا الكاتب الروسي الكبير ونلخص ما جاء في المقدمة التي نقلها لنا المترجم عبد الله حبه عن آنا سآكيانتس لكتاب (الدروب الظليلة)
ولد إيفان بونين في العام 1870 وتوفي في العام 1953، وتواصل إبداعه فترة تربو على الستين عاماً، عاصر حربين عالميتين وثلاث ثورات روسية، عرف المرض وسنوات العوز، وظل وفياً لذاته ولموهبته، وهو سليل أسرة من النبلاء أحاق بها الضرر، فأمضى طفولته في ضيعة شبه خربة، مرتبطاً أشد الارتباط بالريف، لهذا ظل حتى نهاية حياته شديد الاهتمام بالفلاح الروسي، وكان يتمتع بحب فطري لكل ما هو أرضي، وبالقدرة على تحسس الطبيعة، ومن الخصال المميزة لشخصية بونين وموهبته الأدبية الإحساس المرهف والرقيق بالحياة.
في العام 1920 هاجر الى فرنسا وأمضى حياته فيها، وعاش معاناة الوحدة الإبداعية والإنسانية والحنين المبرح الى الوطن.. حصل على جائزة نوبل في العام 1933 عن روايته (حياة أرسينييف).. يُعد كتاب (الدروب الظليلة) الذي صدر عن دار المدى بطبعتين من أهم كتبه القصصية، وكان مصدر البهجة الرئيسية في حياة بونين..ومن هذا الكتاب الذي وصفه المترجم بأنه موسوعة الحب، اخترت قصة (الدروب الظليلة) التي أخذ عنها عنوان مجموعة إيفان بونين.
تحكي قصة الدروب الظليلة عن علاقة حب ما كان لها أن تستمر، افترق العاشقان ولم يلتقيا إلا بعد ثلاثين عاماً، محض مصادفة جاءت متأخرة كل هذه السنين، لم يتعرف العاشق نيكولاي على محبوبته ناديجدا، هي التي عرفته ونادت عليه باسمه، فلما علم أنها المرأة التي أحبها يوماً، ارتبك، ودار بينهما حوار قصير ليقول بعده:
– كل شيء زائل يا صديقتي، الغرام، الشباب، كل شيء، إنها قصة عادية وكل شيء يمضي مع السنين.
فترد عليه:
– الشباب يمضي لدى الجميع، أما الحب فأمره مختلف.
ولعل ما قالته له يلخص فلسفة الحياة والحب، الشباب يمضي، لابد أن يمضي بفعل قانون الكائنات جميعاً، لكن ما يبقى هو جوهر الروح المتمثل بالحب، فالعاطفة الصادقة لا تموت، إنها الحقيقة التي تبقى شاهدة وحية مهما مرت السنين وتغيرت الأحوال.
استمر الحوار بينهما عن تلك الأيام، هي تذكّره بشيء، وهو يذكّرها بشيء، حتى قال لها: آه، كل شيء يمضي، وكل شيء يُنسى.
فقالت: كل شيء يمضي، لكن لا يُنسى كل شيء.
المرأة تحديداً لا تنسى الرجل الذي أحبته يوماً، ذاكرتها تبقى مضيئة بتلك التجربة التي اجتاحتها في بواكير عمرها، يبقى طعم كل شيء تحت جلدها، بحلوه ومرّه، حتى وإن التقت رجالاً آخرين، قد تحبهم، لكن ليس بقدر ذالك الحب الذي بدأ بالخفقة الأولى والارتعاشة الأولى، وتركها فريسة للأحلام والمباهح، والانكسارات أيضاً.. نعم الحب أمره مختلف، وناديجدا محقة في ذلك.
نعود الى قصة الدروب الظليلة، التي مضى على كتابتها عشرات السنين، وعلى الرغم من ذلك بقيت حية ومتوهجة مثل ذلك الحب الذي صاغه لنا إيفان بونين، ليس فقط بما تحمله من دفق إنساني وعاطفة نبيلة، بل بتلك البراعة والتجاوز في الطرح والأسلوب في ذلك الوقت، الوقت الذي كانت فيه القصص محشوة بالوعظ والنصائح الاجتماعية الفجة والنهايات السعيدة، هناك قلب ينبض بالحب، وقلم يسطر الإحساس الإنساني المرهف.. الدروب الظليلة هي تلك الدروب التي مشى فيها العاشقان، وظلت ظليلة في مخيلتهما بالرغم من تغير الزمن وتغير الدروب، الأقدار وحدها شاءت أن تجمع العاشقين، فقط ليعرف كل واحد منهما بعد ثلاثين عاماً ما الذي جرى لذلك الحب الذي كان، كانت ليلة باردة، ممطرة، جعلت الطريق موحلاً لدرجة أن العربة التي تحمل نيكولاي أليكسييفيتش لم تستطع السير، فقرر النزول والمبيت في نزلِ على الطريق، ما كان يعلم أن النزل تديره ناديجدا، لقد غيرت السنين شكله الى الحد الذي أصبح فيه يشبه قطاع الطرق، أصبح في الستين من العمر، وهي في الثامنة والأربعين، وبرغم ذلك عرفته، يا لغرابة الزمن حين يعبث بالمصائر.
تذكّرا الكثير من تفاصيل ذلك الحب، وعرف بأنها لم تحب رجلاً آخر من بعده، وانه، من ناحيتها، فات الأوان للّوم والعتاب، بعد أن هجرها بكل قسوة طيلة السنوات الماضية، كان يظن أنها سامحته وغفرت له، فما دامت قد عرفته منذ أول لحظة رأته فيها، وتأكد بنفسه من بقاء حبها له، فلابد أن تكون قد سامحته، وعندما أراد أن يعرف ذلك منها بالقول: يبدو أنكِ غفرتِ لي ،قالت له: لا يا نيكولاي أليكسييفيتش، لم أغفر لك، وما دام الحديث قد مسّ مشاعرنا، فإنني أقول بصراحة، ما كان بوسعي أن أغفر لك، وكما لم يكن لديّ أيامئذ أحد أعز في الدنيا منك، بقيت هكذا فيما بعد، لا يجوز لي أن أصفح عنك.
وهكذا كسر إيفان بونين توقعات القارىء، في زمن كانت فيه القصص، إن لم تنته بموت أبطالها، فإنها تنتهي بالزواج وتحقيق الأماني والعيش السعيد، ليعوض العاشقان ما فاتهما من مباهج، بل غادر نيكولاي النزل ومضى في تلك الليلة الباردة الماطرة، وهو يدرك في قرارة نفسه أن كل شيء قد تغير.
كل شيء، أما الحب فأمره مختلف.. ومُحيّر.