بعقوبة..من بيت الحارس الى سنجق في ولاية بغداد

بعقوبة..من بيت الحارس الى سنجق في ولاية بغداد

سعد محمد رحيم

كل مدينة نسيج سردي.. فعل أشخاص، وتاريخ حكايات في الزمان والمكان، وأن تسرد عن مدينة مثل بعقوبة معناه أن تستدرج من ظلمة القرون إلى فسحة النور أجيالاً من البشر، وسلالات من نخيل وفاكهة وفاختات وعصافير، وآلافاً من بنايات شيدت واندثرت ولم يبق منها حتى الأطلال، ومليارات لا تحصى من قطرات المياه جاءت وشربتها المدينة.. أو جاءت ومضت نحو أقاصي الجنوب.

بيت الحارس

نهرها.. عطر فاكهتها.. عتمة بساتينها الأليفة، نسغها الذي يصلها بقلب التاريخ، فمن يستطيع تتبع ذلك النسغ من دون أن يتوه في الدرب الوعر المقلق، المفتوح على اللانهاية، والغامض للشعر. فحين يتسرب جزء عظيم من إرث مدينة ما، ويضيع بين فجوات التاريخ، على الشعر أن ينبري ليجد على الأقل آثار ذلك الجزء وظلاله.

في الآرامية باعقوبا هي بيت الحارس أو بيت العقوبة، ويبدو أن أجدادنا قبل آلاف السنين اختاروا هذه البقعة النضرة بخضرتها ومياهها لتكون مكاناً للسجن يقضي فيه المحكومون مدة عقوبتهم. وعدّها ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان) قرية كبيرة تشتهر بالليمون. ومنذ القرن السادس عشر كانت منطقة ديالى تسمى بمنطقة (طريق خراسان). وفي سنة 1816 وصف الرحالة الانكليزي جيمس بيكنغهام مدينة بعقوبة بعد أن زارها قائلاً؛ بعقوبة قرية كبيرة مبعثرة تتألف من مساكن بنية من الطين وبساتين النخيل وحدائق وما شاكلها، مختلفة في بنيانها مع سوق بائس ومسجدين صغيرين، ولا يتجاوز عدد السكان الألفي نسمة كلهم من العرب، ويحكم المكان يوسف أغا التابع إلى أسعد باشا ببغداد.

ذاكرة وتواريخ:

وحين كان العراق ثلاث ولايات هي (بغداد والموصل والبصرة) كانت بعقوبة قضاءً تابعاً لسنجق بغداد إلى جانب أقضية عانة والرمادي وسامراء وخانقين ومندلي والكاظمين والكوت والعزيزية. وذكر الرحالة كارستن نيبور الذي زار العراق بعد العام 1680 أنه زار خريسان من جملة مدن ولاية بغداد ويقصد قضاء خراسان حيث سميت المنطقة المعروفة الآن بديالى باسم خراسان. وكذلك أشار لذلك المنشئ البغدادي في العام 1820 الذي دخل المدينة مع المستر كلاديوس جيمس ريج وكتب في وصف المدينة؛من بغداد إلى بعقوبة ثمانية فراسخ وبعقوبة من قرى خريسان وهي من الجانب الآخر لنهر ديالى، وعلى شطي ديالى وخريسان خمسون قرية معمورة،وفي هذه القرى أنواع الفاكهة والكروم، وفي وسط الطريق بين بغداد وبعقوبة ببعد أربعة فراسخ خان النص المعروف عند العرب بخان بني سعد، وبالقرب من شط ديالى بني خان سمي خان السيد، وسكانه من أهل بعقوبة ويعبرون إليه بسفينة. وفي أواخر القرن التاسع عشر يقول كي لسترانج أن بعقوبة أول مدن طريق خراسان، وهي ذات بساتين ونخيل، وأن الطريق إلى المشرق صار يمر بها بعد خراب مدينة النهروان.

طريق خراسان

يقول الباحث المتخصص بتاريخ محافظة ديالى المحامي طه هاشم الدليمي أن سبب هذه التسمية هو في الحقيقة تخفيف للتسمية العربية القديمة لمنطقة ديالى عموماً والمعروفة بـ (طريق خراسان) وحذف الطريق للتخفيف، ثم زالت هذه التسمية ولم يبق منها إلاّ (نهر خريسان). ويقول الدليمي؛ أنه في عهد التنظيمات الإدارية العثمانية الحديثة عدّت منطقة (طريق خراسان/ أي ديالى) قضاءً سمي بقضاء خراسان وأصبحت الخالص وشهربان ناحيتين تابعتين لهذا القضاء، وقد عين عبدالله أفندي قائمقاماً له في العام 1870. وكانت الحكومة العثمانية قبل ذلك قد قررت في العام 1857 التشكيلة الإدارية لخراسان على أن يرأس وحدتها الإدارية قائمقام وذلك في ولاية السردار عمر باشا والي بغداد والأخير عيّن سليمان فائق بك قائمقاماً لقضاء خراسان، ويعد هذا الرجل أول قائمقام عيّن للقضاء واتخذ من بعقوبة مركـــزاً له. وبقي القضاء على هذه الحال حتى العام 1911. وبعد الاحتلال البريطاني للعراق تغيرت التقسيمات الإدارية للعراق حيث قسم إلى اثني عشر لواءً بموجب المادة الأولى من نظام الانتخاب الصادر في العام 1922 ومن هذه الألوية كان لواء ديالى.

رحالة وطرق:

ظلت بعقوبة كياناً عابراً في انطولوجيا المكان، أو هكذا أراد لها من مروا بها.. لم تزدهر إلاّ لماماً، غير أنها كانت على الدوام منسجمة مع ذاتها ومع الطبيعة، ومع العالم، مكتفية بما عندها، ومنطوية على بذرة حياتها الفريدة التي تحلم بها. ولعل ها هنا يكمن سر ديمومتها.. رغبتها العارمة في أن تبقى وأن تكون.

يوغل طه الدليمي في تضاعيف القرون ليتحرى عن طرق المواصلات أولاً التي كانت تصل بعقوبة بغيرها في غابر الزمان فيقول؛ في العصر العباسي كان الطريق من بغداد إلى مناطق ديالى يمر بمدينة النهروان وهي جنوبي محطة كاسلر بوست القديمة، وفي شمال الإمام المعروف بأبي العروج بعد مروره بأراضي سامي الأورفلي ودير تيرما ثم الدسكرة (أسكي بغداد) ثم شهربان وجلولاء وخانقين، وكان هذا الطريق القديم على الأرجح لا يمر ببهرز وبعقوبة، وتبدل الأمر في آخر العهد العثماني.

يستشهد الدليمي بما يذكره ستيفن لونكرك؛ بأنه كان يتفرع من ضواحي بغداد الشمالية طريقان بزاوية حادة يمر الشرقي منهما بخان سماه الأتراك بـ (أورطة خان) أي (خان النص) ثم يصل إلى معبر ديالى في بهرز ومن ثم يحاذي بساتين قرى بعقوبة وقلعة شهربان، ويمر بين تلال منخفضة/ تلال حمرين/ فيخترقها إلى خانقين. كما يتحدث، وبحسب الدليمي أيضاً، باحث محدث عن طريق آخر يسير جنوباً بمحاذاة نهر ديالى من جهته الشرقية ماراً ببهرز حتى يصل إلى مصب ديالى في دجلة ومن ثم المدائن،وكان هذا الطريق يمر بصحراء لا يأمن سالكه من قطاع الطرق حتى بنى الوزير عمر باشا خاناً محكماً في العام 1100 هو خان بني سعد وما تزال آثاره باقية حتى يومنا هذا.

عن الخارطة القديمة

ويضيف الدليمي: في الجانب الغربي من نهر خريسان كانت هناك محلة السراي نسبة إلى بناية السراي، والسراي في العهد العثماني هو دار الحكومة، وقد جددت البناية في العام 1923 وما زالت قائمة حتى يومنا هذا، وحدود محلة السراي في العهد العثماني تبدأ من بستان مصطفى البندر شمالاً إلى محلة الأكراد و(المعدان) (مقبرة اليهود) وقد ألغيت هذه المقبرة قبل الاحتلال البريطاني للعراق بخمسين سنة. وفي سنة 1913 أمر قائمقام بعقوبة فائق بك بنقل الأكراد (والمعدان) إلى المنطقة التي تعرف اليوم بالعنافصة، وشيدت مدرسة ابتدائية في الموضع المذكور سميت بالأميرية.

طرف الفايزية

ويستغرق الدليمي بالتفاصيل الجغرافية التي كانت عليها مدينة بعقوبة حينذاك فيقول: كان بستان أم الفائز في جنوب مدرسة الوثبة الحالية وحدودها من قنطرة خليل باشا إلى بستان مصطفى البندر، وقد أنشأ بعض الأهالي على قسم من أرض هذا البستان دوراً فتكونت محلة سميت بمحلة طرف الفايزية وذلك في العام 1915. أما في الجانب الشرقي لنهر خريسان فكانت ثمة بساتين وخانات ودور متناثرة، وهذا الجانب سمي بمحلة التكية لوجود تكية فيه في موضع مصرف الرافدين الحالي، وكانت حدود المنطقة تمتد من منطقة جامع الشابندر الحالي وما خلفها شمالاً إلى منطقة حمام الرشيد القديم جنوباً.

يعود الدليمي إلى وصف المدينة فيقول: فضلاً عن محلتي التكية والسراي كانت هناك أيضاً محلة الأكراد في جنوب السراي، ومحلة طرف الكنث، وأم الكبة، ويبدو أن المحلتين الأخيرتين أنشئتا بعد سنة 1894 أي بعد أن شيد الحاج محمود الشابندر خان الشابندر، وفي الجهة ذاتها كانت قبة الشيخ الصالح أبي محمد عبد الحق البعقوبي الحوزي، وتلك القبة هدمت قبل الاحتلال الإنكليزي بعشر سنوات، أي في العام 1907. وتذكر السالنامه العثمانية أن بعقوبة في العام 1909 كانت تتألف من 800 دار و70 دكاناً و14 مقهى و12 خاناً وثماني علاوي وحمامين وجامعين ومدرسة رشدية واحدة وثلاث مدارس ابتدائية ودار للحكومة (السراي) ودار للبلدية ودائرة للبريد ومستوصف واحد.

خانات

وفي ذلك الزمن ـ والكلام ما يزال لطه الدليمي ـ كانت الخانات تقوم مقام الفنادق، وكان في بعقوبة عدد من هذه الخانات موزعة على جانبي المدينة، ومنها خان عزرة في منطقة السراي وهدم سنة 1969 وخان الوقف في المحلة نفسها وهدم سنة 1951 وخان بندر في جانب محلة التكية في موضع السوق وقد نقض حديثاً، وخان البوسطجي في الموضع المعروف حالياً بسوق الحاج مهدي الكرطاني، وخان الشابندر الذي شيد في العام 1896، وخان السيد خليل السامرائي وقد اشتهر لأنه اتخذه علوة لبيع الفواكه والخضر إلى أواخر سنة 1966 وما زال قسم من هذا الخان قائماً حتى يومنا هذا.، وخان السيد وعرف بعدئذ بخان اللوالوة وقد ورد ذكره في رحلة المنشئ البغدادي (محمد بن أحمد) وقيل أن من أنشأه هو السيد مير الكاظمي في العام 1795.