تـوثيـق التسجيلات الصوتية في الإذاعة العراقية

تـوثيـق التسجيلات الصوتية في الإذاعة العراقية

د. حسين الأعظمي

لقد كانت أولى الحفلات التي أقامها حسن خيوكة من خلال إذاعة قصر الزهور منذ عام 1937 وغنى فيها تشكيلة من المقامات العراقية مثل مقام الأوج ومقام المدمي والأشعار مع الأبوذيات وغيرها، كانت ترافقه فيها فرقة موسيقية مكونة من آلات تراثية هي الجوزة والسنطور والرق والطبــــلة والنقارة (فرقة الجالغي البغدادي) ويزاد عليها أحيانا بعض الآلات العربية مثل العود والقانون والناي والكمان بالدوزان الشرقيلتصبح فرقة موسيقية يطلق عليها غالبا (التخت البغدادي العربي) .

واستمر في ذلك حتى دخوله إذاعة بغداد أوائل الأربعينات مؤديا الكثير من المقامات والحفلات على الهواء مباشرة كلما تسنح الفرصة لذلك، شأنه في ذلك شأن بقية المؤدين المعاصرين، حيث لم تسجل اغلب أو جميع هذه الحـفلات وذهبت هباءً مع الهواء إدراج الرياح. .

أن أول بداية ليوسف عمر كانت عام 1952 في الإذاعة العراقية , حيث سجَّل مجموعة من المقامات والأغاني التراثية , واستمر بذلك بانتظام وفي هذه الحقبة قُدِّر لمعظم هذه التسجيلات سواء ليوسف عمر أو لغيره أن تسجل وتوثق وتحفظ على المدى التاريخي من خلال الإذاعة العراقية، لتطور الإمكانيات التقنية لأجهزة التسجيل الصوتي , وعلى هذا الأساس فإننا نستطيع على وجه العموم أن نتابع مسيرة هذا المطرب من خلال نتاجاته المسجلة في الإذاعة أو في التلفزيون بعدئذ .

أما بداية المطرب الكبير ناظم الغزالي فقد كانت ضمن فرقة تمثيلية اشتهرت في بغداد على نطاق واسع في تلك الحقبة، وهي فرقة (الزبانية) المنبثقة من طلبة معهد الفنون لجميلة فرع التمثيل حيث كان الغزالي احد طلبة المعـــهد في هذا الفرع , ولم يدرس الموسيقى. .!!! حتى قدِّر له أن يجرِّب حظه في الغناء، فنال النجاح العظيم، الذي لم يحسب له الغزالي أي حساب . . وكانت أولى أغانيه الحديثة (وين الكه الضاع مني) التي لحنها له الفنان سمير بغدادي (وديع خوندة) وذلك بعد دخوله دار الإذاعة العراقية عام 1948… وعند تأسيس الفرقة التمثيلية (فرقة الزبانية) التي كان الغزالي احد أعضائها البارزين … قدَّموا عدة مسرحيات وتمثيليات كان يعدها ويخرجها عميد المسرح العراقي ورائده الكبير حقي الشبلي، وعليه كانت مهمة ناظم الغزالي ثنائية في كثير من الأحيان، فهو يمثل وهو يغني، واستمر الحال حتى استقلاله عن الفرقة واعتماده مطربا من الدرجة الأولى في إذاعة بغداد أواخر الأربعينات … ومن حسن الطالع أن بدايته هذه عاصرت ظهور موسيقيين كبار من خريجي قسم الموسيقى في المعهد والذين قدِّر لهم أن يغيِّروا موازين الثقافة الجمالية للموسيقى في العراق أمثال حسين عبد الله عازف على آله الطبلة الإيقاعية وجميل بشير وسلمان شكر ومنير بشير وخضير الشبلي وسالم حسين وغانم حداد وناظم نعيم وغيرهم الكثير. .

أما بالنسبة إلى بداية عبد الرحمن العزاوي المتأخرة نسبيا , فقد كانت بعد لقائه بالخبير المقامي الشهير الحاج هاشم محمد الرجب الذي كان يرأس لجنة اختبار المطربين المقاميين للانضمام إلى الإذاعة والتلفزيون كمطربين مقاميين معتمدين في هذه الدار. الذي استمع إلى العزاوي في إحدى المناقب النبوية الشريفة ، وفي هذا اللقاء تم الاتفاق على مثول العزاوي أمام لجنة الاختبار في الإذاعة والتلفزيون بعد مفاتحة العزاوي للرجب بهذا الشأن , فوافقت عليه اللجنة بعد الاختبار لتسجيل بعض المقامات , فسجَّل أول مقام له وهو مقام الراشدي (سلّمه جهاركاه) مع فرقة الجالغي البغدادي المكونة من عازفي الجوزة والسنطور شعوبي إبراهيم وهاشم الرجب نفسه ,

ونستطيع أن نقول أن معظم أو جميع تسجيلات عبد الرحمن العزاوي في الإذاعة والتلفزيون موجودة ومحفوظة ..

ولعل المشكلة الأكثر تعقيدا في موضوعنا هذا، هي تسجيلات حسن خيوكة المقامية الأولى أي منذ دخوله إذاعة قصر الزهور 1937 وحتى بداية الخمسينات، غير موجودة ولم يعثر على اثر لها حتى الآن، وأرجح الظن أنها لم تسجَّل في وقتها، فقد كانت حفلات إذاعية على الهواء مباشرة دون تسجيل لها، لذلك فقد كان خيوكة يعيد غناء هذه المقامات مرَّات ومرَّات حتى سنحت الفرصة لتسجيلها وتوثيقها أواخر الأربعينات حتى بداية الستينات التي لم يكتب له القدر أن يعيش معظمها، وتقديري الشخصي، أن خيوكة نفسه لم يضمن أن مقاماته التي غناها خلال الحفلات الحية التي كانت تذاع للمطربين في كل أسبوع قد تم تسجيلها فعلاً على سبيل التوثيق. . لذا عكف على إعادتها مرَّات عديدة حتى سُجِّلت في دار الإذاعة العراقية. . أواخر الأربعينات ومطلع الخمسينات..

أهمية النتــاجات المسجــلة

من المؤكد على كل حال، أن يكون من كبير الخطأ اعتبار مقامات مثل مقام الدشت (سلّمه بيات حسيني) أو مقام الأوج(سلّمه هزام) أو مقام المدمي أو الأشعار مع الأبوذيات أو مقام الراشدي(سلّمه جهاركاه) أو مقام الشرقي رست(سلّمه رست) أو مقام الأورفه(سلّمه بيات حسيني) أو مقام الهمايون(سلّمه نكريز) أو مقام الأوشار(سلّمه سيكاه) التي غناها كل من المطربين الإبداعيين الأربعة الكبار خيوكة وعمر والغزالي والعزاوي … من الخطأ اعتبار هذه المقامات مجرد مقامات صغيرة وبسيطة وليست كبيرة الشأن في تاريخ مسيرة كل منهم الفنية … وذلك لأن الأعمال لا تحسب لسعة حجمها أو تعقيداتها بالضرورة، بل ينظر إليها بشكل أوسع على أنها كيف أُديت وكيف أُنجزت وما قيمتها الفنية وقيمة بنائها الديناميكي ومتانة العلاقات الداخلية كعمل موحد. طالما كان غناء هؤلاء المطربين المبدعين للمقامات التي سجلوها، ناجحا في قيمها الفنية وحبكتها الديناميكية وتماسك علاقاتها كعمل موحد، وناجحا في إظهار الإمكانيات الفردية لكل منهم في الأداء المقامي، فان جميع إعمالهم تعتبر ناجحة وتشكل تاريخا فنيا طيبا لهم , بل تاريخا مقــــاميا منــجزا يحسب في القرن العشرين ..

وبالإجمال فإننا نستطيع أن نضيف إلى إعمالهم هذه، الأعمال الكبيرة التي سجَّلوها، مثل مقام الرست لحسن خيوكة وهو من المقامات الرئيسة والكبيرة الذي يمكن أن نعتبره أفضل انجازاته الأدائية دون تردد. وبه اشتهر خيوكة واستقام، إذ أكد من خلاله انه قادر على أداء المقامات الصغيرة والكـــبيرة بمـــستوى ناجح ذي بناء متماسك. .

وكذلك المقامات الكبيرة والرئيسة التي سجَّلها يوسف عمر التي نجح فيها أيضا، ذلك النجاح الذي اعتبر مميزا بين معاصريه.. مثل مقامات الرست والحجاز ديوان والبيات والمنصوري(سلّمه صبا) والنوى(من النهاوند) والسيكاه و.. و

ورغم أن مقام الصَبا ليس بالمقام الكبير من حيث تفصيلاته الفولكلورية المقامية الأدائية، بيْدَ انه سلَّم ومقام رئيسي كان قد غناه ناظم الغزالي بجمال خلاَّب بالقصـيدة الشهيرة (سمراء من قوم عيسى) في دار الإذاعة العراقية. . ثم غنى نفس هذه القصيدة في الحفلات التي أقامها بالكويت قبيل وفاته بفترة ليست طويلة بأسلوب مقام الجهاركاه. .

أما المطرب عبد الرحمن العزاوي فقد أدى هو الآخر مقامات رئيسة وكبيرة بنجاح جيد في الأعم الأغلب. . منها مثلا مقامات العجم عشيران والخنبات(سلّمه يستقر على البيات مع إظهار جنس النهاوند) والحجاز ديوان والرست والسيكاه والمنصوري.

عن بحث : المقام العراقي في خمس وسبعين عاما.