المنهج العلمي عند العالِم النابغة أبي الريحان البيروني

المنهج العلمي عند العالِم النابغة أبي الريحان البيروني

يمنى طريف الخولي

البيروني أبرز علماء الحضارة العربية في الرياضيات وفي الفلك٤ الذي عَرَفَه العرب باسم "علم الهيئة" وعَدُّوه فرعًا من الرياضيات.٥ وظل الفلك دائمًا وثِيقَ الاتصال بالرياضيات، وهما مجالات يُطْلَق عليها في قديم العلم وحديثه مصطَلَح "العلوم الدقيقة المنضبطة" وكان هذا من العوامل التي أكسبت عقلية البيروني منهجية مقننة، إنه أكثر أقطاب الحضارة العربية تكرسًا للمباحث والعلوم العقلية.

ولئن كان البيهقي والشهرزوري ينعتان البيروني بأنه من أجِلَّاء المهندسين، فإنه ليس رياضيًّا قُحًّا، كسَلَفِه الخوارزمي أو أبي سعيد السجزي أو سواهما، بل يتقاطع مع قُطْب الرياضيات والفلك قطبٌ آخر، هو التاريخ والحضارات والأنثربولوجيا، ثم ما يستتبع تقاطعهما من مباحث تجريبية أَنْجَزَ فيها البيروني، هي الجغرافيا والجيولوجيا والمعادن وأيضًا الطب والصيدلة. فلا ننسى الطابع الموسوعي للعالم في العصر الوسيط.

الفلك والرياضيات أولًا وقَبْل كل شيء، والتاريخ والحضارة ثانيًا، ثم العلوم الطبيعية التجريبية، تلك هي مقاطعات علم البيروني.

وتعلو مدارج السمة العلمية حين يتبدى كيف كان اهتمام البيروني بالمباحث الإنسانية اهتمامًا علميًّا خالصًا بذلك المفهوم الحديث الذي اتفقنا عليه لمُصْطَلَح العلم الذي يفيد علومًا إخبارية وصْفية وتفسيرية مُنْصَبَّة على ما هو كائن، وعلى الوجود الواقعي المتعيِّن، وليس على ما ينبغي أن يكون، أو على مستويات أخرى من الوجود، بهذا المفهوم كانت عقلية البيروني — على ثرائها وغزارة إنتاجها — عقليةً علمية في صُلْبِها وهيكلها، في مبناها وأهدافها. أما الأبعاد الدينية والفلسفية والأدبية٦ التي هي حاضرة عند البيروني، فكانت هوامش لكي يكتمل التشكيل العلمي للعقلية، وروافد تُغَذِّيه وتُصْقِله، لا سيما وأن الإطار الثقافي للعصر يَفْرِضها ويستلزمها لكي يكون العالِم عالمًا بحق، والفلسفة بالذات دَوْرُها خطير في تعميق العقلية العلمية وفي كل عصر.

وإذ اكْتَسَبَ البيروني السمة العلمية إلى هذا الحد، فسبيلنا الآن إلى رحلة في عالَمِه، لنرى هل كان منهجيًّا وعقلانيًّا بنفس القدر؟ وإذا أَسْفَرَتْ محصلة بحثنا عن الإيجاب، يغدو من نافلة القول التساؤل عما إذا كانت العقلانية العلمية المنهجية بضاعة غربية، علينا استيرادها وتدجينها، أو ما إذا كانت فلسفة العلم — من ناحية أخرى — في بحثها لهذه المفاهيم ملتزمة فقط بالمعطى العلمي الراهن، وأصوله التي هي أولًا وأخيرًا غربية.

وإن أبا الريحان البيروني لَرَجُلٌ تُحْنى الْهَامُ إجلالًا وتَكْرِمَةً له، لخصلتين دُرِّيَّتَيْن تحقَّقَتَا فيه بوصفه عالمًا. الأولى: هي عِشْقُه النزيه للعلم، فقط من أَجْل العلم، حتى إنه يرفض عطايا السلاطين التي قد تصل إلى حَدِّ حِمْل فيل من الفضة — حسب واقعةٍ يُخْبِرنا بها ياقوت الحموي — إذا كانت هذه العطية مكافأةً على إنجاز علمي تَوَصَّل إليه، معتذرًا بأنه "يخدم العلم للعلم لا للمال"٧ والخصلة الثانية هي مدى هذا العشق النزيه للعلم، حتى إن واحدًا من رفاقه في الدرس والبحث — ويُدْعَى الولوالجي — قد عادَه وهو على فراش الموت، فما كان من البيروني إلا أن غالب حشرجات المنية، وسأله عن إحدى المسائل الرياضية، فقاطَعَهُ الصديق مشفقًا: أفي تلك الحالة؟ فرَدَّ عليه البيروني بقولٍ لَعَلَّه مِنْ أَنْفَذِ ما قِيلَ تبتُّلًا إلى رحاب العلم، ألا وهو: "يا هذا، أنْ أُوَدِّعَ الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة خير مِنْ أَنْ أخليها وأنا جاهل بها."٨ فلما تناقش معه الصديق، واطمأن إلى حسمه لتلك المسألة، انْصَرَفَ من عنده. غير أن الصراخ سَبَقَه للطريق!

على أن "العلم للعلم" عند البيروني قيمة منهجية خالصة، ولا تعني بحال توجُّهًا ميتافيزيقيًّا مُجرَّدًا، وكأنه مُواصِل لمُثُل الإغريق التي مَجَّدَت التأمل العقلي الخالص فقط مِنْ أجْل المتعة العقلية اللائقة بالسادة، بل تعنى فقط أن قيمة العلم لا تُحَدِّدُها أبدًا المنفعة العملية؛ لأن المنفعة العملية عنده لا تُحَدِّد قيمة أي شيء، فهو يقول في "تحديد نهايات الأماكن": "الفضيلة الذاتية للشيء غير المنفعة العارضة لأجله." وعقلية البيروني ذات المنحنى العلمي الواقعي لا تَعِي ولا تَقْبل العلم للعلم أو الفن للفن كدوائر مغلقة. العلم عنده يَنْصَبُّ في رافد الحضارة العربية ويَخْدُم القيم الإسلامية واحتياجات المجتمع الإسلامي، وقيم العلم عند البيروني ودوافعه وبواعثه يُمْكِن أن نَجِدَها في تعاليم القرآن الكريم التي تَحُثُّ على التأمل في السموات والأرض التي خلقها الله بالحق،٩ وكثيرًا ما يستشهد البيروني في مقدمات أبحاثه بالآيات الكريمة الدالة على هذا، ولا شك أن البعد الإيماني من العوامل التي زَرَعَتْ في شخصية البيروني عشقًا للعلم، تُجَسِّدُه الأقصوصتان المذكورتان.

وهذا العشق المتأصل للعلم وراءه نبوغ مبكر، يكاد يكون الشيءَ الوحيد المُثْبَت عن حداثته،١٠ فقد وُلِدَ البيروني في خوارزم لأسرة فقيرة مغمورة من أصل فارسي، فلا نعلم شيئًا عن نشأته إلا شَغَفه بالعلم وحِرْصه على تدوين ما يصل إليه من معلومات منذ اليفاعة وبواكير الصبا.

ومن ثَمَّ نَجِدُه أتْقَنَ علوم اللغة العربية، شأن كل أعلام الحضارة الإسلامية التي تتمركز حول محورها الثابت ألا وهو القرآن المبين. أما لغة البيروني الأم؛ أي اللغة الخوارزمية فهي لهجة من لهجات اللغة التركية مُطَعَّمَة بمفردات كثيرة فارسية، وهي لغة شعبية أو عامية. لم تكن آنذاك من لغات الكتابة والإنتاج العلمي والثقافة. الثقافة آنذاك اقتصرت على اللغة العربية أولًا ثم الفارسية، وقد أجاد البيروني كليهما وبَلَغَ فيهما من البلاغة وسلاسة التعبير مَبْلَغًا يَعِزُّ على الأهلين من العرب والفرس، وإخراجه لعلمه "التفهيم لأوائل صناعة التنجيم" باللغتين العربية والفارسية يُبَيِّن إلى أي حد تَمَلَّكَ ناصيتَهُما وأَجَادَهُما، ويشتهر عنه قوله: "إن الهجو بالعربية أحب إليَّ من المدح بالفارسية." فيُوَجِّه لطمة قوية للنزعات الشعوبية التي حاولت عبثًا الإعلاء من شأن الفرس على العرب. فقد دان البيروني بالولاء العظيم والعميق للعروبة.

وعلى هذه الأسس يمكن أن نتفهم نصًّا بالغ الأهمية والدلالة، قاله البيروني في مقدمة كتابه "الصيدلة في الطب" واستهله بتأكيد أن كل أمة من الأمم — اليونان والعبرانيين والنصارى والهنود والمغاربة … — موصوفة بالتقدم في عِلْم أو عَمَل، ثم يقول أبو الريحان:

ديننا والدولة العربية توءمان، يُرَفْرِف على أحدهما القوة الإلهية، وعلى الآخر اليد السماوية، وكم احْتَشَدَ طوائف من التوابع وخاصة منهم الجيل والديلم، في إلباس الدولة جلاليب العُجْمَة، فلم تنفق لهم في المراد سوق، ما دام الأذان يَقْرَعُ آذانهم كل يوم خمسًا، وتُقَام الصلوات بالقرآن العربي المبين خَلْف الأئمة صفًّا صفًّا، وَيَخْطُب به لهم في الجوامع بالإصلاح كانوا كاليدين والفم، وحَبْل الإسلام غير منفصم وحِصْنه غير مُنْثَلِم، وإلى لسان العربية نُقِلَت العلوم من أقطار العالم وسَرَتْ محاسن اللغة منها في الشرايين والأوردة، وإن كانت كلُّ أمة تستحلي لُغَتَهَا التي أَلِفَتْهَا واعتادتها واستعملتها في مآربها مع آلافها وأشكالها، وأقيس هذا بنفسي وهي مطبوعة على لغة لو خُلِّدَ بها علم لاستغرب استغراب البعير على الميزاب، والزرافة في المكراب، ثم منتقلة إلى العربية والفارسية، فأنا في كل واحدة دخيل ولها متكلف، والهجو بالعربية أحب إليَّ من المدح بالفارسية.١

التسامح والانفتاح على تراث كل الأمم، وراءه إيمانُ العالِم بوحدة العلم وتكامُل الجهود في طريقه، ولم يتعارض هذا مع إيمان معتزٍّ بالدين الإسلامي، جَعَلَه يَرْفَع من شأنِ العروبة ولغتها الجميلة التي تَرْجَم إليها أسفارًا، ثم تَعُود موضوعية العلم لتؤكد أن كل اللغات سواسية من الناحية الموضوعية، متفاضلة على أسس ذاتية. فينحو على ذاته ويتذكر لغته الخوارزمية — التي هي غريبة ومغتربة عن العلم — لكنه اقتحم لغتي الثقافة؛ أي العربية والفارسية وللأسباب الدينية والحضارية المذكورة تعلو الأولى على الثانية إلى أبعد الحدود.

وفضلًا عن الخوارزمية والفارسية والعربية التي عَشِقَها، أتقن البيروني أيضًا اللغات السنسكريتية والسريانية والعبرية وألمَّ باليونانية. مما يَسَّرَ له الرجوع إلى المراجع العلمية المنجَزَة في تلك الحضارات العريقة، متفاديًا أخطاء المترجمين غير الملمين بدقائق العلم المتخصصة، وكان هذا من العوامل التي أعطته خلفيةً علمية مكينة يَسَّرَت له الانطلاق بعبقريته.

من هذه العوامل أيضًا أنه تراسل مع معاصره الشيخ الرئيس ابن سينا، وتفاعل — بعنفٍ — مع عقليته الموسوعية الثرة، فقد وجدت للشيخ الرئيس أجوبة مسائل سأله عنها أبو الريحان البيروني، وهي تحتوي على أمور مفيدة في الحكمة.١٣ لكن النقاش بينهما كان حادَّ اللهجة حتى عزف ابن سينا عن مُوَاصَلَتِه،١٤ لكن لا ينفي هذا أن البيروني عَرَفَ للفلسفة حَقَّ قَدْرِها وَعَدَّها من أهم ظواهر المدنية، وأَوْلاها حظًّا من عنايته، وله فيها إسهام، ولا يَحْتَلُّ البيروني مَوْقِعًا في تاريخ الفلسفة ولم يُعْرَف كفيلسوف؛ أولًا: لأن عقليته أساسًا — كما اتفقنا — عِلْمِية وموقعه الحق في تاريخ العلم، وثانيًا: لأن إسهاماته الفلسفية مفقودة تمامًا، وأهمها "كتاب في التوسط بين أرسطو طاليس وجالينوس في المحرك الأول" و"رياضة الفكر والعقل"، وعُثِر أخيرًا في إسطنبول على عَمَلٍ هامٍّ له في الفلسفة بعنوان "الشامل في الموجودات المحسوسة والمعقولة"، ولكن لم تَثْبُتْ بعد نِسْبَته إلى البيروني بصورة قاطعة.

ليست كتبه في الفلسفة فقط هي المفقودة، مفقود أيضًا بعض من أهم أعماله في عقر داره — أي في الفَلَك والرياضيات والطبيعيات — من قبيل "البحث عن الآثار العلوية" ومقالة "في صفة أسباب السخونة الموجودة في العالم واختلاف فصول السنة"، وغير هذا كثير مفقود تمامًا، فقد وَضَعَ الرجل ما لا يُحصى من الرسائل العلمية القصيرة.

وحين وَضَعَ البيروني فهرست لأعمال أبي بكر محمد بن زكريا الرازي (+٣١٣ﻫ/٩٢٥م)١٨ ذَكَرَ معها قائمة من أعماله هو نفسه بَلَغَتْ مائة وثلاثة عشر عملًا، بالإضافة إلى خمسة وعشرين عملًا كتبها علي بن العراق، وأبو سهل عيسى بن يحيى المسيحي، وأبو علي الحسن بن علي الجيلي تحت إشرافه، ثم ذَكَرَ حاجي خليفة في "كشف الظنون" خمسة عشر عملًا آخر للبيروني، لَمْ يَذْكُرها حين ذَكَرَ أعماله في فهرست الرازي؛ لأنه أَنْجَزَهَا فيما بعد — أي في الأربعة عشر عامًا السابقة على وفاته — وكذلك تَمَّ العثور على سبعة مخطوطات أخرى لم تَذْكُرها أيٌّ من هذه المصادر، بخلاف أعمالٍ نسبها آخرون أو نَسَبُوا مضمونها للبيروني.

ويزداد الإعجاب بأبي الريحان حين نَجِدُه قد ترك هذا الإنتاج الغزير في حين أنه عاش في عصر اضطراب سياسي شديد، بل واشتغل فيه بالسياسة؛ إذ عَمِلَ مستشارًا لخوارزم شاه مما جَعَلَ حياته بدورها شديدة الاضطراب، فتَعَرَّض للأسر والسجن والنفي، وكان على وشك أن يُعْدَمَ لولا أن شَفَعَتْ له مؤلَّفاته، وذلك عندما استولى السلطان الغزنوي محمود بن سبستكين عام (٤٠٧ﻫ/١٠١٧م) على خوارزم التي قضى فيها البيروني نَحْبَه بعد ذلك عام ٤٤٠ﻫ، وهي تقع الآن على حدود أفغانستان، وكان من العلماء المحتجَزين البيرونيُّ وأستاذُه عبد الصمد الحكيم. قَتَلَ محمود الغزنويُّ عبْدَ الصمد واعتَقَل البيروني في قلعة غزنة ستة أشهر، ثم أَطْلَقَ سراحه؛ لأن مؤلفاته جَعَلَتْه يُدْرِك أنه في حاجة إلى علمه.

ومع هذه الأجواء بلغ إنتاجه — كما ذكرنا — نيفًا ومائة وسبعين عملًا، ولئن ضاع بعْضُها فليس يَصْعُب تقصي أبعاد المنهج العلمي عند البيروني، ولا يحتاج الأمر إلى إسقاطات أو تَعَسُّفيات متربصة دائمًا بمبحث تاريخ العلوم عند العرب، فما زالت البقية الباقية من الأعمال المحقَّقة والمثبَتة للبيروني من الكتب الكبرى أو الرسائل المجَمَّعة (راجع هوامش هذه الدراسة) تُمَثِّل رصيدًا هائلًا للباحثين.

هذا بخلاف ما يَنْتَظِر الإثبات والتحقيق من مخطوطات أخرى للبيروني متناثرة في المكتبات الأوروبية، وفي المكتبات الآسيوية التي تتمسك بانتساب البيروني إليها.

فقد وُلِدَ في مدينة كاث بخوارزم التابعة الآن لجمهورية أوزبكستان التي أقامت — حين كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتي حتى انهياره — في عاصمتها طشقند جامعةً أَطْلَقَتْ عليها اسْم جامعة البيروني تخليدًا لذكراه، كما أَطْلَقَتْ على مدينة كاث اسم مدينة البيروني، وتقع على شاطئ نهر آمو داريا — وهو نهر جيجون القديم — وتبعد حوالي مائتي كيلو متر جنوبي بحيرة آرال.٢١

ولكن مسقط الرأس ليس هو دائمًا دامغ الهوية. فقد عاش البيروني في رحاب الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، وصَدَقَ إيمانه بدينها، ودان — كما رأينا — بالولاء العميق لها، وانتمى لزمرة أعلامها، وساهم في مَدِّها العلمي، أَخَذَ منه وأعطاه، وكَتَبَ بلسانها وآثره على سواه.

وعلى الرغم من عِشْق البيروني للغة العربية جاءت كتاباته بعيدةً عن الزخرف اللفظي والتنميق بغير داع، ومَكْسُوَّة مع هذا بمسحة جمالية عذبة، والأهم أنها أنموذج لمنهجية التفكير وتسلسل الأفكار، متحرية الضبط عن طريق استعمال مصطلحات دقيقة أو على الأقل مُحَدَّدة. إنها على الإجمال كتابة عِلْمِية لأقصى حد يمكن أن يسمح به العصر الوسيط، خصوصًا وأن عالِمنا كان يكتب دائمًا واضعًا نُصْبَ عينيه أنه عالِم مُتَبَحِّر، لا يكتب للدهماء، ولكن لصفوة العلماء، فيتعمد البعد عن الأمثلة التي تُوَضِّح بقدر ما تَبَسَّط وتَسَطَّح، يقول البيروني: "إني أُخْلِي تصانيفي من المثالات، ليجتهد الناظر فيها ما أَوْدَعْتُه فيها، مَنْ كان له دراية واجتهاد وهو مُحِبٌّ للعلم، ومن كان من الناس على غير هذه الصفة فلستُ أبالي فَهِمَ أم لم يفهم."

هكذا لم تكن كتابات البيروني سهلة يسيرة المنال، فلم يَعْرِفْه العالَم الغربي، ولم تَنْتَقِل نصوصه إلى أوروبا في عصر انتقال العلم العربي إليها فيما قَبْلَ عصر النهضة. عرفه الأوروبيون فقط مع نمو حركة الاستشراق في القرن التاسع عشر، واهتموا به مع تنامي الاهتمام بتاريخ العلوم في القرن العشرين، ويُرْجِع مارتن بلسنر هذا إلى تَخَوُّف المترجمين في العصور الوسطى وعصر النهضة من "صعوبة لغة البيروني ومناهجه الدقيقة لمعالَجة الموضوعات الواردة في مؤلفاته"٢٤ ولكن لئن لم تَنْتَقِل نصوص البيروني إلى أوروبا آنذاك، فليس يعني هذا أنه ليس له أيُّ دَوْر في التمهيد للنهضة الأوروبية ولحركة العلم الحديث. فلا شك أن للبيروني دورًا في هذا، لكن بأسلوب غير مباشر عن طريق التلاميذ والتالين له من أعلام الحضارة العربية، خصوصًا في مجال الفلك والرياضيات، الذين ملأت مؤلَّفَاتُهم مراكز انتقال العلم العربي إلى أوروبا من قبيل صقلية وأشبيلية وقرطبة.

· من كتاب بحوث في تاريخ العلوم عند العرب