شهادات

شهادات

رحيل إبتسام عبد الله خسارة مضاعفة

أحمد عبد الحسين

برحيل ابتسام عبد الله أمس، يغيب ملمح كبير من ملامح ثقافة العراق الأنيقة المعافاة التي شُوّهتْ لاحقاً على يد الديكتاتورية والعسكرتاريا ثم بلغت القاع زمن التفاهة الإلكترونية والابتذال المتسارع.

أطلّتْ على جمهور السبعينيات ببرنامج "سيرة وذكريات" والتقتْ من خلاله رموز الثقافة العراقية، وللآن أذكر الحلقة التي استضافتْ فيها الراحل علي الورديّ، كم كانتْ محاورة ذكية لمّاحة وعميقة، وكان يجلِّل وجهها الهدوء الذي يجبر من يكون قبالتها على أن يكون مثلها هادئاً مبتسماً.

أقارن تلك الإطلالة المحفورة في ذاكرتي عميقاً بالبرامج الحوارية التي تُصاغ اليوم حيث المحاور الناجح هو من يستفز ضيفه والمشاهدين، والنقاش الذي يجلب مشاهدات هو الذي تتطاير فيه التهم وقلّة اللياقة والزعيق على طاولة لا يسمع فيها أحد أحداً.

الراحلة قاصّة وروائية ولها عدّة كتب في السرد، وهي مترجمة أيضاً، وكانت ترجمتها لرواية كويتزي "في انتظار البرابرة" في غاية العذوبة.

عملها في الصحافة الثقافية كان مميزاً أوصلها إلى أن تترأس تحرير أبرز المجلات الثقافية آنذاك "مجلة الثقافة الأجنبية".

منذ سنة تخرجها في 1964 عملتْ في تلفزيون العراق، مترجمة للأفلام أولاً ثمّ معدّة ومقدمة لبرنامجها الأشهر "سيرة وذكريات"، لكنّ وقتها اللاحق سيكرّس بمعظمه للصحافة المقروءة، حيث عملتْ في أبرز الصحف المحلية، ولم تتوقف عن العمل الصحفي إلا قبل سنوات عدّة بعد وفاة زوجها الكاتب أمير الحلو.

في كتابه "أعلام العراق في القرن العشرين" كتب حميد المطبعيّ عن ابتسام هذه الجملة الموحية "إنها قادرة على تحويل لحظات الذعر إلى طمأنينة". وكم كان على حقّ، ففي شخصها وملامح وجهها ونبرة صوتها ما ينشر السكينة في المحيط الذي تكون فيه.

الحوار المتّزِن ومثله الأناقة في القول والفعل، أصبحتْ عملات نادرة، وحين نخسر رمزاً من رموز تلك الثقافة التي صارت غريبة على أجيالنا الجديدة، فإنّ الخسران كبير.

تعلمت من إبتسام عبد الله

محمد حياوي

بهذه الغرة الشهيرة والنظرة الغارقة بالكحل والرأفة والثقة والغموض، كانت إبتسام عبد الله تطل على العراق مساء كل خميس، بما فيه أنا، فأجلس متسمرًا أمام شاشة التلفزيون ساعة كاملة، متأملا تلك السيِّدة القوية والحيية في آن، قبل أن تجري السنين وتمضي الطفولة راكضة، لأجد نفسي في طابق واحد معها في جريدة الجمهورية. حتى أنّني ذات مرّة طلبت منها أن ألمسها، لأتأكد من أنّها حقيقية. وبعد الاعتياد على طلّتها وحضورها الباذخ في مكتبها، تبنتني، من بين آخرين، (موهوبين كما كانت تعتقد). كانت كلما تقرأ لي نصًا يُنشر في الجريدة تردد لازمتها (لك ولي.. ليش أنته تعرف تكتب)، لكن عندما يسألها الآخرون عن النص تومض عيناها وتقول (يجنن). نعم ابتسام أنقذتني مرة من الموت. عندما رفضتُ وضع أسمي على ـ كتاب موجز التاريخ الإنساني لصدام حسين ـ الذي طلب مني رئيس التحرير وقتها تحريره، ففعلت. ومرة أخرى عندما كتب عني زميل (عزيز) أثناء انتدابي إلى جريدة القادسية، يتهمني بانتقاد (السيِّد الرئيس) ووصمه بالغباء، في أعقاب غزو الكويت، فتدخلت ـ ابتسام ـ لدى زوجها الراحل أمير الحلو، وكان رئيسًا للتحرير، الذي تدخل بدوره لدى عبد الجبار محسن، لـ (يطمطمو) التقرير ويجبرونني على التطوع للعمل في الإذاعة تحت القضف (كي أغسل عاري وأحسّن صورتي). وحدث أن نجوت. ليثقلا كاهلي ـ امير وابتسام ـ بفضلهما، لقد تعلمت من إبتسام الأتكيت واللبس والتنسيق والكتابة والقراءة، لاسيّما القراءة. كانت رقيقة بفخامة، ومؤثرة بحنو. تشعر بوجودها في مبنى الجريدة، حتى من خلف الجدران. عذبة ناعمة ذكية وحيية، تقابل قفشات زميلنا الراحل رياض قاسم وزعيقه بابتسامتها. والكلمات المجرحة والمتجنية، بتجاهل وترفع. كانت تبتسم وتعزو الأمر إلى الخلل المعرفي كما تسميه. إبتسام عبد الله انطبعت، ككيان متحضر، في ذاكرة أجيال كاملة، وستبقى كذلك ما دامت تلك الأجيال تتناسخ في العراق. عزائي أنّني التقيتها آخر مرّة أثناء زيارتي الأخيرة إلى بغداد. وحتى اوان زيارتي المقبلة، سأغمض عينيّ بسكون، وأتخيل العراق الجميل، دائمًا، مساء كل خميس، عندما تنتهي اللازمة الموسيقية وتطلّ من الشاشة الفضية، بتلك الغرة والنظرة الغارقة بالكحل والذكاء، لتمنح العراق هويّته المعرفية والجمالبة المتحضرة.

رياض النعماني

(هل ماتت المبدعة ابتسام عبداللة)؟

الحلم عندما يشف ويشف ليرى...

الضوء عندما يولد في فجر بساتين المشمش،

قرب الهديل لحظة يرق ويترقرق

في زرقة بنفسج تولد في حليب قبرتين يصغيان وراء المدى للبعيد الذي يجاور بهاء الصمت والأله والأبد...... مرايا الاعراس حينما تتبادل مع المطر فرح طيران العشاق في اغنية العشق و اللانهاية كل ذلك هو ابتسام عبد الله.

الصلاة هي ابتسام عبد الله

القصيدة التي تتبادل مع المستحيل جماليات الحضور الباذخة هي ابتسام عبد الله.

العذوبة... والهدأة.. رقة الهمس... البرتقالي الذي تمحوه ترافة اعالي الغروب لفرط نعومته... والصوت الذي لا يسمع هم ابتسام عبد الله التي فارقت موت حياتنا لتدخل في حياة الابدية.

كم خسرنا برحيلها النهائي هذا!!!

اين سيذهب الحلم بعد الان؟

هكذا اراك _ في الحق _ قد نجوت من موت واقعنا المرير والمخيب الفاجع.

لك كل ما بالحنين من نايات وحنين

لم ترحل بل اختارت الغياب الهاديء

لطفية الدليمي

لااعلن حزني عادة - الوذ بالصمت طويلا فالكلمات غالبا لاتفي بما يعتمل في القلب والروح من ألم وكدر كبير.

. غياب - ولاأقول رحيل - الكاتبة والاعلامية الجميلة السيدة ابتسام عبدالله ملأني حزنا وأسفا، فهي من السيدات النوادر اللواتي التقيتهن في مناسبات قليلة -واكتشفت عذوبة روحها ورقتها ورقيّ تعاملها، لم اسمع منها سوى ماهو خيّر وجميل من القول بحق الآخرين، وهي فضلا عن سماحة شخصيتها تعكس حضورا انسانيا وانثويا أنيقا وأموميا يشع من ابتسامتها وصوتها الدافيء وحرصها على احترام نفسها ومن حولها، وكانت فريدة في ادائها الاعلامي وفي قدرتها على ادارة الحوار الراقي مع ضيوفها.

لم يتح لنا الزمن ان نلتقي كثيرا، لكن المرات القليلة التي التقينا فيها كانت تعادل عمرا من الالفة والمحبة والاحترام الذي دام بيننا رغم المسافات.

ابتسام لم ترحل بل اختارت الغياب الهاديء - أي الانتقال من حالة الى أخرى و مضت محفوفة بأنوار المحبة والسلام.