قراءة في قصص إبتسام عبد الله

قراءة في قصص إبتسام عبد الله

ناطق خلوصي

يبلغ عمر السرد النسوي في العراق نصف قرن بعد، وما زال عدد كاتباته محدوداً إذا ما قيس بعدد الكتّاب، وظل حجم ما كُتب أو يُكتب عنه محدوداً هو الآخر. ويمكن القول إن البدايات الحقيقية لهذا السرد تعود الى أواخر ستينات القرن الماضي أو الى أوائل سبعينياته،

حيث ظهرت أسماء ابتسام عبد الله ولطفية الدليمي وعالية ممدوح ومي مظفر وسميرة المانع وبديعة أمين وسالمة صالح وسافرة جميل حاقظ وديزي الأمير وسهيلة داود سلمان،لتظهر بعدها أسماء ميسلون هادي وإلهام عبد الكريم وهدية حسين وبتول الخضيري وبثينة الناصري وانعام كجة جي وعالية طالب وإرادة الجبوري وذكرى محمد نادر، ونعيمة مجيد، وصولاً الى أسماء كليزار أنور وايناس البدران وكاتبات قصة أخريات ظهرن خلال السنوات الأخيرة.

إن خصائص هذا السرد ترتبط بخصوصية الوضع الاجتماعي والنفسي للمرأة بشكل عام والقاصة بشكل خاص، فضلاً عن طبيعة الظروف الموضوعية المحيطة بها، وهي خصوصية تملي على القاصة ضرورة الحذر في التقاط الأحداث واختيار نماذج الشخصيات وطبيعة التناول لأن ما يُسمح للقاص بأن يتناوله في هذا المجال، قد لا يكون مسموحاً للقاصة أن تفعله، لاسيما أنها تواجه تابوات الممنوع والمحرّم في تناول ما يمكن أن يعد خروجاً عن المعايير الأخلاقية والاجتماعية التي تحكم المجتمعات المحافظة. فموضوعة الجنس ظلت تدخل في إطار المحظورات حتى بالنسبة للقاص العراقي قبل أن ينفلت ذو النون أيوب وفؤاد التكرلي ومهدي عيسى الصقر ثم نجم والي من هذا الإطار بفعل عوامل ذاتية وموضوعية ساعدتهم في ذلك، وبالتالي ظلت هذه الموضوعة داخل إطار المحرمات والمحظورات بالنسبة للقاصة العراقية، ومثلها ظلت موضوعة الدين التي لا يقترب منها حتى القاص العراقي إلا بحذر شديد بخلاف موضوعة السياسة التي قد يسرف القاص في تناولهاً في حين تظل القاصة على تماس سطحي معها أحياناً. أما الحرب، وهي مهنة الرجل بشكل خاص، فقد ظلت محور اهتمام القاص العراقي على امتداد بضعة عقود من السنين بفعل عمق تجربته فيها بسبب انغماره فيها مقاتلاً أو مراسلاً حربياً أو شاهداً عيانياً خلال زياراته لجبهات القتال، في حين ظل تناول القاصة لهذه الموضوعة محدوداً ويتم بالتعامل مع انعكاساتها الاجتماعية والنفسية بشكل خاص. لقد أوردت"ببلوغرافيا قصة الحرب: 1981 ــ 1988"التي اصدرتها دار الشؤون الثقافية العامة لتوثيق ما صدر من أعمال سردية عن الحرب العراقية ــ الإيرانية، عناوين أكثر من مئة وسبعين مجموعة قصصية ورواية كان من بينها مجموعتان قصصيتان ورواية واحدة فقط لقاصتين عراقيتين. إن عالم المرأة القاصة الفسيح ينفتح على حزمة من هموم وهواجس ومشاغل وارهاصات ومشاعر خاصة بها لا يمتلك غيرها القدرة على اختراقها إبداعياً للتعبير عنها بالشكل الذي يغطي اشكالياتها المختلفة وبما تمليه أحاسيسها الداخلية بخلاف ما يفعله القاص الذي يتعامل معها من الخارج عند تناوله لها، فيتجلى في ذلك الفارق في مستوى الصدق في التعبير عنها بينهما. وثمة عناصر تسهم في صقل تجربة القاصة وتتمثل في مستوى ثقافتها وحجم اطلاعها على المنجز السردي العربي والعالمي الى جانب اتقان لغة اجنبية واحدة أو أكثر من لغة. ويتضح تأثير هذه العناصر من خلال الفوارق بين قاصة وأخرى في اسلوب التناول ولغة السرد. ويبدو أن الانتظار، انتظار الغائب أباً أو أبناً أو أخاً أو حبيباً، صار مهنة المرأة العراقية بامتيازحيث ظل هاجساً يلاحقها وهي تعيش سنوات الحروب والحصار والانكسارات، ويبدو ذلك واضحاً في كل النماذج التي اخترناها هنا.

بخور: ابتسام عبد الله

صدرت هذه المجموعة في العام 1998 (وكنا قد تناولناها عند صدورها) وتقع في اثنتي عشرة قصة قصيرة مفعمة بالحسّ الإنساني وحميمية الارتباط بواقع المرأة والهموم التي يفرزها هذا الواقع، يتمازج فيها نشيد التوق الانساني للانعتاق من أسر الألم، مع نشيج الأحزان ومرارة الإحباط والاحساس بالانكسار الداخلي، إذ تبدو احدى عشرة قصة منها كأنها متوالية قصصية ينتظمها خيط روحي واحد ويشدها نسيج متجانس تقريباً وتشغل الحيّز السردي في كل منها شخصيتان: امرأة ورجل، هذه الثنائية الأزلية التي رافقت الوجود الانساني منذ بدئه. إن المرأة في قصص ابتسام عبد الله لا تعاني من اضطهاد الرجل أو تقع تحت سطوته الصارمة. إنها على العموم مثقفة تمتلك حريتها الشخصية لكنها تعاني من قهر الظروف المحيطة بها، وهي ظروف خارجة على ارادتها، لذلك تبدو حياتها الأسرية قلقة، مضطربة، لا تعرف الاستقرار. ويحلّق هاجس القلق في فضاءات القصص، ويشكل الانتظارهاجساً يؤرق المرأة، لاسيما حين يكون مصحوباً بالخوف أو القلق، فتلوذ بالصمت الثقيل والعزلة تبعاً لذلك، وهذه ثيمات تقع في مجرى التداول القصصي عند القاصة. تتعرض القاصة في خمس من قصص المجموعة الى موضوعة الحرب، ولكن ليس ببعدها القتالي أو التعبير عنها من خلال الخطابية والمباشرة. فهي تتعرض للحرب ببعدها الإنساني والمأساوي بجرأة هي امتداد للجرأة التي تتعامل بها مع علاقة المرأة بالرجل، إذ تدرك أن قصة ما بعد الحرب تستلزم نسق تعبير مختلفاً، ناشئاً عن رؤية خاصة تقوم على المزاوجة المتوازنة بين ما هو عقلي وما هو عاطفي مثلما تستلزم اسلوباً يتوافر على القدرة على الاقناع وينأى بالقصة عن فجاجة المباشرة وسطحيتها. لكن قصتها"جداول الصمت"نبدو كأنها تنفلت لوحدها عن سياق المجموعة أحداثاً وشخوصاً، فهي تقحم القارئ في لجة الواقع المأساوي منذ مفتتح القصة حيث يرى"أربعة صناديق خشبية طويلة ورفيعة، مصفوفة الواحد جنب الآخر تنتظر منذ أيام أن يأتي من يتعرف على أجساد أربعة بداخلها، من يتطلع اليها بمحبة، من يحتضنها بحنو ليدفنها فيما بعد في حفرة من الأرض". أما قصة"في المرآة"فهي واحدة من أجمل قصص الحرب. إنها تنطوي على استقراء لمفردات أجواء الحرب وانعكاساتها على الوضع النفسي ومظاهر هذه الانعكاسات في التركيبة الداخلية / الخارجية لشخصيتي القصة. فعلى الرغم من أن المرأة في هذه القصة ليست على تماس جسدي مباشر مع الحرب كفعل قتالي إلا أنها تظل على تماس روحي معها وهو تماس له وطأته الثقيلة عليها:"عرفت مع مر الأيام كيف أمضي الوقت بل أقتله بالصمت. إنها حرفة تمرستُ بها منذ ذهابه الى الحرب أو سوقه إليها".