ابتسام عبد الله..مواهب في القصة والرواية والترجمة والحوار الثقافي

ابتسام عبد الله..مواهب في القصة والرواية والترجمة والحوار الثقافي

شكيب كاظم

وإذ تراجع الكتاب الاستقصائي التوثيقي المهم، الذي أغدقه علينا الباحث الجامعي، الدكتور عبد الإله أحمد(1940-2007)، والموسوم بـ(نشأة القصة وتطورها في العراق 1908-1939)، تستوضحه عن البدايات، بداية من كتبن القصة القصيرة،

بعد تأسيس العراق الحديث سنة 1921، فانك لتعثر على أسماء: روز فرنسيس، وسانين، وستيرينة إبراهيم، وسعدية سعيد يحيى، وفكتوريا نعمان، – أرجو الوقوف عند أسمائهن ودلالاتها الدينية- وكلهن كتبن قصصهن في سنوات الثلاثين من القرن العشرين، حتى إذا واصل العراق الأخذ بأسباب التحضر والتقدم، ظهر جيل من كاتبات القصة منهن: سافرة جميل حافظ، ويأتي جيل آخر تمثل بديزي الأمير، وسميرة المانع، وسهيلة داود سلمان، وبديعة أمين، وناصرة السعدون، وجيل أحدث، لطفية الدليمي، وبثينة الناصري، وميسلون هادي، وهدية حسين، وعالية طالب، وإلهام عبد الكريم، وذكرى محمد نادر، وإرادة الجبوري، وإيناس البدران، وما دمت بصدد الإحصاء والتعداد، فلا بد أن تكون وقفتنا طويلة عند القاصة والروائية والمترجمة والإعلامية، ابتسام عبد الله، التي كانت تفيدنا وتمتعنا بإدارتها حوارات جادة وذكية من خلال برنامجها التلفازي الجميل (سيرة وذكريات)، وما زال في تلافيف الذاكرة، لقاؤها مع الجراح النطاسي الحاذق، صائب شوكة ومع فيروز ونزار القباني والقائمة تطول.

قلة هم الذين يحذقون فن الحوار والسجال، وقلة هن! وهنا أود الإشارة إلى والتنويه بالأستاذ ماجد (صالح) السامرائي، ومن مصر يسحرني حوار الشاعر فاروق شوشة، الذي كان يقدمه من القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية b.b.c تحت عنوان (لقاء مع..) كانوا يضيفون لمحاورتهم نكهة وحيوية ناتجة عن ثقافة واسعة ولباقة ونباهة وحسن إدارة.

كتبت ابتسام عبدالله الرواية، ولها في هذا اللون روايتها (فجر نهار وحشي) تسرد علينا فيها الحوادث التي عصفت بمدينة الموصل، يوم الثامن من آذار 1959 والأيام التي تلته، وإذا كانت هذه رواية سياسية، فإنها قدمت لنا رواية عاطفية عنوانها (ممر إلى الليل) وفيها تتناول عينات من حياة (أدهم زين الدين) مريض القلب، الذي يحيا حياة تعاني فراغاً ممضاً، على الرغم من البيت الفاره، والحديقة الأنيقة، والوظيفة، وإذ يتحرك قلبه إزاء إحدى الموظفات بغية الارتباط بها زوجة فـ "أدهم زين الدين لم تعد له في الحياة من وجهة أو رغبة غير(رشا)، وهي بإمكانها انتشاله من حالته القلقة، وهي التي تمنحه دافعا للحركة والإبداع". ص1118

وإذ لم يستطع البوح لها بحبه، حتى وهو يطلب منها اللقاء في مطعم بعد نهاية دوامهما، هو الذي يؤكد لها:

– إنها قضية خاصة. إني في حاجة إليك"ص120

فالعبارات التي أعدها مسبقا تبخرت من ذهنه، فأضحى فشله في البوح بمكنونات قلبه سبباً في انهيار صحته والتبكير بموته، عاد إلى منزله مخذولاً، يقطع بخطواته البطيئة الممر الضيق المعتم (..) يحاول بحركاته البطيئة أن يغير ملابسه، يدفع حذاءه بعيدا عنه، يحس بتعب ووهن شديدين، يستلقي على الفراش بكامل ملابسه ويغيب عن وعيه.." ص 126

كما كتبت ابتسام عبدالله القصة القصيرة، وقد جمعت بعضاً من قصصها في مجموعتها (بخور) التي طبعتها دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد سنة ١٩٩٨، ولعل من أروع قصص هذه المجموعة، رائعتها (يوم خريفي) التي نشرتها أولاً في الصفحة الثقافية لجريدة (الثورة) في 13من نيسان 1995، يوم كان يشرف على تحرير الصفحة الشاعر الأنيق جواد الحطاب، قرأت هذه القصة الرائعة، وأدرت عنها حديثاً نقدياً نشرته الصفحة ذاتها في 16من حزيران 1995، وتقوم هذه القصة الجميلة على مفارقة مؤسية، أو ما تعرف نقديا بـ(بنية التضاد)، فإذ تسافر الشابة بطلة القصة، التي لم تطلق ابتسام عبدالله عليها اسماً، تسافر نحو بيروت، بعد انقطاع سنوات طويلة عنها، ولعل القاصة تومىء إلى سنوات حرب الثمانين، ومنع سفر العراقيين، كي يذهبوا إلى الحرب، وإذ تنزل في الفندق ذاته الذي نزلت به أول مرة، الكائن في شارع الحمرا، الذي يتأخر في الاستيقاظ، لأنه يتأخر في النوم، فلا وقت للنوم في بيروت تلك السنين الضاجة بالحياة، تعود بها الذاكرة إلى أيام خلت ومضت، يوم تعرفت على صديقها (هاني) وللاسم رمزيته وموحياته، كانت تجلس وإياه في مقهى (الهورس شو) وتظل ابتسام عبد الله تدير قصتها الجميلة هذه، مستخدمة تيار الوعي، والاسترجاع فالمطر المنهمر هذا اليوم مدرارا يذكرها بمطر ذلك اليوم، الذي كانا يزمعان فيه المشاركة في سفرة نظمتها الكلية نحو بعلبك، وإذ تقرر مغادرة الفندق نحو مقهى (الهورس شو) وإذ تهم بتسليم مفتاح غرفتها لموظف مكتب الاستقبال، وإذ لا تجد أحداً، فإنها تشغل نفسها بقراءة أسماء النزلاء، وهنا تفصح ابتسام عبد الله عن إمكاناتها الفياضة في القص، فيتصاعد الحدث ويتوتر، إذ يفجؤها اسم بعينه، يا لله أية مفاجأة هذه؟! إنه هاني، هاني إبراهيم الفرحان، ولأمر ما شاءت ابتسام عبد الله أن تغير اسمه لدى إعادة نشر ها القصة في مجموعتها (بخور)، غيرته إلى أسامة إبراهيم الفرحان.

أية مصادفة محببة هذه التي جمعتها وإياه؟!هنا يحضر موظف الاستعلامات، ليخبرها بوجود رسالة إليها، وإذ كانت في عجلة من أمرها تمني النفس بلقاء (هاني) وإذ يبحث الموظف عن رسالتها فلا يعثر عليها، لكثرة الرسائل، تهون عليه الأمر بأنها ستتسلمها لدى عودتها ظهرا، هنا المفارقة، وثمة الفن، والإمكانات الباهرة التي تلتقط هذه المفارقة لتوظفها في تصاعد الفعل الدرامي لعملها القصصي الباذخ الثراء الفني، هذا الالتقاط المحسوب بدقة.

تغادر الفندق نحو المقهى، على أمل اللقاء بهاني، وتمضي ساعات الصباح بطيئة، وصوت السيدة فيروز في تلك الساعة يشدو بأغنيتها (سني عن سني) كانت قد أخذت تسحبها من دائرة التفكير الذي كانت غارقة فيه، مدت يدها إلى قهوتها الثانية التي بردت، للإشارة إلى طول وقت الانتظار، وتركز ذهنها على أمل اللقاء بـ(هاني)، وإذ طال المدى، بدأ اليأس يتسرب إلى حنايا الروح وئيداً وئيداً، فما عاد ثمة أمل في اللقاء.

تغادر المقهى نحو فندقها لتصل إليه عند الثانية عشرة والنصف من بعد الظهر، وأرجوا أن ننتبه إلى الوقت، فابتسام عبد الله تحسب الأمر وبدقة، من أجل فنية القصة وتوترها الدرامي.

في الثانية عشرة والنصف تعود لفندقها، فيسلمها موظف الاستعلامات الرسالة التي حدثها عنها صباحا، وتظل تناجي نفسها، لماذا لم يحضر للفندق؟ هل تتصل به في غرفته؟ ترى أتنتظر حتى العصر؟ هل هو في الفندق الآن أم لا؟ أه يا ربي ما هذه الكوابيس المزعجة؟

في الساعة الثانية، وهنا أؤكد موضوعة الوقت ثانية، قررت الاتصال به هاتفيا، ولا من مجيب، لقد نسجت ابتسام عبد الله خيوط قصتها الرائعة هذه بدقة، وحوادثها تتسارع وتتصاعد، وصولا إلى ذروة الحدث القصصي.

هنا تقع عيناها على الحقيبة، وتلتقط الرسالة، رسالة هاني، لتقرأ ويا لهول ما تقرأ: عزيزتي. وصلت بيروت قبل ثلاثة أيام (..) لا بد أن نلتقي يوم غد صباحاً، قبل سفري، فالطائرة التي حجزت عليها ستغادر بيروت في الواحدة والنصف.سأكون في انتظارك في صالة الفندق، من الساعة التاسعة وحتى الثانية عشرة.

كان المطر ينهمر بقسوة مخيفة، وكنا نحن القراء نكتم أنفاسنا بألم ممض وقسوة مخيفة