الإنسجام بين الطبيعة والإيمان الديني والحياة اليومية في قصيدة لاخماتوفا

الإنسجام بين الطبيعة والإيمان الديني والحياة اليومية في قصيدة لاخماتوفا

محمد تركي النصار

(علمت نفسي أن أعيش ببساطة) قصيدة مباشرة في أدائها اللغوي وتشبه الحياة التي كانت تحلم أن تعيشها انا اخماتوفا، الشاعرة الروسية المعروفة التي كتبت هذه الأبيات احتفاء بالمتع الصغيرة المنسية في الحياة.

وتظهر في النص طاقة التأمل الايجابية في معنى وتفاصيل المشهد اليومي بالرغم من المطبات والمتاعب التي عانت منها الشاعرة سياسيا في فترات الحكم الشيوعي السوفيتي الشموليشأنها في ذلك شأن العديد من الأدباء الروس الذين تعرضوا للملاحقة والطرد من الوظيفة والاذلال والنفي.إنّها قصيدة مكتوبة عن المتع اليومية البريئة، مشهد الغروب الساحر، هدوء الطبيعة، الألفة مع الكائنات الأخرى، عن البساطة صعبة المنال في خضم احتدام الصراع المادي والاستقتال بين البشر لإشباع حاجاتهم وغرائزهم.

الشعر هنا يحتفي بجمال الطبيعة بكليتها، والحياة تبدو أكثر متعة اذا عرف المرء كيف يعيشها من دون تعقيدات وبلا قلق على الماضي، فعيش اللحظة الحاضرة فقط بكثافة واستمتاع هو مفتاح السعادات.. لذلك فالمتحدثة في النص تنسى متاعبها الزائلة لتستمتع بحفيف الأشجار في البرية البعيدة، والقطة تلعق يدها، ومشهد النار المتوهجة في برج معمل قريب من بحيرة كلها تفاصيل ساحرة بالنسبة للشاعرة:

علمت نفسي أن أعيش ببساطة وحكمة

وأنظر للسماء مصلية لله

وأستمتع بنزهات طويلة قبيل المساءات

لأتحرر من مخاوفي التي لا معنى لها.

وحين تصدر الأشواك حفيفا في الوادي

ويتدلى عنقود التوت الأحمر

أكتب قصائد سعيدة

عن خراب الحياة، خرابها وجمالها

إن عمق اندماج المتحدثة يجعلها من التركيز على كل تلك التفاصيل الى الحد الذي حتى لو جاء أحد ليطرق بابها فلربما لا تسمع طرقاته.

نبرة القصيدة المعبرة عن حب عميق بالطبيعة، هادئة، معتدلة، مثل نسمات الخريف وتعطي انطباعا يساعد على خلق حالة من الصفاء الروحي تحفز الرغبة بالتأمل وباعتماد هذه النبرة الهادئة تسعى الشاعرة لخلق مناخ شعري بسيط، إذ لا تستخدم الشاعرة تقنيات استعارية ومجازية إلا بمقدار محدود، ما يجعل النص مباشرا، دقيقا، من حيث التركيز على المعنى:

وأعود، فتلعق القطة ذات الفراء راحة يدي، مطلقة مواء محبّبا

وتتوهّج النار فوق برج معمل النشارة القريب من البحيرة

وصرخة اللقلق الذي يهبط على السطح وحدها

تكسر الصمت بين لحظة وأخرى

ولو طرقت بابي فلربما لا أسمع طرقاتك.

ونرى في البيت الاول تضادا في استخدام كلمتي ببساطة وحكمة، فالمعنى المضمر هنا يعني بأن التفكير البسيط هو الطريقة الوحيدة لأن تعيش بحكمة، وتستخدم الشاعرة المجاز أيضا في بعض المواقع، والتشخيص في البيت (ويتدلى عنقود التوت الأحمر، أكتب أشعارا سعيدة) مستخدمة مجازا شخصيا في عبارة أشعار سعيدة.

يظهر البيت الاول في القصيدة أمرا عن طبيعة البشر، فليس طبيعيا أن نعيش بحكمة وبساطة، والمتحدثة لا تلزم نفسها بكيفية تحقيق هذا الهدف، فالبشر بحالتهم الطبيعية يبدون محكومين برغبتهم للحصول على الثروة والمال، لذلك تقول الشاعرة بأنها علمت نفسها أن تعيش ببساطة وحكمة لمقاومة هذا النزوع الذي يحرك طوفانا من البشر بكل أنواع الصراعات والكدح والمعاناة.

والناس في كل الاماكن يسعون لتحقيق التسلية والجمال في أسلوب حياة عالي المستوى، ولتحقيق هذا الهدف فأنت تحتاج الى المال، والشاعرة هنا تفكر بأسلوب حياة مختلف عن سعي معظم الناس الآخرين، إنها تستمتع بجمال السماء الذي لا يحتاج مالا للاستمتاع به، وكل ما نحتاجه هو التوقف عن الركض واللهاث وننظر ونتأمل، ونصلي للإله وهذا مرهون بتخطي الهنا والآن، فأسلوبها البسيط يتناقض مع الحيوات المزدحمة فهي تريد من إيمانها أن يوصلها الى ما هو أبعد من الآن والهنا، الى هناك، مدركة أن الحياة قصيرة والبساطة فيها قيمة لأنها تسمح لها بالتوقف والتفكير بالخالق لتصل الى معنى وغاية الوجود.

هنا نلاحظ تركيزا من قبل الشاعرة على أهمية التأمل، فحتى المشي لساعات طويلة تستثمره لهذه الغاية وأيضا لتبديد قلقها ومخاوفها التي تجلبها هموم العيش، فالمشي طويلا قبل حلول المساء يخلق متعة ذهنية وصفاء روحيا وهي تفكر في معنى الوجود وتستدل على نوع من الإشراق الملهم في أفكارها.

استمتاعها بجمال الطبيعة يلهمها لكتابة قصائد سعيدة، وهذا هو الأمر المهم بالنسبة للشاعرة، فمعظم الشعراء يكتبون قصائد حزينة لكننا نلاحظ أن اخماتوفا على النقيض من هؤلاء تكتب هنا عن المتعة والبساطة والفرح، وتعبر بمشاهد وصور من الطبيعة عن توازن مدهش بين تذوق جمال الطبيعة وقوة الإيمان الديني والوفاء للالتزامات الحياتية المعيشية، كل هذا معبر عنه بنص شعري بسيط، متماسك، متين البناء يقدم متعة روحية وجمالية نادرة.