من لايحب آنا أخماتوفا

من لايحب آنا أخماتوفا

علي حسين

ظلت برغم كل المصاعب التي واجهتها تعتبر نفسها جزءا من الادب الروسي العظيم فقد كتبت قبل وفاتها بسنوات قليلة: " لن اكف عن كتابة الشعر، انه صلتي بالزمن وبحياة شعبي، وحين اكتب قصائدي، اعيش في ذات الايقاعات التي يردد صداع تاريخ بلدي، انني سعيدة لانني عشت هذه الاحداث التي لاتعادلها احداث ".

في مثل هذا اليوم الخامس من آذار عام 1966، اعلنت وكالات الانباء رحيل الشاعرة الروسية آنا اخماتوفا، وكان سبب الوفاة نوبة قلبية حادة لم تمهلها طويلا.

اكتشفتُ " آنا أخماتوفا " من خلال قصائد قليلة نشرتها مجلة الاداب، ولم تكن هذه القصائد تثير اهتمامي رغم ان كاتبتها روسية، فقد كنت اختصر الادب الروسي آنذاك بتولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف وغوغول، هؤلاء الاربعة الذين اتابعهم، لم اكن اعرف شيئا عن الشعر الروسي، حتى انني لم اقرأ لاكبر شعراء روسيا بوشكين سوى روايته " أبنة الامر ".. وكان الذين من حولي يملكون القليل من المعلومات عن هذه الشاعرة، التي كان اسمها مجهولا للقراء من امثالي، لكن في نهاية السبعينيات حدثني الراحل سامي محمد وكان من رواد المكتبة الدائميين، عن أخماتوفا والتي وصفها بانها النسخة الروسية من فرجينيا وولف، فمثلما كتبت الروائية الانكليزية عن حالها وحال النساء، كانت اخماتوفا تدرك ان ما كتبته يمثل تجربة المرأة.. تجربة شجاعة وجريئة لكنها قاسية.

عندما نظرت فيما بعد الى صورة آنا اخماتوفا وجدتها قريبة الشبه من فرجينيا وولف، نحيفة مثلها، الانف يشبه الانف، الملابس على بساطتها تخبرنا ان صاحبتها تنتمي الى طبقة راقية.. ومثل فرجينيا وولف عاشت اخماتوفا حياة صعبة، ومثلما جعلت كتابات فرجينيا وولف الاولى من صاحبتها اديبة مشهورة، كانت القصائد الاولى لأخماتوفا قد وضعتها على سلم المجد. إلا ان اخماتوفا تختلف عن فرجينيا وولف بانها رغم الماساة الشخصية التي عانت منها، لكنها وجدت نوعا من التفاؤل في الادب وايضا نوعا من الايمان بالنفس تكتب: " ان الظروف الخارجية هي ما هي عليه، لكن في اعماق داخلي، هناك جزء لن يتم سحقه ابدا ".. لكنها ايضا مثل فرجينا وولف كتبت عن الخيانة والجنس والحب، وعن المراة عندما تكون عشيقة او تحرم من حبيبها، كانت اخماتوفا تعتقد ان على الشاعر ان يمتلك رصيدا من المعرفة في التاريخ والفلسفة والجغرافية وبقية فروع العلم الأخرى، ولهذا نجدها تدرس التاريخ وتقرا شكسبير بلغته الاصلية، وتتقن اللاتينية، وتدرس العمارة وتكرس سنوات من حياتها لدرسة بوشكين، فيما تفرغت فرجينيا وولف لدراسة علم النفس وذهبت للقاء فرويد، وفي مقالاتها كان اسم جيمس جويس يرد كثيرا حيث تاخذ عليه ان رواياته تربك التفكير، في الوقت الذي تكتب فيه عن مارسيل بروست: " قراءة بروست تجعلني أشعر بأني حرة وباستطاعتي الهروب، مقارنة بلورنس الذي أشعر معه بأني محتجزة".

بعد حديث سامي محمد عن آنا اخماتوفا، سأجد زبونا آاخر من زبائن المكتبة شغوف ايضا بالشاعرة الروسية، وأعني بهذا الزبون الروائي الراحل غالب هلسا الذي قدم دراسة مهمة نشرت في مجلة الاقلام ركز من خلالها على القصائد الوطنية التي كتبتها آنا اخماتوفا " يكتب هلسا: " هناك جمهور كبير يعتقد ان الموضوعات الوطنية لم تظهر في شعر أخماتوفا بحس قوي ومتكامل إلا بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن خطأ هذا الاعتقاد يبدو واضحا لان ديوان شعرها الاول يكفي لان نطلق عليها صفة الشاعرة التي تهتم بقضايا شعبها ". بعد ذلك سأكتشف أخماتوفا من خلال الكتاب الذي اصدره الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر بعنوان " آنا اخماتوفا.. قصائد مختارة " حيث سنطلع على قصائد هذه الشاعرة الساحرة من خلال ترجمة ممتعة عن الروسية.. في مقدمة المختارات نقرأ هذا الوصف الذي كتبه حسب الشيخ جعفر للشاعرة الروسية: " كانت آنا اخماتوفا اجمل امراة في زمانها. وقد كتب الشعراء، انذاك قصائد عديدة عنها.. كما عمل الفنانون صور عديدة لها، ومن الوسيقيين من جعل من قصائدها اعمالا موسيقية ".

كان حسب الشيخ جعفر قد حط الرحال في موسكو عام 1966 لدراسة الادب في معهد غوركي، وخلال تلك السنوات يجيد الروسية ويحصل على الماجستير في الاداب.. عام 1969 يصدر حسب الشيخ جعفر مجموعته الشعرية الاولى " نخلة الله " لتتوالى بعدها مجاميعه الشعريه.. لكنه سيكرس جهوده لترجمة الشعر الروسي، تصدر له عام 1979 " مجموعة قصائد لمايكوفسكي "، ثم مجموعة قصائد ليسنين، وبعدها يترجم لنا اشعار الكسندر بلوك، ومختارات من بوشكين، وكانت المفاجأة عام 1991 " مختارات انا اخماتوفا ".. وقد كان في كل ترجماته يسعى لأن يجعل من القارئ يطل بعينين متلصصتين على اعماق الانسان الروسي.

قال مهندس البحرية لزوجته ان هذه الفتاة لم تكن علامة بشارة لنا، فقد تم تسريحي من الخدمة بعد ولادتها باسبوع، وسيقرر الاب العاطل عن العمل ان ياخذ عائلته ويرحل من القرية الصغيرة الى مدينة شمال روسيا، ولدت آنا اخماتوفا في الثالث والعشرين من حزيران عام 1889، وهي تذكر هذا التاريخ بسعادة فتكتب: ولدت في العام نفسه الذي ولد فيه شارلي شابلن واصدر فيه تولستوي روايته سونتا كروتزر، وشيد برج ايفل وربما هو نفس العام الذي ولد فيه اليوت "، في طفولتها ستزعج والدتها كثيرا لانها ترفض الذهاب الى الكتيسة، قبل ان تدخل المدرسة تتعلم القراءة من خلال كتب تولستوي المبسطة للاطفال، كتبت قصيدتها الاولى وهي في الحادية عشر من عمرها، تسحرها كتابات بوشكين وليرمانتوف، لكن القصيدة التي اثرت كثيرا فيها كانت " قصيدة "موت شاعر" التي كتبها ليرمانتوف احتجاجا على مقتل بوشكين، وكانت تردد القصيدة امام امها التي كانت تقول ان الشيطان تلبس ابنتها، عام 1905 سيتركهم والدها بعد ان انفصل عن امها، وكان هذا العام قد شهد ثورة كبرى في روسيا، تختار الام مدينة كييف للسكن، هناك تدرس آنا قواعد اللغة الروسية لتتخرج عام 1907، تلتحق في كلية القانون، حيث تدرس تاريخ القانون، ولم تشعر يوما ان دراسة القانون ستؤثر عليها كشاعرة، عام 1910 تتزوج من نيكولاي غوميليوف، احد ابرز شعراء الطليعة في روسيا، نشر عام 1905 مجموعته الشعرية "طريق الفاتحين "، بعدها يصدر في باريس دراسة بعنوان وتذهب معه الى باريس، ينهي دراسته في السوربون، يؤسس عام 1910 مجلة " أبولون "، اعجبت به آنا اخماتوفا عندما تعرفت اليه اول مرة، واستمرت قصة الحب بينهما ثلاث سنوات، تكتب آنا اخماتوفا: " لقد أحبني لمدة ثلاث سنوات حتى الآن، وأعتقد أنه من قدري أن أكون زوجته. سواء كنت أحبه أم لا، أنا لا أعرف، لكن يبدو لي أنني أحبه. "

وفي تلك السنوات سيؤسس عدد من الشعرء الطليعيين الروس ورشة شعرية ستكون انا ابرز اعضائها، حيث كانت الورشة تهدف الى التعرف على الاتجاهات الحديثة في الشعر الاوربي، عام 1912 تزور باريس وجنوا وفينيسيا، وتتجول في المعارض التشكيلية الايطالية، وفي نفس العام يصدر ديوانها الاول " المساء "، تطرقت فيه الى موضوع الحب، ولا سيما فقدانه وعذاباته، لكن الديوان الذي طبع منه 500 نسخة لم يجد رواجا، في باريس ولدت ابنها ليف العام 1914 يصدر ديوانها الثاني تحت عنوان " زهرية " وكانت قد اختارت مدينة سان بطرسبورغ مكانا للاقامة، لعام 1917 يصدر ديوانها الثالث " السرب الابيض " والذي اقرر السلطات منعه، وكان عليها ان تتعامل بحذر ممع السلطات السوفيتية التي تسلمت زمام الحكم، هاجم النقاد ديوانها " السراب الابيض "واعتبروه مناجاة نفسية في زمن تشهد روسيا تحولات كبرى،

في عام 1918، حدث الطلاق المتوقع بين آنا اخماتوفا وزوجها، تزوجت بعد ذلك من الشاعر نيقولاي نيقولايفتش.

في عام 1921، يلقى القبض على نيكولاي غوميليف بسبب دوره المزعوم في مؤامرة ملكية ضد الحكومة، وفي آب من نفس العام ينفذ فيه حكم الاعدام.

ستختار العزلة حيث تعمل أمينة مكتبة في احد المعاهد الزراعية، العام 1921 تصدر كتابين جديدين وهما لسان الحمل وعام الغد، في تلك السنوات تتفرغ لدراسة اعمال بوشكين، لكن السلطانت تبدا بمضايقتها، فقد اتهمها النقاد بانها شاعرة مسيحية، وتتخلل اشعارها الرؤى والايماءات الدينية، وانها غير مؤمنة بالاشتراكيى والنضال من اجل المستقبل، بل ممتلئة بالحنين الى الماضي، وهو ما سبب عداء الاوساط الثقافية الرسمية لها وستكتب:

" لست نبية استشراق الاشياء المقبلة. وتنساب حياتي مشرقة مثل جدول متالق

انا ببساطة لا اشعر بدافع للغناء

إذا كانت مفاتيح السجن هي التي يجب ان تحدد لحني ".

وبسبب قصائدها التي هاجمت فيها ما حدث في الثلاثينيات، وقضية اعدام زوجها وسجن ابنها، منعت انا من النشر:

اي قدر جديد اعلنه

للذين لم يقض عليهم الجلاد

يانجوم السماء في الاعالي

المعي فوقهم ولهم

فلن يذوقوا بعد الان قوت الارض.

ولن يرووا اعين الذين يحبون

سستتعرض آنا اخماتوفا الى محنة جديدة حين يتم القاء القبض على زوجها نيقولاي نيقولايفتش وابنها ليف غوميليوف اثناء الحملة التي قادها ستالين ضد المعارضين وقد اضطرت ان تكتب رسالة الى جوزيف ستالين تطالبه باطلاق سراح زوجها وابنها، والرسالة مؤثرة ترجمها الى العربية استاذنا الدكتور ضياء نافع:

(يوسف فاسيريونوفيتش الموقر:

قررت ان أتوجه اليكم بهذه الرسالة، لاني اعرف موقفكم تجاه القوى الثقافية للبلاد، وبالاخص تجاه الادباء. لقد اعتقلت قوميسارية الشؤون الداخلية في 23 تشرين الاول في لينينغراد زوجي نيقولاي نيقولايفتش البروفيسور في اكاديمية الفنون وابني ليف نيقولايفتش غوميليوف الطالب في جامعة لينينغراد الحكومية.

يوسف فاسيريونوفيتش، انا لا اعرف بماذا يتهمونهما، لكني اعطيكم كلمة شرف، بانهما ليسا من الفاشست ولا من الجواسيس، ولا من المشاركين في الجمعيات المضادة للثورة.

اني اعيش في اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية منذ بداية الثورة، ولم أرغب بتاتا بمغادرة البلاد التي يشدني اليها عقلي وقلبي، على الرغم من ان اشعاري لا يطبعونها, والتقييمات النقدية تجاهي تسبب لي الكثير من اللحظات المريرة,، لكن عزيمتي لم تنهار، وانا مستمرة بالعمل في ظروف معنوية ومادية في غاية الصعوبة، واصدرت عملا عن بوشكين, والعمل الثاني معد للطبع. اني اعيش في لينينغراد بانعزالية تامة، وغالبا ما اتمرض ولفترات طويلة. ان اعتقال أقرب اثنين لي هو ضربة لا استطيع ان اتحملها.

أرجوكم، يا يوسف فاسيريونوفيتش " اعادة زوجي وابني اليّ, وانا متأكّدة، انه لن يأسف أحد بخصوص ذلك ابدا.

آنا أخماتوفا).

وعندما تندلع الحرب العالمية الثانية وتغزو جيوش هتلر بلادها وتحاصر مدينتها بطرسبورغ التي اصبح اسمها انذاك ستالينغراد، راحت تكتب عن الوطن، وتشيد بالجنود الذين يدافعون عنه فالوطن اغلى من الحكومات " وقد كانت قصائدها تبث من خلال الاذاعة الرسمية، بعد نهاية الحرب ترحل الى موسكو: " لقد اكتشفت قيمة النوع الانساني. بدات انظر الى الحياة بشكل مختلف ".

تعاطف معها ادباء الغرب، لكنها كانت غاضبة حيث وصفتهم بالقول: " هناك في الغرب يكتبون انني انتمي الى العقد الاول من القرن العشرين، وبعد ذلك جف منبع الهامي وسقطت صامتة. ولكني لم اكتب ما هو اغزر مما كتبته في الاربعينيات. انا لا انتمي الى الماضي او غارقة فيه ".

العام 1964 تمنحها جامعة اكسفورد درجة الدكتوراه الفخرية في الادب. كانت انذاك في الخامسة والسبعين من عمرها، وقد عانت ثلاث ازمات قلبية، وكان في قرار منح الدتوراه الفخرية باعتبارها: " وريثة لبوشكين، وامتداد للادب الروسي الذي اتصف بسمات الاحساس العميق، والفكر الجاد، وبساطة التعبير والصدق، فان آنا اخماتوفا عاشت مسيرة ادبية طويلة وصعبة، انفردت فيها بقوة موهبتها مما جعلها تقف في طليعة الشعراء الروس ".

عاشت اخماتوفا وماتت وهي تحب وطنها وفي اصعب المحن التي مرت بها رفضت ان تغادر البلاد، وفي احرج فترات الدفاع عن ستالينغراد ضد الغزو النازي كانت قصيدتها " شجاعة " تعلق على الجدران، وقد رفضت برغم مرضها ان تغادر المدينة، لانها حددت بصدق موقفها من الوطن:

سمعت صوتا ينادي " يهدهدني "

توسل الي: " تعالي هنا!

غادري ارض روسيا الخاطئة

الى الابد! تعالي الى بلاد الاجانب

سوف اجعل يديك المضرجتين بالدم حلوتين

ولسوف اطهر قلبك من العار

ومن آلام الاهانات والهزيمة

ساشيع فيك الطمانينة بمنحك اسما جديدا "

بكفي الاثنتين ضغطت على اذني

وبعقل صاف ومتماسك

حتى لا ادع البذاءة

تدنس روحي المتالمة.

برغم المعاناة والمصاعب عاشت آنا اخماتوفا فخورة بنفسها وشعرها الذي قررت ان تجعله روسيا بما يكفي لكي يقرأ بصوت عال.