يوم كتب الدكتور ناجي الأصيل عن استاذه فهمي المدرس

يوم كتب الدكتور ناجي الأصيل عن استاذه فهمي المدرس

د. ابراهيم خليل العلاف

الدكتور ناجي عبد الله الاصيل (1897-1963)، واحد من المثقفين العراقيين الذين اسهموا في ترسيخ اسس الدولة العراقية الحديثة، عمل مديرا عاما للاثار، كما ترأس المجمع العلمي العراقي فضلا عن بعض المناصب الدبلوماسية التي تسلمها في فترات مختلفة من الزمن مع انه كان طبيبا..

اما فهمي المدرس (1873-1944) فهو عالم من اعلام الادب والفكر والحرية في العراق كرس حياته، كما يقول الاستاذ الدكتور يوسف عز الدين، لخدمة العراق وسعادته.. وكانت له اسهامات كبيرة في تطوير الفكر العربي في العراق بكتاباته الوطنية والاجتماعية والسياسية التي كانت تنشر افتتاحيات في الصحف العراقية يقبل عليها الناس بشغف شديد وترقب دائم.. وفهمي المدرس، يعد من الاوائل الذين نقلوا النشر في العراق من جمود القرن التاسع عشر بالفاظه المنمقه المزخرفة المحنطة بسجعها الممل المفتعل الى ميدان رحب من السلاسة في التعبير واليسر في البيان والعذوبة ونقل الفكرة.

كان ناجي الاصيل يعد نفسه تلميذا لفهمي المدرس وصديقا وفيا له، ومن اقرب الناس اليه، وقد شاءت مكتبة النهضة ببغداد وصاحبها المكتبي الرائد عبد الرحمن حياوي في اوائل الستينات من القرن الماضي ان تحيي ذكرى الاستاذ فهمي المدرس باعتباره من رواد الفكر العربي الحديث فتوجهت الى الدكتور ناجي الاصيل، وكان انذاك رئيسا للمجمع العلمي العراقي تسأله عن ذكرياته وبواكير معرفته بالاستاذ فهمي المدرس، فقال الاصيل: ((كانت اول معرفتي بالاستاذ فهمي المدرس في سنة 1917، اذ كان استاذا في جامعة استانبول (دار الفنون) لتدريس الادب العربي.. وكانت استانبول تموج وتمور باحداث العالم وحربها الطاحنة الضروس، اذ اتفقت دول الاستعمار على تقسيم الدولة العثمانية المترامية الاطراف والتي كان يحلو لها ان تسميها الرجل المريض، ورغم استبسال جيوش الدولة انذاك من اربع جبهات، الا ان القوى تلك التي صارعتها كانت اقوى من ان تصمد امامها الدولة العثمانية التي تحارب بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية باساطيلها وجيوشها...)). ويضيف الدكتور الاصيل الى ذلك قوله: ((في مثل هذا الجو تعرفت على الاستاذ فهمي المدرس في استانبول، وكان رحمه الله قد جاء من بغداد في اخريات ايام السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1909.. وقد روى لي انه وجد عند وصوله استانبول مظاهرة في تموز 1908 وفيها من يهتف لتحيا الحرية ولتحيا العدالة وليحيا الدستور وسرعان ما وجد المدرس نفسه وسط هذه التظاهرة (( ينغمر بالتظاهرة بلا شعور وسط هتافات مع الهاتفين بحياة الحرية والعدالة والدستور وبسقوط الاستبداد...)). وقد بقي رحمه الله من يومه ذلك يدافع عن هذه المبادىء حتى وافاه الاجل.. يقول الدكتور الاصيل ((ان الاستاذ المدرس شخصية فذة،فهو عالم واديب استاذ باخلاق نبيلة وسجايا عاليه، وقد صحبته مدة طويلة لم اسمع منه كلمه رخيصة في انسان حتى في خصومه ورغم معارضته الشديدة لنظام الحكم في العراق والملك فيصل الاول 1921-1933، فقد كان الملك يقدره ويحترمه على سجاياه النبيلة الفاضلة بل كان يقدمه في امور كثيرة رغم حماسته في سبيل وطنه.. وقد اناط به الملك امانة جامعة آل البيت...)). و ((لما افتتحت جامعة آل البيت ببغداد في 15 آذار سنة 1924، انتدب لها خيرة الاساتذة مثل الاستاذ عبد العزيز الثعالبي (تونسي) وطه الهاشمي ومنير القاضي وعبد الاله حافظ وغيرهم من الباحثين، وقد بذل جهدا صادقا ومشقة في رفع مستواها العلمي، وكان طلابها يدرسون خير العلوم..بيد ان الاسف يحز في النفس عندما لم تدعها المعارضة تستمر في رسالتها وقطعت عنها المخصصات وكان ذلك مقدمة لغلقها سنة1931 ولما اعتزل الاستاذ فهمي المدرس جامعة آل البيت لم يترك المعارضة فقد زود الصحافة بمقالاته السياسية المشهورة)) والمدرس ((شاعر بالسليقة وعالم اديب تظهر سعه اطلاعه وعمق تفكيره في كل ما يكتب وما ينشر كان يبعث الهمم في نفوس الاساتذة ويدفعهم نحو العمل. يواصل الدكتور الاصيل حديثه فيقول ((عندما عدت الى العراق في اواخر سنة 1925 طلب مني تدريس علم النفس وما وراء الطبيعة، فاعتذرت لاني لم اجد في اللغة العربية من الكتب ما يكفي لتدريس هذين العلمين الجليلين، فما كان منه الا ان قال: كل هذه الكتب الاجنبية موجودة بين يديك وانت وانا موجودان وتعتذر عن العمل. وقد كان والحق يقال يساهم في ترجمة الفكرة ووضع المصطلحات لهذه العلوم الحديثة فهو كالبحر العميق)).ويستمر الدكتور الاصيل في حديثه ليقول ثانية: ((كنا نتدارس الموضوعات النفسية الدقيقة ومن خبرتنا في الحياة متخذين من النفس ساحة تجارب واختبار وكان لبعض الايات القرآنية شأن عظيم في انارة الطريق امامنا... ومن ذلك الاية الكريمة ((ونفس وما سواها فالهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)). ففي هذه الجمل القصيرة المعجزة خلاصة الخلاصة لعلم النفس والاخلاق...).

ومن الطرائف التي رواها الدكتور الاصيل عن جراة الاستاذ المدرس انه قابل في احد دواوين بغداد نوري السعيد وكان رئيسا للوزراء فبادره السعيد قائلا: كيف حال استاذنا؟ فاجابه المدرس على الفور: موزين.. ليش مولانا؟ والله اقول الصدق: كلما دنزرع ورد يطلع شوك! فلم يرد نوري السعيد وجلس)).

وكانت لفهمي المدرس اسهامات فاعلة في دعم حركة رشيد عالي الكيلاني (مايس 1941) ضد الانكليز وعملائهم ويقول الاصيل انه في اليوم الثاني للحركة ((سمع المرحوم فهمي المدرس يخطب من الراديو ويهاجم الانكليز ونوري السعيد وعبد الاله بحماسة منقطعة النظير)). وقد قال للاصيل ((يا اخي انها فرصة عرضت على لابث مبدأي واذود فيها عن عقيدتي واهاجم اعداء امتي وقومي فيجب ان اغتنمها وليس المهم التضحية بالقضايا الفردية...)).

رحم الله الاستاذ فهمي المدرس ورحم الله الدكتور ناجي الاصيل، فقد كانا بحق صورة حية لما ينبغي ان يكون عليه المثقف الوطني الاصيل وقمين بنا ان ننقل هذه الصورة ونسلط عليها الاضواء لتكون قدوة وانموذجا لشبابنا اليوم.