ذكريات مع المصور جان وزوجته

ذكريات مع المصور جان وزوجته

د . كمال السامرائي

ــ انا يا دكتور كمال زوجة المصور (جان) صاحب استوديو بابل للتصوير ، وهو يحتاج الى عملية لرفع حصى من كيس مرارته ، وقد عرفنا من الدكتور معد سلمان انكم كنتم مصابين بمثل حالته وعالجتموها في الاردن ، فحبذا لو سمحتم ان نعرف منكم تفاصيل هذه العملية .

فأجبتها:

ــ انا مستعد للاجابة عن كل إستعلام تطلبونه مني بهذا الموضوع .

ــ هل من الممكن ان تشرفوا بيتنا اذا كنتم تتضايقون من زيارتنا لبيتكم ؟

ــ على العكس يا مدام ، انه اكثر راحة لي لو تشرفون بيتي ، وانا في الحقيقة لا أستطيع سياقة سيارتي الى بيتكم حتى لو كان قريبا من بيتي .

فقالت:

ــ يشرفنا ان نزوركم ، ولكن متى ان سمحتم لنا بالزيارة ؟

فقلت لها:

ــ متى تشائين يا مدام ، فانا في اكثر ايام الاسبوع في بيتي .

فقالت لي:

ــ هذا اليوم مثلا ؟

ــ نعم في هذا اليوم وبكل سرور ، فهل تعرفون عنوان بيتي ؟

ــ عرفناه من الدكتور معد ، وهو صديق زوجي .

وشكرتني واغلقت المخابرة . ولم يصعب علي ان اقدر من نطق هذه السيدة عمرها بشكل تقريبي ، فهي في تقديري في الاربعين سنة ، كما عرفت من لهجتها انها ارمنية نبيهة باحتمال كبير. وكنت اسمع باستوديو بابل ، ولكني لم ار المصور جان وقدرت انه لابد ان يكون بعمر يقارب عمري .

وفي تمام الساعة الحادية عشر رنّ جرس باب بيتي ، ولم اكن في انتظار احد ليزورني في هذ الوقت سوى السيدة التي كلمتني تلفونيا . فتحت باب بيتي فأذا هي عليه ورجل يكبرها عمرا بكثير ، فاستقبلتهما بترحاب فيه قدر من التساؤل عن هوية هذا الرجل الذي كان اكبر من ان يكون زوجها ، فهل أخطأت حين كلمتني تلفونيا ،أم ان هذا الرجل هو ابوها ، او هو غير زوجها أقلا . فقد كان أشيبا يتجاوز عمره الثمانين ، بطيء الحركة ، ولكنه كان ألمعيا وذو جاه غابر وعز زائل ، لمسته من أدبه الجم وحسن تصرفه مع المرأة التي تصحبه ، ولاحظت يقرب رأسه مني حين أتكلم وهو يصيخ اليّ ، فعرفت انه ضعيف السمع .وبادرت تلك االسيدة بعد قليل تقول:

ــ جئناك يادكتور لنستعلم منك عن امور طبية كثيرة ، أبدأها بالاول وهو الذي يخص زوجي (ومدت يدها تشير الى الرجل الذي يصحبها) لنعرف منكم ما يلزمنا لأجراء عملية رفع كيس المرارة في عمان .

فقلت لنفسي باستغراب ، اذن هذا الرجل هو زوجها ، ولا أظنها أدركت استغرابي . وشرعت اطيل النظر الى وجهها حينذاك ، فاذا هو اكثر اشراقا بسمات الشباب مما رأيته في أول المقابلة ، وقد يكون ذلك حين وقفت على الفرق بين عمرها وعمر هذا الرجل الذي يصحبها . وهكذا تفعل المقارنة بين الأضداد ، فتضاعف في إظهار الفروق في ما بين طرفي المقارنة ، وداومت المدام تقول:

ــ مسيو جان يشكو منذ سنتين من آلام مبرحة من حصى في كيس مرارته ، وهو يرغب ان يعالج حالته في عمان . اقصد بلا عملية شق وخياطة .

فقلت لها:

ــ نعم ،هذا هو ما أقصده ، بعملية الناظور .

ثم سألتني:

ــ أليس في بغداد من يمارس هذه الطريقة ؟

فأجبتها:

ــ ان هذه الطريقة لم تمارس بعد في بغداد .

ثم استطردت تقول:

ــ لعلمك يا دكتور ان مسيو جان مصاب بضغط الدم ، كما اصيب مرتين بالذبحة القلبية ، كذلك أجريت له عمليتان في البروستات .

وكان مسيو جان يراقب زوجته وهي تتكلم ، ويهز رأسه احيانا يؤيد ما تقوله لي .

قلت لها:

ــ لا أظن الجراح الاردني يشرع بالعملية قبل ان يستعلم ما في تاريخ مسيو جان من حالات مرضية ، وقبل إجراء العملية بعض الفحوص السريرية والمختبرية لضمان نجاح العملية باالقدر الذي يستطيعه .

ثم سألتني:

ــ وما هي درجة الخطورة في هذه العملية ؟

فأجبتها:

ــ في كل عملية جراحية خطورة بدرجة ما ، وعملية رفع كيس المرار بالناظور بأي حال لا خطورة فيها بقدر ما في عملية الشق التقليدية .

ثم نطق مسيو جان وقال كالمعترض:

ــ ان (فرانكو) بأسبانيا اجريت له عملية رفع المرار وهو بعمر الثمانين .

واعرف ان فرانكو توفي في أيام هذه العملية وباحتمال كبير كان مسيو جان يعرف ذلك ، ولكنه أغفل ذكره ليدعم نفسيته على إجراء العملية ، اما انا فقلت له:

ــ ان عملية فرانكو لم تكن بالناظور بل بالطريقة التقليدية .

وكنت أشير بذلك الى انه ان لم يكن يعرف ان فرانكو قد توفي بسبب العملية فأنه قد لا يموت لو أن عمليته كانت بالناظور .

وسألتني زوجة مسيو جان:

ــ وكم تكلف هذه العملية في الاردن ؟

فأجبتها:

ــ لست متأكدا من ذلك ، وقد تكون كلفة العملية وحدها الف دينار اردني .

فقالت ، وهي توجه كلامها لزوجها:

ــ العملية وأجور المستشفى والأقامة قد تكلف مليون دينار عراقي .

ورأيت مسيو جان بما يبدو عليه الرضى والقبول بدفع هذا المبلغ الضخم .

وبعد سكوت لم يطل كثيرا قالت:

ــ نأتي الى موضوعي يا دكتور ، نحن تزوجنا قبل خمسة أشهر ، وانا الآن بعمر الواحد والأربعين ، واتشوق كثيرا ان انجب لمسيو جان .

فقلت لها مجاملا:

ــ انا قدرتك بسن الاربعين ، وخطأي في هذا التقدير يسير .

ــ لا غرابة فأنك طبيب نسائي ، ومسيو جان بضعف عمري ولو عرفت حقيقة شخصيته وعظمته في فن التصوير لما أستغربت مني ان أتزوجه .. توفيت زوجته الاولى قبل ثلاث سنوات ، وانا اعمل في محله بالتصوير منذ سنوات ، اعني قبل وفاة زوجته ، وعرفته في خلال ذلك معرفة موثقة لما أستغربت من زواجي منه ، وليس من المروءة ان لا يكون له خلفا يحمل أسمه .

فسألتها:

ــ ألم يتزوج قبلا .

ــ بلا ، وله بنتان ، وقد تزوجتا ، فهما الآن مع اهل زوجيهما واولادهما من صلبهما لا من صلبه .

ــ هذا صحيح الى حد كبير .

وأستمرت زوجته تقول:

ــ اردت بعد تفكير طويل ان ازيح عنه كابوس الترمل ، وانا الذي حرضته بطريقتي الخاصة ان يطلبني الى الزواج منه ، فالزوجة هي الوحيدة التي تستطيع مداراة وسياسة زوجها ولا غيرها من بناته او اي من اهل بيته ، فتزوجنا برغبة متعادلة من كلينا ، وانا الآن سعيدة بحياتي معه ، واكونا كثر سعادة لو اعرف ما يسعده اكثر فاكثر .

وعدت بعد الذي سمعته من زوجته انظر الى وجهها مجددا ، فلم ار فيه ولا في جسمها الا ما يحبه الرجل في المرأة ، فسحنتها ملساء ، وبضة ، وعيونها جهراء ناطقة ، كما لم تبدو لي انها قاست يوما ما من ضنى او وجد فاشل ، فأعجبت بها اي اعجاب ورأيتها المرأة التي تستحق ان تكون زوجة فيسعد بها رجل من شقاة العالمين .

ونبهني زوجها يسألني:

ــ تعرف بهجت الأثري ؟

وأستغربت من هذا السؤال ، فأي منهما في عالم غيرعالم الآخر !.

عن مذكرات الدكتور السامرائي (حديث الثمانين ، سيرة وذكريات) الذي سيصدر قريبا .