كيف حصلت على الماجستير في جامعة القاهرة؟

كيف حصلت على الماجستير في جامعة القاهرة؟

د . عماد عبد السلام رؤوف

وسافرت إلى القاهرة بعدهاء حيث أقمت في أحد فنادقها في شارع سليمان باشا في وسط ابلك ثم أني أخذت بمراجعة دار الوثائق للسماح لي بالدخول اليها والإطلاع على ما إحتاجه من وثائقهاء وبعد أن ملأت إستمارة الدخول. طلب مني أن أنتظر وصول الهوية الخاصة بالدخول بعد مصادقة دائرة الأمن في الوزارة" وبعد نحو ثلاثة اشهر من الإنتظار وتكرار المراجعة نفد صبري, وأخبرت مدير الدار

بأني يئست تماماً، وبعد إلحاح مني وافق على أن أتابع بنفسي الدائرة الأمنية عسى أن يفيد ذلك في الحصول على الموافقة المنشودة، ولما كانت مؤسسات الوزارة تتوزع في عدد من المباني في أنحاء متفرقة في القاهرة، صار علي أن أذهب اليها جميعاً، وبعد لأي اخبرني احدهم بمكان وجودها في قصر متروك في حي الزمالك على النيل" يسمى قصر عائشة فهمي, وبالفعل قصدت القصر الكبير الذي صار يشبه بعد أن أخلته الوزارة قصراً للأشباح، وتأكدت من وجود الدائرة الأمنية في غرفة تقع على سطح القصرء وحينما صعدت اليها وجدت ضابطي امن مهذبين بملابس مدنية فأخبرتهما بحاجتي إلى الموافقة لأكمل فصول رسالتي. فعاملاني بلطف. وسألاني عدة اسئلة كان واضحاً منها انهما أرادا معرفة هويتي السياسية، فأجبتهما على نحو أقنعهما بأن لا صلة لي بالسياسة من قريب او بعيدء وكان ذلك صحيحاً تماماًء وني اليوم التالي أخذت الموافقة.

وقصدت دار الوثائق فرحا مسروراً. وكنت أول عراقي يدخلها كما قيل لي. دخلت إلى قاعة المطالعة، وطلبت الملفات الخاصة بما يعرف (بر الشام) فإذا بها عدد كبير من الملفات تضم عشرات الألوف أو اكثر من الوثائق الأصلية التي كانت القيادة المصرية ترسل بها إلى محمد علي في القاهرة في اثناء الحكم المصري في الشام في الثلث الأول من القرن التاسع عشرء وصرت أقصد الدار في كل يوم على مدى سنة كاملة أتصفح فيها تلك الوثائق واستنسخ بيدي ما أراه مهما منهاء ومن الطريف أن قاعة المطالعة كانت نفسها غرفة نوم محمد علي نفسه. مما زاد من إحساسي بمتعة قراءة وثائقه. وصادف أني تعرفت على رجل

خليجي كان يعمل في جمع الوثائق المصرية المتعلقة بمنطقة الخليج دنا إتفاقاً فحواه أن أطلعه على الوثائق التى تهمه؛ ويطلعني هو بالمقابل على الوثائق التى تخصني إذا ما مرت عليه في ملفات الخليج التي كان يتصفحها، وهكذا أفاد كل منا كما لدى الآخر، واجتمعت لدي مجموعة مهمة من الوثائق الخاصة بالعراق. وبخاصة ولاية الموصل في اثناء ولاية آخر ولاة الجليليين وهو يحبى باشا الجليلي. وكان ذلك الباحث هو علي التاجر اخو مهدي التاجر الذي تعرف عليه والدي في أثناء اقامته في دبي في متتصف القرن

الماضي موفداً من مجلس الوزراء العراقي لتأسيس أول بلدية في دبي سنة 1956, وقد عينه والدي في هذه البلدية براتب محدود من (الروبيات) لكنه أصبح فيما بعد سفيراً لدولة الإمارات في بريطانياء ومليونيرا كبيراً.

سياسي رغم أنفه !

وأخيراً أنجزت الرسالة والحقت بها مجموعة من الوثائق غير المنشورة فبلغت اكثر من سبعمائة صفحة من القطع الكبير وشرعت أعرضها فصلا فصلاً على المشرف الدكتور حراز وكان يبدي إعجابه الشديد بما يقرأه وحينما أتم قراءتها طبعت منها عدداً من النسخ. وصار علي تقديمها إلى عضوي لجنة المناقشة وهما الدكتور محمد أنيس أستاذ التاريخ الحديث في آداب القاهرة والدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة عين شمس، وصادف أني لما قصدت الدكتور أنيس في مكتبه في جامعة القاهرة وأنا أحمل اليه رسالتي، كانت القاهرة تلتهب بثورة الشباب على الرئيس الراحل أنور السادات مطالين بالحرب من أجل استرداد سينا وعودة المهجرين من مدن القناة الى مدنهم، وكان معظم المظاهرات تتجمع في الجيزة حيث منزل السادات وحيث جامعة القاهرة. ولما بلغت ميدان نهضة مصر المقابل للجامعة وجدت

عدداً كبيرًا من قوات الأمن المركزي بهراواتهم ودروعهم البلاستيكية يحتلون الميدان ويحيط بهم عدد أكبر من الشبان المتظاهرين فاضطررت الى أن أقف وراء صفوفهم لأرى ما يحدث ثم لأجد طريقي إلى بوابة الجامعة، وما هي الا دقائق حتى هجم جنود الأمن المركزي على الطلبة الذين أقف في آخر صفوفهم.

فركض الجميع منسحبين على عجل، وبالطبع اضطررت إلى الجري مثلهم.فبدوت. بالنسبة لمن كان يشهد ذلك المشهد من ورائنا وكأني انا الذي كنت أتقدمهم، مع أني كنت فبل دقائق أقف في آخرهم. كنت أخشى ما أخشاه أن يرصدني أحد رجال الأمن فيظن أننى مشارك في تلك المظاهرة، وكان سهلا في ظل تلك الظروف المتوترة أن يجري استدعائي حينذاك إلى دائرة الأمن لأنذر بمغادرة الأراضي المصرية خلال 48 ساعة، فتضيع علي فرصة مناقشة الرسالة نهائيا، وأعود خائباً إلى وطني صفر الدين. ولم ينقذني من الموقف الحرج غير أني وجدت مدرسة ابتدائية في الطريق، فدخلت فيها واتمحذت من حجرة حارس المدرسة مخبأ لي، وبعد قليل حضر مدير المدرسة وطلب من أن انتقل إلى حجرة في آخرها حيث (الجماعة بتوعي) على حد تعبيره. وأدركت أنه يظنني قائداً لهؤلاء. فلما ذهبت وجدت عدداً من المتظاهرين،واضطررت أن ألزم الصمت خشية من أن تفضحي لهجي بأني لست مصرياًء فيشك في والغريب أنهم حينما وجدوني صامتاً، تخيلوا أني رجل أمن اندسست بينهم، وهكذا عدني البعض زعيماً، بينما عدني الآخرون جاسوساً على المتظاهرين، ولبئت في مكاني حتى خلا شارع الجيزة تمامأ، فمضيت في طريق جانبي حتى وصلت النيل ومن هناك ركبت زورقاً فاراً بنفسي إلى الجانب الآخر، وأثار تصرفي هذا دهشة المدير وأذكر انه قال لي مشفقاً: يا ابني ما دمت (خوافاً) إلى هذا الحد. فمالك ومال قيادة المظاهرات؟: قلت له: هناك مسرحية مشهورة لموليير اسمها (طبيب رغم انفه)،وأنا الآن زعيم رغم انفي!

مناقشة

ثم أني علمت أن الدكتور أنيس إنضم إلى المضربين، وانتقل إلى المركزالذي أسسه في دار الكتب، وهو (مركز وثائق مصر المعاصر) فقصدته هناك, وعرضت عليه رسالتي طالباً منه أن يحدد موعد المناقشة. وفوجئت بأنه يخبرني بأنه لن يزاول عمله لأنه متضامن مع الطلبة المضربين، وأخيراً عرضت عليه حلاً

وسطأء وهو أن تجرى المناقشة في قسم الآثار الذي كان يشغل مبنى قصر قديم خارج مباني الجامعة، وهكذا جرى الأمر فعلاً. وكانت ملاحظات اللجنة خفيفة بل طفيفة" وبعد المناقشة قررت اللجنة منحى درجة الماجستير بتقدير جيد جدا، والحمد للهء ومع أني تعمدت أن لا أدعو إِلَّا القليل من الأصدقاء. ألا أن قاعة المناقشة امتلأت بالحاضرين.

وفي خلال تلك الأيام التي تلت المناقشة أفدت من الوقت المتبقي،فسجلت موضوع الدكتوراه وقد اخترت عنوانها كالآني (الحياة الإجتماعية في العراق في عهد المماليك 1749- 1831م) وكان موضوعها جديداً تماماً. وعدت إلى بغداد لأشرع مجمع مادتها العلمية.

وكنت أقضي ما يتبقى من الوقت في مكتبة جامعة القاهرة" وقد اكتشفت أن فيها مجموعة من المخطوطات النفيسة من مقتنيات طبيب عيون نمساوي هو ماكس مايرهوف. وأعجبت بمخطوطة منها غير مطبوعة في علم الأحجار الكريمة بعنوان (كتاب الجواهر وصفاتها) ليوحنا بن ماسويه. المتوفى سنة 243ه،فنسختها بيدي، وعلمت بوجود نسخة اخرى منها في دار الكتب. فقابلتها عليها. وصممت أن أحققها إذا ما توفرت الفرصة.

في القاهرة

كنت أشعر أن وجودي في القاهرة فرصة كبيرة اتبحت لي وعلي أن اغتنمها، ولذلك فإن بامكاني القول اليوم أني لم أكن أعيش فيها وحسب، أو أني كنت أدرس فيها، وإنما كنت (أدرسها) هي في كل يوم؛ أجوب على قدمي (حواريها) وشوارعها وأسواقها القديمة وأقارن بين ما كانت تبدو في الخرائط القديمة وبين واقعها الحالي وأتفحص معالمها الباقية لاسيما من عصر محمد علي، ومن عهود أعقابه من أسرته، ومنهم الخديوي اسماعيل الذي كانت جامعة القاهرة" وحديقتا (الأورمان) و(الحيوان) ذات يوم جزءاً من حدائق

قصره، حتى أني فرحت مرة حينما اكتشفت عموداً رخامياً بديعاً يقف وحيداً منفرداً في موضع ناء من حديقة الحيوان في الجيزة، فقد كان هذا العمود هو كل ما تبقى من قصره الداثر. وصرت أتردد إلى دار الأوبرا بين حين وآخر امتع احساسي بالعصر الذي بنيت فيه؛ والمناسبة التي دعت الى تأسيسها، وكم كنت

حزيناً حينما قصدت ميدانها في صباح احد الأيام، فهالنى منظر ألسنة اللهيب وهي تتصاعد من قبتها الفخمة وسيارات الإطفاء تصب مياهها فيها صبأ ، وسألت إحدى السيدات الواقفات وهن يشخصن بأبصارهن إلى المشهد المؤلم عن جلية ما يجري فأجابت وهي تجهش بالبكاء: احترقت دار الأوبرا، وكان المشهد متزجا بمشاعر الجمهور مؤلما ، لقد كان الجميع يرون في حريق هذا المبنى حريقا لجزء عزيز من تاريخ مصر !

حفلة ام كلثوم

وقدر لي في شتاء سنة 1972 أن أحضر في القاعة الكبرى لجامعة القاهرة حفلة للسيدة ام كلثومء. أظن انها كانت آخر حفلاتها في مصر، وأذكر أن مستشرقاً امريكياً أعرفه كان يدرس في القاهرة ويسكن في نفس الفندق الذي كنت أسكن فيه اسمه (داستن)، سألني أن أصطحبه إلى هذه الحفلة، ولما أخذت تغنى سألنى عن عمرها، قلت أنها من مواليد القرن التاسع عشر! فإنها ولدت سنئة 1898 اي في عهد الخديوي عباس حلمي أيام كانت مصر جزءاً من الدولة العثمانية، فما كان منه إِلَّا أن ضحك متصوراً أني أمزح. والتفت عنيى ومضى مستغرقاً في مشاهدتها وسماعها وهي تغنى معبرة عن مشاعر الشباب الذين كانوا أمامها في غاية الطرب والنشوة .

عن مذكرات عماد عبد السلام رؤوف