د. سامي محمود إبراهيم
وجودنا على الأرض إرادة إلهية للفعل واعمال للفكر وبالتالي فإن العلم ينبغي له أن يكون حامي للإيمان لا مناقض له والحقيقة تكريس مادي للإيمان لا معارضة له، وصياغة الحياة بما يضمن إسعاد البشرية على الأرض هو فعل الإنسان، والعمل دومًا هو الحقيقة الأصدق والأكثر تجذرًا وبقاءً والأرسخ إيمانًا لأنها الأبقى والأقوى.
هذا الموقف الإنساني والمبدأ الإيماني تميزت به الفلسفة المغربية فقد عملت على شرح وتفسير كتب أرسطو العقلية، والاهتمام بطروحات أفلاطون السياسية والمثالية، والتوفيق بين تدبير الدين وتدبير الفلسفة على أن الشرع منفصل عن الحكمة، لكن هدفهما واحد ألا وهو استخدام العقل من أجل إدراك الحقيقة، حقيقة الصانع الحكيم المدبر، وحقيقة المصنوعات والموجودات التي خلقها رب العالمين.
أما فلسفة سقراط الإنسانية وبعدها الوجداني الحي، فقد ظلت بمثابة الضمير الواعي الذي يهدف إلى الإصلاح والخير والعدالة. إذ يعد سقراط مثال الفيلسوف الذي مارس الفلسفة والسياسة، فكانت النهاية أن حكم عليه بالإعدام ظلمًا حتى الموت. كانت نهاية سقراط لحظة توتر وقلق بين الفلسفة والحكم. وإذا كانت تهمة سقراط، حسب قانون المدينة الفاسدة، تتمثل في إفساد عقول الشباب، والتجاوز على الآلهة؛ فبعضهم يرى أن تهمته الحقيقية هي التعبير عن انسانية مفرطة وغيرة شديدة على مصلحة المدينة. ومن مظاهر تلك الغيرة، الحذر من نمط الحكم السياسي الديمقراطي. وهو حذر سيتكرر صداه في فكر أفلاطون وأرسطو. الأول، اعتبر الديمقراطية انحراف للدولة الفاضلة. أما الثاني فيرى أن الديمقراطية نظام يقوم على الحرية، ويطمح إلى تحقيق حكم الأغلبية أو حكم الشعب. لكن حكم الأغلبية، في غياب المعرفة، لا يمكن أن يعطي سوى الظلم الناتج عن الجهل. وهذا ما عبر عنه أفلاطون حين قال: كيف يمكن تحقيق العدالة في غياب إدراك حقيقي لماهية العدالة؟! وهذا الرفض لنظام الحكم الديمقراطي ليس بسبب الأسس والغايات التي يرومها هذا النظام؛ بقدر ما يرجع ذلك الخوف إلى جهل الأغلبية الحاكمة، وهيمنة الطبقة المتواضعة والبسيطة على السلطة. فليس من الصعب اختراق الديمقراطية في غياب تعليم الجمهور وإشاعة المعرفة، ويستحيل بناء نظام ديمقراطي قائم على الاعتقاد بصحة آراء الأغلبية مقارنة مع الأقلية، إذا لم يتم تعليم الشعب كيف يفكر.
يقول محمد عابد الجابري: إن الخطاب الباجي هو من أشد أنواع الخطاب الفلسفي استعصاء على هذا الفصل، فاختياره الإبستمولوجي هو نفسه المضمون الإيديولوجي لخطابه. وغير خفي أن المعالجة الباجية لإشكاليات العقل والتعقل تشي بهذا المضمون الإيديولوجي الثاوي في ثنايا الخطاب. وكأي إيديولوجية مضادة كان للخطاب الباجي وقعه المزعج بالنسبة إلى السائد الاجتماعي والسياسي والإيديولوجي، الذي وجد فيه قولاً محرجًا وجبت مقاومته، فحشد لذلك سائر الأسلحة بدءًا بالتكفير وانتهاء بدس السم لاغتيال عقل متمرد.
وابن باجة كسقراط مارس السياسة فعلاً وقولاً، وقد عايش لحظات انهيار حكم الطوائف في الأندلس. وعاش توترًا وقلقًا نفسيًا وفكريًا انتهى بقتله مسمومًا. لم يكن ابن باجة ضحية ظلم الأغلبية الجاهلة فحسب، بل كان أيضًا ضحية تصارع سلطتين: السلطة السياسية والسلطة الدينية. سلطتان غايتهما في أغلب الحالات نفعية، كانتا تتبادلان المصالح، لتأثيرهما معًا في طبقة الأغلبية أو الجماهير، خصوصًا في أوقات الحرب.
في هذا الصدد نجد أن ابن باجة مثل سقراط، لم ينسحب من المعركة الفكرية، بل انخرط بكل قوة في هموم الأمة والمدينة والمجتمع. لكن كيف يتعايش الفيلسوف مع محيط ليس للعقل حكم فيه ولا وجود؟ ليس أمام الفيلسوف إلا البحث عن أنموذج فلسفي حدث في التاريخ وهو أمر لم يقع على الواقع بل كان تنظيرًا يوتوبيًا وحسب، بمعنى الفرار إلى تصور مدينة الفاضلة كما فعل أفلاطون والفارابي.
فلم يكن ابن باجة، ليتجاهل التجارب السابقة عليه سواء في بعدها التاريخي أو الفلسفي؛ فكان اختياره على الرغم من مشائيته الأرسطية المؤمنة بفكرة أن الإنسان حيوان اجتماعي بالطبع، التوحد، والوحدانية وهو الموقف الذي جسده في كتابه "تدبير المتوحد".
كما رفض ابن باجة المنهج الصوفي في إدراك الحقيقة كما عند ابن سينا، واعتبر العقل أو البرهان هو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى امتلاك الحقيقة اليقينية، حقيقة معرفة الله تعالى. ومما تجدر الإشارة إليه أنه كما كان ابن مسرة يمثل في المغرب اتجاهًا يميل إلى التصوف وإلى الإدراك الذوقي لحقائق الوحي والألوهية وتحقيق السعادة واللذة عن طريق المشاهدة الصوفية، نجد أن ابن باجة يرفض هذا الاتجاه، وينتقد موقف الغزالي في المشرق الذي قال بأن العالم العقلي لا ينكشف للإنسان إلا بالخلوة، فيرى الأنوار الإلهية، ويلتذ بها لذة كبيرة، فهو يرى: إن الغزالي حسب الأمر هينًا حينًا ظن أن السعادة إنما تحصل للمرء عن طريق امتلاكه للحقيقة بنور يقذفه الله في القلب. بل الحق أن النظر العقلي الخالص الذي لا تشوبه لذة حسية هو وحده الموصول إلى مشاهدة الله، أما المعرفة الصوفية بما تنطوي عليه من صور حسية فإنها تكون عائقًا عن الوصول إلى معرفة الله إذ هي تحجب وجه الحقيقة.
فالمعرفة العقلية هي وحدها التي تقود الإنسان إلى معرفة نفسه بنفسه ومعرفة العقل الفعال، وقد تأثر ابن رشد بموقفه هذا وقبله ابن طفيل.
وفي تدبير المتوحد يبين ابن باجة معالم الطريق الموصول إلى العقل الفعال. والتدبير كلمة تدل على ترتيب أفعال نحو غاية مقصودة، وليست هذه الغاية سوى الاتحاد بالعقل الفعال، ولهذا فإن الطريق الذي يرسمه الكتاب هو المنهج الذي يسير عليه الإنسان حتى يبلغ هذه الغاية المنشودة.
ولكن هذا المنهج ليس منهجًا صوفيًا يستخدم فيه المريد أسلوب المجاهدة والتطهير، بل هو تدبير الأعمال بالعقل، واستخدام الرؤية، ولا يقدر على هذا غير الإنسان.
كما يميز ابن باجة بشكل واضح بين الإنسان المادي أو الجسماني الملموس الملزم بالعيش وفق أسس الزمان والمكان المعاشين ولذا فان ابن باجه أخذ من المدينة الفاضلة فكرتها وغايرها بقوله بأن بإمكان الجسد المحسوس أن يعيش قانعًا حتى في المدينة الفاسدة وأن يلتزم بقوانينها وشروطها كما أن بإمكان الروحاني الرافض لفساد المدينة والذي يفتقد المدينة الفاضلة أن ينتقل للعيش بالصور الروحانية وصولاً إلى العقل الفعال، أما كتاب "حي ابن يقظان" لابن طفيل فيقول بوضوح حاد أن المعرفة مكتسبة وهي لا تولد مع الإنسان وأن المعرفة تأتي من المحسوسات وهي في الوقت ذاته وسيلة الانتقال من الذات الأنا إلى الذات الآخر ومن العزلة إلى المشاركة وصياغة الذات المجتمعية، وبالتالي فإن ما قاله فوكو عن تدبير المتوحد وحي بن يقظان بأنهما جاءا للإجابة عن سؤال: كيف نعيش بشكل جيد في مجتمع لا يزال ناقصًا، وكيف نحكم العقل في مجتمع جاهل؟ هو قول صحيح جدًا ويعبر عن واقع.
إن الإنسان المتوحد عند ابن باجة هو الفيلسوف الحكيم، الذي يبحث عن سعادته الذاتية، في المدن الفاسدة التي لا تعرف إلا الشقاء. إنّه صاحب رأي صادق في مدينة ضالة. لذلك، فهو غريب في وطنه، غربة الرأي السديد الصائب وسط الجماعة الجاهلة والفاسدة. إنها غربة فكرية، لا علاقة لها بالبعد الاجتماعي ولا السياسي. وداخل هذه الغربة، يدبر المتوحد حياته الفردية، ليجنبها آفات ظلم الجماعة.
إلى هذا الحد ستكون مهمة المتوحد ليست هينة، فبفعل انتشار الفساد في المدن فإنه يكون غريبًا في بلده بعيدًا عن أهله وأصدقائه، إنّه مثقف معزول ومنعزل في علاقته بالسائد، فالمدينة الجاهلة الناقصة غارقة في أزماتها، غير مدركة للهلاك المتربص بها، معرضة عن الفيلسوف ومتعلقة بأهداب المتصوفة والمتكلمين الجهلة، الأحياء منهم والأموات، إنها ضحية تقدس جلادها، متنكرة لمن يطلب خلاصها، وتذكرنا الصورة التي يرسمها ابن باجة للمتوحد في غربته بصورة أخرى تطفح بالملامح ذاتها في الإشارات الإلهية للتوحيدي، فـالغريب من هو في غربته غريب. هو من إن رأيته لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه، الغريب من إن حضر كان غائبًا، وإن غاب كان حاضرًا، وأغرب الغرباء من صار غريبًا في وطنه، فمن حوله لا يدرك بيسر مراميه وأهدافه، فالناس واقعون تحت وطأة العادة تحركهم الرغبات والأهواء، في حين لا يخضع المتوحد لسلطة غير سلطة عقله، لذلك فإنه يسمو بفكره عن المدينة التي يعيش فيها، ويهاجر عقليًا إلى مدينة أخرى متصورة، تكون بديلاً عنها، وفي قطيعة كلية مع شرورها ومساوئها، فالعقل حصن يأوي الفيلسوف إليه، والمدينة الكاملة طوبى جميلة تراوده، إنها مدينة منشودة، إذا ما قيض لها التأسيس ستكون خالية من الكذب والزيف والشر وكل ما يفقد الإنسان إنسانيته، فتلك هي السمات الدالة عليها، إذ بين أن المدينة الفاضلة الكاملة قد أعطي فيها كل إنسان أفضل ما هو معد نحوه، وأن آراءها كلها صادقة، وأنه لا رأي كاذب فيها، وأن أعمالها هي الفاضلة بالإطلاق.
ويبدو واضحًا هنا أن ابن باجة يوجّه نقدًا لاذعًا للحياة الاجتماعية السياسية السائدة في عصره، أي إننا أمام معالجة نقدية لنمط مجتمعيّ نتج عنه ظهور إنسان تخلو سلوكياته الأخلاقية من الفضيلة، وتفتقر أفكاره إلى الحكمة، تعطل العقل لديه فأضحى عدوًا لذاته قبل أن يكون عدوًا للآخرين.
والمسألة السياسية في رأي ابن باجة هي في جوهرها مسألة اجتماعية أخلاقية، ولحلها يجب الاعتناء بالأسرة والفرد، لذلك يركز اهتمامه على المنزل أو الأسرة، فمثلما هناك مدينة كاملة وأخرى ناقصة هناك منزل كامل وآخر ناقص ومريض، فـالمنازل ما عدا المنزل الفاضل مرضي وكلها منحرفة.
والدور الذي يعطيه للعقل يكشف عن الفعالية التي تمارسها الأفكار بالنسبة إليه في تنظيم شؤون الناس، فالفلسفة بما هي فعل عقلانيّ يمكن أن تقود إلى السعادة والكمال، وبالتالي بناء المدينة الكاملة وضمان وحدتها، أما الإيمانية الدينية سواء اتخذت شكل الكلام أو التصوف فإنها لا تؤدي لغير بقاء المدن على فسادها، لافتقارها إلى البرهنة العقلية وارتكازها على الخطابة والجدل، فمجال حركتها على مستوى النظر إعادة إنتاج النصوص القدسية دون إضافة تذكر، أما على مستوى العمل فإنها تبذر الفرقة والتباغض بين الناس، مما يؤدي إلى انقسام المدينة على نفسها في شكل ملل ومذاهب وطوائف متناحرة.
والقيمة الكبرى التي يمنحها ابن باجة للفعل الإنساني المستند إلى العقل والتعقل، تجعله يسمو بهذا الفعل إلى مستوي الفعل الإلهي، وهذا هو الفعل الذي يختص به المتوحد، إذ التفلسف كما قال سقراط هو التشبه بالآلهة قدر المستطاع.
وهذه الإشارة تدفع إلى القول بأن لحظة تدبير المتوحد لحظة مؤقتة في أفق العمل على إعادة بناء الوعي بالذات، والتأثير في وعي الآخر، وفي أفق تعميم العقل وانتشاره داخل أسوار المدينة. ذلك وحده، هو شرط تحقق الإنسانية، وذلك أيضًا هو شرط تجسيد الفعل الإنساني في الواقع. لكن، ما يسود في زمان ابن باجة ويفرض على الفيلسوف الوحدة والتوحد، غياب العقل، وهيمنة اللاعقل، أو بتعبير ابن باجة انحطاط الإنسانية إلى البهيمية.
لذلك يرى ابن باجة أن الفعل البهيمي هو الذي يتقدمه في النفس الانفعال النفساني فقط كالغضب أو الخوف، والإنسان هو الذي يتقدمه أمر يوجب عند فاعله الفكر.
وبناءً على ما تقدم لم يكتف ابن باجه بتمجيد العقل بل إلى تقديسه، فالمعرفة الصحيحة، والمعرفة المطلقة، والسعادة والأخلاق، كلها شؤون مبنية على العقل، كما أن الإنسان يستطيع بواسطة عقله أن يدرك كل شيء، من أدنى دركات الوجود المادية، إلى أعلى درجات الوجود الوجود الإلهي.
واعتبر أن العقل هو العنصر الحاسم في خيارات الإنسان واختياراته والمصدر الأساس الذي تتوقف عليه سعادته. فالنظام والترتيب في أفعال الإنسان إنما هو من العقل أو القوة الناطقة. وكل ما يوجد للإنسان بالطبع ويختص به من الأفعال فهو باختيار. وكل فعل يوجد للإنسان باختياره فلا يوجد لغيره من أنواع الأجسام.