عندما أصبح السياب صحفيا

عندما أصبح السياب صحفيا

رفعة عبد الرزاق محمد

في صيف عام 1944 انهى بدر شاكر السياب دراسته الثانوية في مدينته البصرة وهو في السابعة عشرة من عمره، وتقدم بطلب الى دار المعلمين العالية ببغداد فقبل فيها فانتقل الى بغداد وسرعان ما اخذ يتعرف على الحياة فيها فانخرط في حلقة صغيرة من الاصدقاء الذين كانوا يقضون وقتهم في المقهى بأحاديث عن الادب والسياسة.

وعرفه الادباء ممن كان يلتقي في مقهى الزهاوي او مقهى حسن عجمي، شابا جنوبيا عاشقا للادب والشعر الحديث على وجه الخصوص. وفي مقهى الزهاوي تعرف على ناجي العبيدي صاحب جريدة (الاتحاد)، واخذ ينشر في هذه الجريدة اولى قصائده كما يتذكر الاستاذ محمود العبطة في كتابه عن السياب ثم اخذ ينشر في جريدة (العصور) لصاحبها سليم طه التكريتي، وهي من الصحف القريبة من الحركة اليسارية. وقد نشر فيها قصيدته (في السوق القديم) عام 1948 وقد استوحاها من مشاهداته في سوق الرمادي القديم.

وكان بدر قد تخرج في دار المعلمين العالية في تلك السنة وعين مدرسا في ثانوية الرمادي. ولم يلبث في وظيفته هذه أشهرا قليلة حتى استغني عن خدماته بعد ان قضى اياما رهن الاعتقال بتهمة الاعتقال بتهمة الانتماء للحركة الشيوعية. والحقيقة ان هذه الفترة 1949ــ1951شهدت اوج نشاطه اليساري ثم اضطرابه السياسي كما يذكر كتاب سيرته. ومما له صلة بحديثنا نذكر ان الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري عينه محررا ومترجما في جريدته (الثبات) التي اصدرها اثر اغلاق جريدته الذائعة (الرأي العام). كما اتصل بصحف اخرى يمدها بما يطلب منه ترجمته مثل جريدة (العالم العربي) التي نشر فيها ترجماته لبعض قصائد الشاعر التركي الماركسي ناظم حكمت.

وفي عام 1950 تنادى عدد من السياسيين العراقيين المعارضين الى تأسيس حركة سياسية باسم (الجبهة الشعبية)، وكان لا بد لها من اصدار جريدة تناسب سياستها والاسماء السياسية الكبيرة التي تضمها (طه الهاشمي. الشبيبي. الباجه جي. البصام...)، فاصدرت جريدة بالاسم نفسه للحركة تلك، واضطلع الصحفي القدير عبد القادر البراك بسكرتارية تحريرها (1950 – 1952). وقد حدثني البراك عن ذلك ذاكرا انه تعرف على السياب في مقهى حسن عجمي واعجب بمقدرته الفائقة في الترجمة من الانكليزية، فاخذه الى المرحوم عبد الرزاق الشيخلي احد اركان الجبهة الشعبية وتم تعيينه في الجريدة. وتولى السياب ترجمة المقالات السياسية التي كانت تنشرها مجلتا (الايكونومست) و(النيو ستيتمان اند ينشن) وهما المجلتان اللتان كان مزاحم الباجه جي يجلبهما للجريدة. وقد حظيت ترجمة السياب بالمشرف الفعلي على الجريدة وهو الشيخ محمد رضا الشبيبي. ويجدر ذكره ان تلك المقالات المترجمة كانت تعبر عن المنهج الليبرالي المعتدل وهو غير النهج اليساري الذي كان السياب يترجمه قبل انخراطه في هيئة تحرير (الجبهة الشعبية).

ترك السياب العمل في جريدة (الدفاع) بعد ان حصل على وظيفة في مديرية الاموال المستوردة العامة، لكنه وجد متنفسا لشاعريته في مجلة (الآداب) الصادرة في بيروت، فاخذ ينشر فيها نتاجه الادبي بشكل منتظم، غير ان صلته بها بقيت الى النهاية، وكانت هذه المجلة (يومذاك!) معتدلة في توجهاتها الادبية الحديثة وتنادي بالادب الملتزم، وكانت هذه القضية محور الحديث لدى الحركة الادبية منذ منتصف الخمسينيات كما كان يكتب بعض ما يجده جديرا بالترجمة من الشعر المعاصر في العالم في شتى الصحف والمجلات. وقد جمع السياب قسما من هذه الترجمات ونشرها في سنة 1955 في كتاب (قصائد مختارة من الشعر العالمي الحديث).

وفي آواخر عام 1956 وجد السياب عملا مسائيا في جريدة قريبة من السلطة هي جريدة (الشعب) لصاحبها يحيى قاسم، وكانت هذه الجريدة معروفة آنذاك بميولها نحو الغرب فعمل محررا في ملحقها الأسبوعي الذي كان يصدر على هيئة مجلة اضافة الى كونه مترجما فيها. واستمر عمله في (الشعب) الى قيام ثورة تموز 1958. وتتنوع كتابات السياب في هذه المجلة فهي تتناول نقد القصصيين كعبد الملك نوري ومهدي عيسى الصقر، او تصور شيئا من ذكرياته او اجراء مقابلات صحفية او تتناول مشاهد الحياة اليومية. وكتب حوارات باللهجة العامية تحت عنوان (اسبوعيات ام أرزوقي) وهي مقالات لا تعدو الحديث النقدي الخفيف لبعض مظاهر المجتمع، وكان آخرها صدر قبل ثورة تموز بيومين.

وبعد ثورة 14 تموز 1958 عمل السياب في جريدة (الجمهورية) التي صدرت مؤيدة للنظام الجديد، غير انها كانت قريبة من الشخص الثاني في الثورة عبد السلام عارف. وما ان انتهى عهد هذه الجريدة بعد الانشقاق بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وبدأت مظاهر المرض الوبيل تبدوا على السياب في حركته وهزاله، حتى انتهى عهده بالعمل الصحفي، واكتفى بمراسلة بعض الصحف مثل جريدة الحرية التي كتب فيها فصولا عن تجربته السياسية قبل ثورة تموز.