د. إحسان فتحي
ان اغلب ما كتب عن خان الكابولي، والذي كان اكبر خان في بغداد على الاطلاق، حيث اقتربت مساحته الارضية من 9000 (تسعة الاف) متر مربع ويتألف من طابقين، أي حوالي نصف المساحة الارضية للمشهد الكاظمي! كان اما ناقصا جدا، او احتوى اخطاءا كثيرة.
ومن الغريب حقا، بل من المدهش، ان هذه البناية العملاقة في مقاييس مدينة بغداد، لا يعرف عنها الكثير...لايعرف من هو الشخص الافغاني الكابولي الذي شيدها، لانه حتما كان احد الشخصيات الافغانية الهامة والثرية جدا كي يتمكن من بناء خان بهذا الحجم، ولا يعرف حتى متى شيده، ولا كيف استطاع شراء هذه المساحة الهائلة على الحافة الجنوبية من مدينة الكاظمية، وعلى بعد 450 متر فقط من المشهد الكاظمي. فهل منح ارض مجانا؟ ام كانت من املاك الوقف؟ هل حصل على موافقة السلطات العثمانية؟ بالطبع نعم... ومتى؟ هل من المعقول ان يبقى اسمه مجهولا؟ ولماذا تجاهله مؤرخو المدينة (ارجو ان اكون مخطئا) ومن بينهم الشيخ راضي أل ياسين، والدكتور علي الوردي، والدكتور حسين محفوظ، وجعفر الخليلي، والسيد محمد امين الاسدي واخرون؟
لذا، قررت ان احاول فك بعض من اسراره واضافة معلومات تاريخية وهندسية معمارية مؤكدة مبنية على الصور القديمة والاستنتاجات التخطيطية الحضرية والخرائط وغيرها من الوسائل التي لم تكن متاحة للعديد من المؤرخين العراقين في القرن الماضي. توصلت الى ما يلي:
1. لم يكن خانا واحدا بل خانين اثنين ملتصقين وكأنهما بناية واحدة طولها حوالي 150 متر وعرضها 60 متر، ومحورها الطولي متعامد مع اتجاه القبلة. كما ان الساحة الكبيرة المقابلة لمدينة الكاظمية كانت ايضا موقوفة للخان واستعملت من قبل الجيشين البريطاني والعراقي للتدريب.
2. بلغت مساحة الخان الاكبر (الشمالي الغربي) 4800 متر مربع، وكان مخصصا لسكن الزواروعوائلهم.
3. بلغت مساحة الخان الاصغر (الجنوبي الشرقي) 4200 متر، وكان مخصصا للتجار وفيه دكاكين لعرض وبيع بضاعتهم المختلفة.
4. صمم وكأنه بيت بغدادي كبير، وليس كخان حضري اعتيادي، وكان يتكون من طابقين، العلوي فيه طارمة من الاعمدة (الدلكات) الخشبية ذات التيجان المقرنصة وغرف للزوار حول الحوشين الداخليين وسقوفها مزخرفة بالخشب والمرايا. اما الطابق الارضي فكان يتكون من غرف مرفوعة قليلا عن مستوى الارض ومخصصة للزوار ومشيدة بعقود اجرية (طابوق فرشي 30سم مربع) متينة، شبه دائرية وليست مدببة كما جرت العادة. ان الصورالفوتوغرافية المتوفرة تشير الى وجود سراديب نصفية (نيم سرداب) كما هو مألوف في البيوت البغدادية وذلك لتوفير مساحات باردة ومريحة للزوار اثناء فصل الصيف الحار. ويلاحظ وجود ثلاث فتحات مقوسة تحت كل غرفة للتهوية والاضاءة الطبيعية. هذا يعني ان كل غرفة في الطابق الارضي كان لها درج صغير يؤدي الى سرداب نصفي خاص بها.
5. بلغ طول بناية الخان الكلية 150 متر وهذا يساوي طول مبنى محطة بغداد العالمية تماما! الواجهة الجنوبية الغربية احتوت على 6 شناشيل خشبية في الطابق العلوي، ونستنتج ان الغرف التي كانت تحتوي على شناشيل بهذه الفخامة كانت مخصصة لكبارالزوار فهي اشبه بالاجنحة المتميزة في فنادقنا الحالية، ولا يوجد اي تفسير اخر لوجود مثل هذه الشناشيل الخشبية المكلفة. اما الوجهة الشمالية الشرقية التي تطل على المشهد الكاظمي والمدينة فانها صممت بشكل مختلف واحتوت على 64 عمود (دلك) خشبي بارز عن الجدار الخارجي (يذكرني بالعمارة الكربلائية التقليدية) في الطابق الارضي مما منح منظرهذه الواجهة العملاقة ايقاعا مهيبا حقا.
6. من الغريب حقا ان يحتوي الخان على برج في الركن الشمالي الغربي لان ابراج المراقبة كانت ضرورية فقط في الخانات البرية المعرضة لهجوم الاعداء او السراق وهي غير ضرورية علدة في داخل المدن.
7. استخدمته الحكومة العراقية كمقر لاول فوج عسكري في الجيش العراقي تحت اسم (فوج موسى الكاظم) في عام 1921، ويبدو ان الجيش شغله حتى منتصف الاربعينات (لم اعثر على تاريخ ترك المبنى بالضبط حتى الان).
8. من شيد هذا الخان العملاق؟
لم تتوفر لدي اية معلومات مؤكدة عن اسم الشخص الذي شيد هذا الخان سوى انه كان تاجرا افغانيا ثريا ومقيما في مدينة كربلاء. وبرأي انه من الممكن معرفة اسمه من خلال تتبع السجلات العقارية او المخطوطات المعاصرة، او حتى الوثائق العثمانية، وادعو الباحثين الكربلائيين الكرام خاصة في المساعدة في هذا الامر.
9. متى شيد هذا الخان؟
تبين الصور القديمة بان الخان شيد بعد مشروع ترامواي الكاظمية - الكرخ لان خط السكة الحديدية يمر امام المبنى مخترقا الكاظمية ويقف امام المحطة القريبة جدا من سوق الاسترابادي. بمعنى اخر، ان الخان شيد غرب سكة الحديد تفاديا لها، وبما ان خط الترامواي شيده الوالي مدحت باشا في 1870، ويظهرالخان في صور بدايات القرن العشرين، فان تاريخ تشييده ينحصر بين 1870 وحتى 1900. شخصيا، انا ارجح انه شيد خلال الفترة 1880-1890، وان الاسطوات البغداديين، وقد يكون قد شاركهم بعض الاسطوات الكربلائيين، هم الذين بنوه لان لمسات الطابع العراقي واضحة جدا في تفاصيله. واعتقد انه اذا عرف اسم مالكه الافغاني الكابولي وتواريخ ولادته ووفاته فسيسهل ذلك تحديد تاريخ بناء الخان.
10. هدم الخان كان خسارة كبيرة لتراث الكاظمية والعراق
لم تكن هناك أي ضرورة اطلاقا لهدم هذا الخان الهائل، بل على العكس فانه كان مفيدا جدا للجيش العراقي لفترة طويلة. ولم يكن وجوده يعترض شارعا جديدا مقترحا بل كان من المفروض ان تتم صيانته ويعاد تاهيله لكي يتخدم لاغراض عديدة تجارية وثقافية متنوعة تشكل اضافة نوعية لمدينة الكاظمية ويحافظ على ذاكرتها المعمارية والاجتماعية. ويبدو انه بعد وفاة المالك الاصلي استلم ادارته احد المتولين الذين لم يحسنوا رعاية هذا المبنى الهام، ولم تقم ادارة فوج موسى الكاظم باي اعمال صيانة له خلال فترة اشغاله، مما ادى حتما الى تدهور حالته الانشائية. ونحن نعلم بالحجة الشائعة لدى البلديات المحلية في العراق وهي:
" ان المبنى ايل للسقوط ويشكل خطرا اكيدا على سلامة المواطنين! "
ومن الطبيعي فان اي مبنى في العالم، مهما كان متينا في البداية، اذا ترك دون اي صيانة لمدة 60 سنة او اكثر فانه سيتدهور انشائيا لامحالة. وبما اننا شعب لايعرف ولا يعترف بشىء اسمه "صيانة" فان الاغلبية الساحقة من ابنيتنا وبيوتنا التراثية في جميع انحاء العراق، قد هدمت وزالت لانها اهملت لفترات طويلة.
هدمت بلدية الكاظمية الموقرة خان الكابولي الهائل في منتصف الخمسينات بحجة تدهور حالته الصحية وقسمت ارضه الكبيرة الى قطع صغيرة وزعتها على عدد من المواطنين المحظوظين. كان من الممكن، وبكل سهولة، ترميمه والحفاظ عليه كاحد اهم الخانات الحضرية في العراق. هذا الهدم العبثي والمؤلم هو نفس المصير الذي ينتظر ما تبقى من تراث الكاظمية الرائع، وتراث جميع مدن العراق!