الطيّب صالح السودان الذي يحلم به جسّده

الطيّب صالح السودان الذي يحلم به جسّده

بابكر عيسى أحمد

عندما ذهبت إليه ذلك الصباح كنت كثير التخوف، فمجلس الطيب صالح لا يخلو من الندماء والأصدقاء والمُحبين الذين لا ينقطع رنين هواتفهم، نسمات الصباح الباردة في ذلك اليوم من الشهر الثاني من العام الثاني من الألفية الثالثة، وأنا أدلف إلى – فندق الواحة – المكان الذي يحبه الطيب صالح طيب الله ثراه – أعطتني الأمل في أن أجلس لصاحب «موسم الهجرة إلى الشمال»

وأن أستمع إليه وأحاوره في قضايا عديدة خاصة أنه كان كثير التَرحال، حيث قضى سنواته الأخيرة مُتنقلًا بين الجامعات الأمريكية، يُحاضر ويُحاور ويتعلم من الآخرين ويقول إن قراءة التاريخ تستهويه تلك الأيام.

كان الحوار الأخير الذي أجريه مع الطيب صالح قبل رحيله عن دنيانا، والحديث معه يأتي عفويًا ومُتدفقًا وهو في أكثر الأحيان لا يريد أن يتحدث وعندما نجلس إليه يتدفق الحديث عذبًا وثريًا ونافعًا وشاملًا.. فهو مهموم بواقع الحال العربي ويرى أننا في أمسّ الحاجة لبذل مزيد من الجهد لمعرفة الآخرين وخاصة هناك في أمريكا حيث يرى أنها ليست شيئًا واحدًا وإنما هي عدة أشياء، ودعا عبر الحوار الذي استغرق زهاء الساعتين في غرفته المُطلة على الخليج العربي إلى إنشاء مراكز للدراسات الأمريكية في كل الجامعات العربية.

قال إنه ليس قلقًا على واقع الثقافة العربية، مُشيرًا إلي وجود مُبدعين، وحركة إبداع واسعة في العالم العربي وبلاد المهجر، وربط ازدهار الثقافة والإبداع بالأزمات التي تعيشها الأمة.

تحدث الطيب صالح بحب وأسى عن السودان الوطن الذي أحَبَّه وحلم به، وطن شاسع وكبير يتسع للجميع بلا بغضاء، ويحمل إمكانات غنية إذا أحسن استثمارها، وقال إن حنينه لوطنه لا ينقطع ودافع ارتباطه بتلك الأرض يقف شاهدًا في كل ما يكتب.

الطيب الكاتب والأديب السوداني الشامخ لم يكتب سوى أربع روايات هي: دومة ود حامد، وموسم الهجرة إلى الشمال، وعرس الزين، وبندر شاة بجزأيه: ضو البيت ومريود، ورغم هذه الندرة ظلت هذه الأعمال مسار جدل في حقل الرواية العربية الحديثة.

ولا تزال روايته موسم الهجرة إلى الشمال التي تُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة أو ما يزيد من أكثر أعماله شهرة ورواجًا واستقطابًا للنقاد والقراء على السواء.

تطاول بنا الحديث الذي نُشر على صفحتين بجريدة الراية عن المشهد الثقافي العربي وعن التحديات التي تُمثلها وسائل الإعلام الحديثة، ويرى أن هذه الوسائل يمكن أن تكون مُكملة للإنتاج الثقافي عمومًا.

وتحدث الطيب صالح بإسهاب عن دور اليونسكو في نشر الثقافة وتعميق الوعي، مُشيرًا إلى الفكرة الجيدة والمُستمرة كل سنة في اختيار عاصمة عربية عاصمة للثقافة، وقال إن تجربة «كتاب في جريدة» تجربة ناجحة، أن يكون هناك في وقت معين عدد من الصحف في كل الوطن العربي وهي صحف مختارة ومنها الراية في قطر يخرج منها ملحق برواية أو بشعر أو بمسرحية.

من الأشياء التي خرجت بها اليونسكو في عهد مُديرها السابق مايور أنه «ما دامت الحروب تنشأ في عقول البشر فلابد من إقامة حصون في عقول البشر».

عن طغيان الأفكار الفاجعة وملامح الوطن الذي يحلم به الطيب صالح قال إنه قد عبّر عن هذه الملامح في رواية «دومة ود حامد» وهي أول قصة له وأشعرته بأنه يمكن أن يكون كاتبًا، وأضاف: إنه لم يُغير رأيه فيها إلى اليوم، وخلاصتها: «أن الناس في البلد اختلفوا حول موقع للبابور ولا يعملوا طلمبة لسحب الماء من أجل مشروع زراعي، كما اختلفوا حول الضريح الذي يعود إلى أحد الأولياء وقالوا لازم يهدموا القبة.. في آخر الأمر قال الرجل الحكيم الذي يروي القصة «هل نسي هؤلاء الناس أن المكان يتسع لكل هذه الأشياء، للدومة وللضريح ومحطة الباخرة وطلمبة لسحب الماء من أجل مشروع زراعي، كما اختلفوا حول الضريح الذي يعود إلى أحد الأولياء وقالوا: «لازم يهدموا القبة».. البلد واسعة ورغم ذلك يأتي من يقول لك «لابد من كده وليس كده».

لقد بلغ بهم العنت والغرور حقيقة، حيث حاولوا أن يفرضوا على الناس أزياء ونحن من الله خلقنا شايفين النسوان يلبسو الثوب وهو شيء جميل والناس عرفونا بيهو .. قالوا الا دا ما بيغطي الجسد كله.. مشغولين بالمرأة أنها عار وأنها إبليس الشيطان بينما المشكلة في أن الذي ينظر إلى المرأة هو الشيطان وليس المرأة.

يضيف الطيب صالح في ذلك الحوار الأخير، هؤلاء الناس خربوا أشياء كويسة جدًا، وقتلوا ناس بدون وجه حق ودمروا معاهد عريقة مثل جامعة الخرطوم وخربوا السكة حديد وخربوا مشروع الجزيرة.. كل الأشياء التي يرتكز عليها المجتمع السوداني والتي تعطيه الثقة بالنفس وبالمستقبل دمروها.. أنا أسميهم «الأذكياء الأغبياء» وقالوا إن السودانيين تعودوا على أشياء وعندما ندمرها يشعرون بالحيرة ونعطيهم أشياء وحاجات جديدة، حتى إن سوق الخضار لم يسلم من التكسير.. عشان كده أنا قلت «من أين أتى هؤلاء الناس بل من هم هؤلاء الناس؟».

اختتم الطيب صالح -طيب الله ثراه- حواره معي بقوله إن ما نحتاجه حقيقة هو قفزات في الخيال هناك أشياء كثيرة قام بها هؤلاء الناس ولم تنفع وكان عليهم الاعتراف بذلك على طريقة أهلنا القدامى، وهذا لا يحتاج إلى فلسفة ولا إلى علم ولا أي شيء «ياخى الدرب ده دا ما نفع خليهوا نشوف غيرو» .. وما نحتاجه هو تغيير حقيقي في إدارة البلد والدنيا تغيرت كثيرًا وتقدمت ولم يعد الناس يقبلون ما يُملى عليهم وخصوصًا السودانيين.

ولا بد أيضًا من خلق مناخ جديد يحرك الدنيا، وحتى هناك تباين في الخطاب مرة يقولون «العايزنا يجينا» ومرة ثانية يقولوا عايزين نستفيد من كل الخبرات والكفاءات.. رحم الله الطيب صالح فقد كان ثاقب النظر وصائب البصير.

غن جريدة الراية القطرية