سلمى الخضرا الجيوسي وضعت الأدب العربي على خارطة العالم

سلمى الخضرا الجيوسي وضعت الأدب العربي على خارطة العالم

فخري صالح

في عام 1948، عندما وقعت الكارثة وتوزَّع الشعب الفلسطيني إلى المنافي، كانت سلمى الخضرا الجيوسي (1928- 2023)، المولودة في مدينة صفد، في العشرين من عمرها. وقد عاش أهلها قبل النكبة في مدينة عكا، ودرست في كلية شميدت الألمانية في مدينة القدس،

لترتحل بعد زواجها من دبلوماسي أردني إلى العديد من الدول العربية، وتواصل دراستها في الجامعة الأميركية في بيروت وتدرس الأدبين، العربي والإنجليزي، وجامعة لندن. وتنقلت بين الأردن ولبنان والكويت والسودان والجزائر والولايات المتحدة وكندا. وقد ألقى هذا الارتحال، من بلد إلى بلد، بظلاله على تجربة سلمى الخضرا الشعرية والنقدية، والأدبية بصورة عامة. فقد تفتح وعيها بأثر من النكبة، وانهيار المجتمع الفلسطيني، وتفككه، وتشرده، ودفعها الوعي بالكارثة إلى السعي للتعلُّم والمعرفة وتطوير الذات، وبحثت للمرأة الفلسطينية عن مكان لها تحت شمس في عالم أدار ظهره للفلسطينيين، وخصوصًا للمرأة التي وقع على كاهلها عبء النكبة، إذ كان عليها أن تربي جيلاً من المقتلعين والمشردين، الذين ضاعت أرضهم، وجردوا من هويتهم الوطنية. وعلى الرغم من أن سلمى الجيوسي ابنة عائلة برجوازية، وكان والدها صبحي الخضرا أحد أعيان فلسطين، ومن قادة حركتها القومية، إلا أن ذلك لم يخفف من عبء النفي، والاقتلاع، وافتقاد الهوية، العبء الذي شكَّل حياة الفلسطينيين، وصنع أقدارهم، وصاغ وعيهم، وشحذ هويتهم الوطنية، على مدار زهاء قرن من الزمان.

ولا شكَّ أن من عرف سلمى الجيوسي يستطيع أن يلمس في خطابها، وحديثها اليومي، ووعيها الذاتي بفلسطينيتها أولاً، وفي كونها امرأة ثانياً، تلك الخيوط المؤسسة التي صاغت تجربتها الشخصية، والأدبية، والثقافية. فهي، وإن اهتمت بالتعريف بالأدب العربي في العالم الناطق بالإنجليزية، تضمر وعيّاً نسويّاً شديد الوضوح، منطلقة في ذلك من تجربتها الفلسطينية، وسيرتها الشخصية، ومسارها التعليمي والمعرفي. كما أنها نموذج بارز، ومتألق، للمرأة الفلسطينية التي استطاعت أن تتغلَّب على آلام الاقتلاع، وفقدان الوطن، وتواصلَ العيش في عالم معادٍ، يميز ضد الفلسطينيين، كما يميز ضد المرأة.

إنطلاقًا من هذا الوعي بتجربة سلمى الخضرا الجيوسي، يمكن النظر إلى معظم ما أنجزته، من شعر، ونقد، وبحث، وترجمة، وعمل أكاديمي، وموسوعي... وفي مقدّم ذلك كله، مشروعها الكبير الذي أسسته عام 1980 لترجمة الأدب العربي إلى الإنجليزية (بروتا). فقد نشرت مجموعتها الشعرية الأولى "العودة من النبع الحالم" عام 1960، ولم تنشر بعدها سوى قصائد متفرقة قامت بجمعها ونشرها عام 2021 في عنوان "صفونا مع الدهر" (الدار الأهلية للنشر، عمان). ففي "العودة من النبع الحالم" تتقاطع رياح التغيير في الشعر العربي، في خمسينيات القرن الماضي، مع الرغبة في التطوير الشكلي، والانعتاق من أسر القوالب والتقاليد الشعرية التي كبلت الشعر العربي طوال قرون، وفي إتاحة المجال للفرديَّة الذاتية للتعبير عن نفسها، بفضل الاحتكاك بالشعريات العالمية الوافدة إلى العالم العربي، من خلال الاطلاع الشخصي، أو عبر الترجمة.

وينبغي أن نشير هنا أنَّ سلمى الجيوسي كانت قريبة من جماعة "شعر" في ستينيات القرن الماضي، وقد نشرت بعض قصائدها في مجلة "شعر"، وكذلك مقالاتها النقدية. وهو ما أثَّر، من دون شك، في رؤيتها الشعرية، ووعيها النقدي، ودور الحداثة في الخروج من الهزيمة التي تعرَّض لها الفلسطينيون خاصةً، والعرب عامةً، في مرحلة النكبة. أما على صعيد الكتابة الشعرية، فيمكن أن نلحظ لدى سلمى الجيوسي تأثيرات الشعراء الرواد، وعلى رأسهم بدر شاكر السياب، الذي ترجع قصائده صداها واضحًا في "العودة من النبع الحالم"، سواء على صعيد الإيقاعات، والنبرة، وحتى الموضوعات. كما يمكن أن نلحظ تواصل عوالم سلمى الشعرية مع شعر مواطنتها الفلسطينية فدوى طوقان (1917- 2003)، خصوصاً في مجموعتيها الشعريتين: "وحدي مع الأيام" (1952)، و"وجدتها" (1957)، مع نبرة تموزيَّة خفيضة الصوت حيناً، وعالية أحيانًا أخرى، فلا بدَّ أنها تسربت إليها من احتكاكها بشعر السياب، بصورة أساسية، وكذلك شعر خليل حاوي، وأدونيس، ونذير العظمة. في خضم هذه التأثيرات، والتقاطعات، ورياح التغير التي هبت على القصيدة العربية في خمسينيات القرن الماضي، تسعى الشاعرة إلى التعبير عن فرديَّتها كامرأة عربية تعيش في مجتمع ما قبل حداثي، وفلسطينية تعيش آلام أهلها المنكوبين الذين فقدوا وطنهم وهويتهم. ويبدو عنوان المجموعة الشعرية "العودة من النبع الحالم" عتبة لفهم التجربة الوجودية التي تنطلق منها قصائد المجموعة، في سعيها إلى تصوير المفارقة التي تسم حياة الفلسطينيين، وانتقالهم من زمن الطمأنينة، وثبات الأرض والجغرافيا تحت أقدامهم، إلى لا يقين المنفى، ورخاوة الوجود كلاجئين، غير مرغوب فيهم، يحاولون لمّ شظايا حياتهم المهشَّمة.

"نحن من جيل اليتامى، نحن من جيل القلوب الضائعة/ أمنا قد كونتنا من جحيم الأمس، من لوعته/ من تباريح قرون هاجعة./ فإذا ما ولدتنا فوق جفن الفجر، في روعته،/ وتفتحنا وقد أعشى مآقينا السنا/ نحن لم نغتر، لم نهتف هي الدنيا لنا/ حلوة، غرّاء، نشوى، رائعة/ بل عرفنا حظنا/ ورمينا العمر في ميعته/ بين فكي الحياة الجائعة".

رغم أهمية التباشير الأولى لتجربة سلمى الخضرا الجيوسي الشعرية، ورغبتها في كتابة شعر يخالف السائد، ويعيد النظر في أهمية الأوزان، والإيقاعات، وحتى الموضوعات الشعرية، فقد شكَّلت دراستها الأكاديمية في جامعة لندن، وأطروحتها التي قدمتها لنيل شهادة الدكتوراه، ونشرتها في ما بعد، باللغة الإنجليزية، في عنوان Trends and Movements in Modern Arabic Poetry "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، في مجلدين كبيرين، (1977)، انعطافة في حياتها الأدبية والثقافية، وانشغالاتها اللاحقة، مما وضع اسم الشاعرة والناقدة الفلسطينية ضمن كوكبة الأسماء القليلة التي نظَّرت للقصيدة العربية الحديثة، ورسَّخت حضور الشكل الجديد لهذه القصيدة (إحسان عباس، محمد مندور، محمد النويهي، عز الدين إسماعيل، من بين آخرين). فكتابها "الاتجاهات والحركات.." (ترجمه الناقد والمترجم العراقي عبد الواحد لؤلؤة إلى العربية عام 2007)، يدرس تطور الشعر العربي منذ عصر النهضة، حتى بداية سبعينيات القرن الماضي، مؤكدًا التطورات الشكليَّة والانزياحات التي أصابت شكل القصيدة العربية في العصر الحديث، على صعيد النبرة، والإيقاع، والأوزان، والموضوعات.

وترى الباحثة أن التطور الذي أصاب جسد القصيدة العربية لم يكن نابعاً كله من الحاجات والتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية، بل كان نابعاً بالأساس من الحاجات الفنية الشكليًّة، وما يمكن أن نسميه الإرهاق الجمالي الذي يصيب جسد القصيدة، فتنحو إلى التغير، والتبدُّل، والبحث للتعبير الشعري عن مسارب جديدة. ولا شكَّ أن نقل عبد الواحد لؤلؤة لهذا الكتاب النقدي الأكاديمي حول الشعر العربي، بعد ثلاثة عقود من نشره بالإنجليزية، يجعلنا نعيد النظر في كثير من الكتابات النقدية التي تلقي الضوء على تطور القصيدة العربية المعاصرة، وعلى طبيعة الانتهاكات الشكلية، وتحولات التعبير الشعري العربي، على مدار ما يقرب من قرن. واللافت أيضا في جهدها الموسوعي وضعها أهم موسوعة عن الأدب الفلسطيني المعاصر، شعرا وسرداً، وتعد هذه الموسوعة المرجع الشامل شبه الوحيد للإطلاع على هذا الأدب وقراءة مختارات منه (المؤسسة العربية).

يمكن النظر إلى مسار تجربة سلمى الخضرا الجيوسي، الشخصية، والثقافية، بوصفها انخراطاً شاملاً، وسعياً إلى التأثير في الواقع الاجتماعي، والثقافي، والحضاري، للعالم العربي. فهي، إلى جانب كونها شاعرة، وناقدة، مترجمة بارعة، ومحررة لعدد من الموسوعات والأنطولوجيات حول الأدب العربي، التي نشرت باللغة الإنجليزية، وترجم بعضها إلى اللغة العربية. فقد نقلت إلى العربية عددًا من الأعمال الأدبية، والنقدية الكبيرة: "إنجازات الشعر الأميركي في نصف قرن" للويز بوغان (1960)، و"إنسانية الإنسان" لرالف بارتون باري (1961)، و"جوستين" و"بالتازار" (وهما الجزءان الأولان من "رباعية الاسكندرية" للورنس داريل 1962).

لكن مأثرتها الكبرى تتمثَّل في أعمالها الموسوعية، وأنطولوجياتها، حول الشعر والثقافة العربيين، التي نشرتها بالإنجليزية عن أهم دور النشر الأكاديمية في العالم. لقد وضعت سلمى بعض جوانب الثقافة العربية، وكذلك الشعر، والقصة، والمسرح، الذي أنجزه العرب المعاصرون، في دائرة الضوء، لقراء اللغة الإنجليزية، في ترجمات جرى إعدادها، وتحريرها، وكتابة مقدمات ضافية لها، بحيث تكون مراجع لا غنى عنها لمن يريد متابعة الاطلاع على الثقافة والأدب العربيين. ويقف على رأس هذه الأعمال الموسوعية كتابها الضخم The Legacy of Muslim Spain (1992)، وقد شارك فيه عدد كبير من المختصين بحضارة الأندلس، من أنحاء عديدة من العالم، وكتبت له سلمى مقدمة ضافية تلخص الدور الحضاري العالمي الذي لعبته الأندلس المسلمة طوال ثمانية قرون. وقد تمت ترجمة هذا الكتاب إلى العربية، في جزأين، من قبل فريق من المترجمين، بإشراف سلمى الجيوسي، في عنوان "الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس" (1998 مركز دراسات الوحدة العربية)، وشاركت شخصيًّا في ترجمة عدد وافر من دراساته.

إلى جانب هذا الكتاب الشديد الأهمية، قامت الكاتبة والمترجمة والباحثة الراحلة بإعداد أنطولوجيات كبيرة عن "الشعر العربي الحديث" (1987)، و"أدب الجزيرة العربية" (1988)، و"الأدب الفلسطيني الحديث" (1992). و"المسرح العربي الحديث" (1995)، و"مسرحيات عربية قصيرة" (2003)، و"الرواية العربية الحديثة" (2004)، إضافة إلى أعمال موسوعية أخرى، وترجمات لروايات ومسرحيات ومجموعات شعرية، أشرفت على ترجمتها، وكتبت مقدمات نقدية متميزة لها. وهي بذلك عملت على وصل الثقافة العربية بثقافات العالم، من خلال الترجمة إلى الإنجليزية، كما فعلت من قبل حين وصلت ثقافات العالم بالثقافة العربية، من خلال الترجمة من الإنجليزية إلى العربية. لقد أنجزت سلمى، تلك المرأة الفلسطينية العظيمة، للثقافة والأدب العربيين، ما لم تصنعه مؤسسات عربية كبيرة، لديها من المال والإمكانات، أكثر مما حازته سلمى الخضرا الجيوسي.

فازت الجيوسي بجوائز عربية وعالمية عدة، من بينها جائزة الشيخ زايد وجائزة العوييس وأخيرا جائزة محمود درويش قبل شهرين.

· عن الاندبندنت